فلما ذكر الله هذه المعبودات الثلاثة معجبا منها ومن عبادتها كما تفيد صيغة السؤال ولفظه:
أفرأيتم اللات والعزى. ومناة الثالثة الأخرى؟ ..
والتعجيب والتشهير واضح في افتتاح السؤال: "أفرأيتم؟" وفي الحديث عن مناة.. الثالثة الأخرى..
لما ذكر الله هذه المعبودات عقب عليها باستنكار دعواهم أن لله الإناث وأن لهم الذكور:
ألكم الذكر وله الأنثى؟ تلك إذا قسمة ضيزى ..
مما يوحي بأن لهذه المعبودات صلة بأسطورة أنوثة الملائكة، ونسبتها إلى الله سبحانه. مما يرجح ما ذكرناه عنها. وقد كانوا هم يكرهون ولادة البنات لهم. ومع هذا لم يستحيوا أن يجعلوا الملائكة إناثا - وهم لا يعلمون عنهم شيئا يلزمهم بهذا التصور. وأن ينسبوا هؤلاء الإناث إلى الله!
والله - سبحانه - يأخذهم هنا بتصوراتهم وأساطيرهم; ويسخر منها ومنهم: ألكم الذكر وله الأنثى؟ .. إنها إذن قسمة غير عادلة قسمتكم بين أنفسكم وبين الله! تلك إذا قسمة ضيزى! ..
والمسألة كلها وهم لا أساس له من العلم ولا من الواقع. ولا حجة فيها ولا دليل:
إن هي إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان. إن يتبعون إلا الظن وما تهوى الأنفس. ولقد جاءهم من ربهم الهدى !
هذه الأسماء. اللات. العزى. مناة.. وغيرها. وتسميتها آلهة وتسميتها ملائكة. وتسمية الملائكة إناثا. وتسمية الإناث بنات الله... كلها أسماء لا مدلول لها، ولا حقيقة وراءها. ولم يجعل الله لكم حجة فيها. وكل ما لم يقرره الله فلا قوة فيه ولا سلطان له. لأنه لا حقيقة له. وللحقيقة ثقل. وللحقيقة قوة. وللحقيقة سلطان فأما الأباطيل فهي خفيفة لا وزن لها. ضعيفة لا قوة لها. مهينة لا سلطان فيها.
وفي منتصف الآية يتركهم وأوهامهم وأساطيرهم، ويترك خطابهم، ويلتفت عنهم كأنهم لا وجود لهم، ويتحدث عنهم بصيغة الغائب: إن يتبعون إلا الظن وما تهوى الأنفس .. فلا حجة ولا علم ولا يقين. إنما هو الظن يقيمون عليه العقيدة، والهوى يستمدون منه الدليل. والعقيدة لا مجال فيها للظن والهوى; ولا بد فيها من والتجرد من الهوى والغرض.. وهم لم يتبعوا الظن والهوى ولهم عذر أو علة: اليقين القاطع ولقد جاءهم من ربهم الهدى .. فانقطع العذر وبطل التعلل!
[ ص: 3409 ] ومتى انتهى الأمر إلى شهوة النفس وهواها فلن يستقيم أمر، ولن يجدي هدى; لأن العلة هنا ليست خفاء الحق، ولا ضعف الدليل. إنما هي الهوى الجامح الذي يريد، ثم يبحث بعد ذلك عن مبرر لما يريد! وهي شر حالة تصاب بها النفس فلا ينفعها الهدى، ولا يقنعها الدليل!
ومن ثم يسأل في استنكار:
أم للإنسان ما تمنى؟ ..
فكل ما يتمنى يتحول إلى حقيقة وكل ما يهوى ينقلب إلى واقع! والأمر ليس كذلك. فإن الحق حق والواقع واقع. وهوى النفس ومناها لا يغيران ولا يبدلان في الحقائق. إنما يضل الإنسان بهواه، ويهلك بمناه. وهو أضعف من أن يغير أو يبدل في طبائع الأشياء. وإنما الأمر كله لله يتصرف فيه كما يشاء في الدنيا وفي الآخرة سواء:
فلله الآخرة والأولى ..
ولا ننسى أن نلحظ هنا تقديم الآخرة على الأولى. لمراعاة قافية السورة وإيقاعها. إلى جانب النكتة المعنوية المقصودة بتقديم الآخرة على الأولى. كما هي طبيعة الأسلوب القرآني في الجمع بين أداء المعنى وتنغيم الإيقاع. دون إخلال بهذا على حساب ذاك! شأنه شأن كل ما هو من صنع الله. فالجمال في الكون كله يتناسق مع الوظيفة ويؤاخيها!
وإذا خلص الأمر كله لله في الآخرة والأولى. فإن أوهام المشركين عن شفاعة الآلهة المدعاة - من الملائكة - لهم عند الله. كما قالوا: ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى .. إن هذه الأوهام لا أصل لها. فالملائكة الحقة في السماء لا تملك الشفاعة إلا حين يأذن الله في شيء منها:
وكم من ملك في السماوات لا تغني شفاعتهم شيئا. إلا من بعد أن يأذن الله لمن يشاء ويرضى ..
ومن ثم تسقط دعواهم من أساسها، فوق ما فيها من بطلان تولى تفنيده في الآيات السابقة. وتتجرد العقيدة من كل غبش أو شبهة. فالأمر لله في الآخرة والأولى. ومنى الإنسان لا تغير من الحق الواقع شيئا. والشفاعة لا تقبل إلا بإذن من الله ورضى. فالأمر إليه في النهاية. والاتجاه إليه وحده في الآخرة والأولى.
وفي نهاية الفقرة يناقش للمرة الأخيرة أوهام المشركين - الذين لا يؤمنون بالآخرة - عن الملائكة; ويكشف عن أساسها الواهي، الذي لا ينبغي أن تقوم عليه عقيدة أصلا:
إن الذين لا يؤمنون بالآخرة ليسمون الملائكة تسمية الأنثى. وما لهم به من علم. إن يتبعون إلا الظن، وإن الظن لا يغني من الحق شيئا ..
وهذا التعقيب الأخير يوحي بعلاقة اللات والعزى ومناة بأسطورة أنوثة الملائكة ونسبتهم إلى الله سبحانه! وهي أسطورة واهية، لا يتبعون فيها إلا الظن. فليس لهم من وسيلة لأن يعلموا شيئا مستيقنا عن فأما نسبتهم إلى الله. فهي الباطل الذي لا دليل عليه إلا الوهم الباطل! وكل هذا لا يغني من الحق، ولا يقوم مقامه في شيء. الحق الذي يتركونه ويستغنون عنه بالأوهام والظنون! طبيعة الملائكة.
وحين يبلغ إلى هذا الحد من بيان وهن عقيدة الشرك وتهافتها عند الذين لا يؤمنون بالآخرة، ويشركون بالله، وينسبون له البنات ويسمون الملائكة تسمية الأنثى! يتجه بالخطاب إلى الرسول - صلى الله عليه وسلم - [ ص: 3410 ] ليهمل شأنهم ويعرض عنهم، ويدع أمرهم لله الذي يعلم المسيء والمحسن، ويجزي المهدي والضال، ويملك أمر السماوات والأرض، وأمر الدنيا والآخرة، ويحاسب بالعدل لا يظلم أحدا، ويتجاوز عن الذنوب التي لا يصر عليها فاعلوها. وهو والطوايا، لأنه خالق البشر المطلع على حقيقتهم في أطوار حياتهم جميعا: الخبير بالنوايا
فأعرض عن من تولى عن ذكرنا ولم يرد إلا الحياة الدنيا. ذلك مبلغهم من العلم. إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بمن اهتدى. ولله ما في السماوات وما في الأرض ليجزي الذين أساءوا بما عملوا، ويجزي الذين أحسنوا بالحسنى. الذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش - إلا اللمم - إن ربك واسع المغفرة. هو أعلم بكم إذ أنشأكم من الأرض، وإذ أنتم أجنة في بطون أمهاتكم. فلا تزكوا أنفسكم. هو أعلم بمن اتقى ..
هذا الأمر بالإعراض عمن تولى عن ذكر الله، ولم يؤمن بالآخرة، ولم يرد إلا الحياة الدنيا. موجه ابتداء إلى الرسول - صلى الله عليه وسلم - ليهمل شأن أولئك المشركين الذين سبق الحديث في السورة عن أساطيرهم وأوهامهم وعدم إيمانهم بالآخرة.
وهو موجه بعد ذلك إلى كل مسلم يواجهه من يتولى عن ذكر الله ويعرض عن الإيمان به; ويجعل وجهته الحياة الدنيا وحدها، لا ينظر إلى شيء وراءها، ولا يؤمن بالآخرة ولا يحسب حسابها. ويرى أن حياة الإنسان على هذه الأرض هي غاية وجوده، لا غاية بعدها; ويقيم منهجه في الحياة على هذا الاعتبار، فيفصل ضمير الإنسان عن الشعور بإله يدبر أمره، ويحاسبه على عمله، بعد رحلة الأرض المحدودة، وأقرب من تتمثل فيه هذه الصفة في زماننا هذا هم أصحاب المذاهب المادية.
والمؤمن بالله وبالآخرة لا يستطيع أن يشغل باله - فضلا على أن يعامل أو يعايش - من يعرض عن ذكر الله، وينفي الآخرة من حسابه. لأن لكل منهما منهجا في الحياة لا يلتقيان في خطوة واحدة من خطواته، ولا في نقطة واحدة من نقاطه. وجميع مقاييس الحياة، وجميع قيمها، وجميع أهدافها، تختلف في تصور كل منهما. فلا يمكن إذن أن يتعاونا في الحياة أي تعاون، ولا أن يشتركا في أي نشاط على هذه الأرض. مع هذا الاختلاف الرئيسي في تصور قيم الحياة وأهدافها ومناهج النشاط فيها، وغاية هذا النشاط. وما دام التعاون والمشاركة متعذرين فما داعي الاهتمام والاحتفال؟ إن المؤمن يعبث حين يحفل شأن هؤلاء الذين يعرضون عن ذكر الله ولا يريدون إلا الحياة الدنيا. وينفق طاقته التي وهبه الله إياها في غير موضعها.
على أن للإعراض اتجاها آخر، هو التهوين من شأن هذه الفئة. فئة الذين لا يؤمنون بالله; ولا يبتغون شيئا وراء الحياة الدنيا. فمهما كان شأنهم فهم محجوبون عن الحقيقة، قاصرون عن إدراكها، واقفون وراء الأسوار. أسوار الحياة الدنيا.. ذلك مبلغهم من العلم . وهو مبلغ تافه مهما بدا عظيما. قاصر مهما بدا شاملا. مضلل مهما بدا هاديا. وما يمكن أن يعلم شيئا ذا قيمة من يقف بقلبه وحسه وعقله عند حدود هذه الأرض. ووراءها - حتى في رأي العين - عالم هائل لم يخلق نفسه. ووجوده هكذا أمر ترفضه البداهة. ولم يوجد عبثا متى كان له خالق. وإنه لعبث أن تكون الحياة الدنيا هي نهاية هذا الخلق الهائل وغايته.. فإدراك حقيقة هذا الكون من أي طرف من أطرافها كفيل بالإيمان بالخالق. وكفيل كذلك بالإيمان بالآخرة. نفيا للعبث عن هذا الخالق العظيم الذي يبدع هذا الكون الكبير.
ومن ثم يجب الإعراض عمن يتولى عن ذكر الله ويقف عند حدود الدنيا، الإعراض على سبيل صيانة [ ص: 3411 ] الاهتمام أن يبذل في غير موضعه والإعراض على سبيل التهوين والاحتقار لمن هذا مبلغ علمه. ونحن مأمورون بهذا إن أردنا أن نتلقى أمر الله لنطيعه. لا لنقول كما قالت يهود: سمعنا وعصينا.. والعياذ بالله من هذا!
إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بمن اهتدى ..
وقد علم أن هؤلاء ضالون. فلم يرد لنبيه ولا للمهتدين من أمته أن يشغلوا أنفسهم بشأن الضالين. ولا أن يصاحبوهم. ولا أن يحفلوهم. ولا أن يخدعوا في ظاهر علمهم المضلل القاصر، الذي يقف عند حدود الحياة الدنيا. ويحول بين الإدراك البشري والحقيقة الخالصة، التي تقود من يدركها إلى الإيمان بالله، والإيمان بالآخرة، وتتخطى به حدود هذه الأرض القريبة، وهذه الحياة الدنيا المحدودة.
وإن العلم الذي يبلغه هؤلاء القاصرون الضالون ليبدو في أعين العوام وأشباههم، عوام القلب والإدراك والحس، شيئا عظيما ذا فاعلية وأثر في واقع الحياة الدنيا. ولكن هذا لا ينفي صفة الضلال عنهم في النهاية، ولا صفة الجهل والقصور. فحقيقة الارتباط بين هذا الوجود وخالقه. وحقيقة الارتباط بين عمل الإنسان وجزائه. هاتان الحقيقتان ضروريتان لكل علم حق. وبدونهما يبقى العلم قشورا لا تؤثر في حياة الإنسان ولا ترقيها ولا ترفعها. وقيمة كل علم مرهونة بأثره في النفس وفي ارتباطات البشر الأدبية. وإلا فهو تقدم في الآلات وانتكاس في الآدميين. وما أبأسه من علم هذا الذي ترتقي فيه الآلات على حساب الآدميين!!!
وشعور الإنسان بأن له خالقا خلقه وخلق هذا الكون كله، وفق ناموس واحد متناسق. يغير من شعوره بالحياة، وشعوره بما حوله وبمن حوله; ويجعل لوجوده قيمة وهدفا وغاية أكبر وأشمل وأرفع، لأن وجوده مرتبط بهذا الكون كله; فهو أكبر من ذاته المعدودة الأيام. وأكبر من أسرته المعدودة الأفراد وأكبر من قومه، وأكبر من وطنه وأكبر من طبقته التي يطنطن بها أصحاب المذاهب المادية الحديثة. وأرفع من اهتمامات هذه التشكيلات جميعا!
وشعور الإنسان بأن خالقه محاسبه في الآخرة ومجازيه. يغير من تصوراته ومن موازينه ومن حوافزه ومن أهدافه. ويربط الحاسة الأخلاقية في نفسه بمصيره كله، فيزيدها قوة وفاعلية. لأن هلاكه أو نجاته مرهونة بيقظة هذه الحاسة وتأثيرها في نيته وعمله. ومن ثم يقوى الإنسان ، ويسيطر على تصرفات هذا الكائن. لأن الرقيب الحارس قد استيقظ! ولأن الحساب الختامي ينتظره هناك. ومن الناحية الأخرى فهو مطمئن إلى الخير واثق من انتصاره في الحساب الختامي. حتى لو رآه ينهزم في الأرض في بعض الجولات! وهو مكلف دائما أن ينصر الخير ويكافح في سبيله سواء هزم في هذه الأرض أم انتصر لأن الجزاء النهائي هناك!
إنها مسألة كبيرة هذا الإيمان بالله والإيمان بالآخرة. مسألة أساسية في حياة البشر. إنها حاجة أكبر من حاجات الطعام والشراب والكساء. وإنها إما أن تكون فيكون الإنسان وإما ألا تكون فهو حيوان من ذلك الحيوان!
وحين تفترق المعايير والأهداف والغايات وتصور الحياة كلها هذا الاختلاف، فلا مجال حينئذ إلى مشاركة أو تعامل أو حتى تعارف ينشأ عنه قسط من الاهتمام.
ومن ثم لا يمكن أن تقوم علاقة أو صحبة أو شركة أو تعاون، أو أخذ وعطاء، أو اهتمام واحتفال بين مؤمن بالله، وآخر أعرض عن ذكره ولم يرد إلا الحياة الدنيا. وكل قول غير هذا فهو محال ومراء، يخالف عن أمر الله: فأعرض عن من تولى عن ذكرنا ولم يرد إلا الحياة الدنيا ..