ومن حقيقة البقاء الدائم وراء الخلق الفاني، تنبثق حقيقة أخرى.. فكل أبناء الفناء إنما يتجهون في كل ما يقوم بوجودهم إلى الواحد الأحد الفرد الصمد الحي القيوم:
يسأله من في السماوات والأرض، كل يوم هو في شأن. فبأي آلاء ربكما تكذبان؟ .
يسأله من في السماوات والأرض، فهو مناط السؤال; وغيره لا يسأل لأنه فان لا يتعلق به سؤال.. يسألونه وهو وحده الذي يستجيب، وقاصده وحده هو الذي لا يخيب. وما يتجه أحد إلى سواه إلا حين يضل عن مناط السؤال ومعقد الرجاء ومظنة الجواب. وماذا يملك الفاني للفاني وماذا يملك المحتاج للمحتاج؟
وهو - سبحانه - كل يوم هو في شأن. وهذا الوجود الذي لا تعرف له حدود، كله منوط بقدره، متعلق بمشيئته، وهو قائم بتدبيره. هذا التدبير الذي يتناول الوجود كله جملة; ويتناول كل فرد فيه على حدة ويتناول كل عضو وكل خلية وكل ذرة. ويعطي كل شيء خلقه، كما يعطيه وظيفته، ثم يلحظه وهو يؤدي وظيفته.
هذا التدبير الذي يتبع ما ينبت وما يسقط من ورقة، وما يكمن من حبة في ظلمات الأرض، وكل رطب وكل يابس. يتبع الأسماك في بحارها، والديدان في مساربها، والحشرات في مخابئها. والوحوش في أوكارها، والطيور في أعشاشها. وكل بيضة وكل فرخ. وكل جناح. وكل ريشة. وكل خلية في جسم حي.
وصاحب التدبير لا يشغله شأن عن شأن، ولا يند عن علمه ظاهر ولا خاف..
ومن هذا الشأن شأن العباد في الأرض من إنس وجن. ومن ثم فهو يواجههما بهذه النعمة مواجهة التسجيل والإشهاد: فبأي آلاء ربكما تكذبان؟ ..
وبتقرير حقيقة البقاء وراء الفناء، وما ينبثق منها من حقيقة الاتجاه الكلي إلى الواحد الباقي، وتعلق مشيئته - سبحانه - بشئون الخلائق وتقديرها وتدبيرها، فضلا منه ومنة على العباد..
بتقرير هذه الحقيقة الكلية وما ينبثق عنها من حقائق ينتهي الاستعراض الكوني، ومواجهة الجن والإنس به; ويبدأ مقطع جديد. فيه تهديد وفيه وعيد. تهديد مرعب مفزع، ووعيد مزلزل مضعضع. تمهيدا لهول القيامة الذي يطالع الثقلين في سياق السورة بعد ذاك:
سنفرغ لكم أيه الثقلان. فبأي آلاء ربكما تكذبان؟ يا معشر الجن والإنس إن استطعتم أن تنفذوا من أقطار السماوات والأرض فانفذوا. لا تنفذون إلا بسلطان. فبأي آلاء ربكما تكذبان؟ يرسل عليكما شواظ من نار ونحاس فلا تنتصران. فبأي آلاء ربكما تكذبان؟ ..
سنفرغ لكم أيه الثقلان ..
يا للهول المرعب المزلزل، الذي لا يثبت له إنس ولا جان. ولا تقف له الجبال الرواسي ولا النجوم والأفلاك!
[ ص: 3456 ] الله. جل جلاله. الله القوي القادر، القهار الجبار، الكبير المتعال. الله - سبحانه - يفرغ لحساب هذين الخلقين الضعيفين الصغيرين: الجن والإنس، في وعيد وانتقام!
إنه أمر. إنه هول. إنه فوق كل تصور واحتمال!
والله - سبحانه - ليس مشغولا فيفرغ. وإنما هو تقريب الأمر للتصور البشري. وإيقاع الوعيد في صورة مذهلة مزلزلة، تسحق الكيان بمجرد تصورها سحقا. فهذا الوجود كله نشأ بكلمة. كلمة واحدة. كن فيكون. وتدميره أو سحقه لا يحتاج إلا واحدة كلمح بالبصر.. فكيف يكون حال الثقلين، والله يفرغ لهما وحدهما، ليتولاهما بالانتقام؟!
وفي ظل هذا الهول الرعيب يسأل الثقلين المسكينين: فبأي آلاء ربكما تكذبان؟ !
ثم يمضي في الإيقاع المرعب المزلزل، يتحداهما أن ينفذا من أقطار السماوات والأرض:
يا معشر الجن والإنس إن استطعتم أن تنفذوا من أقطار السماوات والأرض فانفذوا ..
وكيف؟ وأين؟
لا تنفذون إلا بسلطان .
ولا يملك السلطان إلا صاحب السلطان..
ومرة أخرى يواجههما بالسؤال: فبأي آلاء ربكما تكذبان ؟
وهل بقي في كيانهما شيء يكذب أو يهم بمجرد النطق والبيان؟!
ولكن الحملة الساحقة تستمر إلى نهايتها، والتهديد الرعيب يلاحقهما، والمصير المردي يتمثل لهما:
يرسل عليكما شواظ من نار ونحاس فلا تنتصران ..
فبأي آلاء ربكما تكذبان؟ !
إنها صورة من الهول فوق مألوف البشر - وفوق مألوف كل خلق - وفوق تصور البشر وتصور كل خلق. وهي صورة فريدة، وردت لها نظائر قليلة في القرآن، تشبهها ولا تماثلها. كما قال تعالى مرة: وذرني والمكذبين أولي النعمة .. وكما قال: ذرني ومن خلقت وحيدا .. وما يزال قوله تعالى: سنفرغ لكم أيه الثقلان .. أعنف وأقوى وأرعب وأدهى..
ومن هنا إلى نهاية السورة تبدأ مشاهد اليوم الآخر. مشهد الانقلاب الكوني يوم القيامة. وما يعقبه من مشاهد الحساب. ومشاهد العذاب والثواب.
ويبدأ استعراض هذه المشاهد بمشهد كوني يتناسب مع مطالع السورة ومجالها الكوني:
فإذا انشقت السماء فكانت وردة كالدهان .
وردة حمراء، سائلة كالدهان.. ومجموع الآيات التي وردت في صفة الكون يوم القيامة تشير كلها إلى وقوع دمار كامل في هذه الأفلاك والكواكب، بعد انفلاتها من النسق الذي يحكمها الآن، وينسق بين مداراتها وحركاتها. منها هذه الآية. ومنها: إذا رجت الأرض رجا، وبست الجبال بسا، فكانت هباء منبثا .. ومنها: فإذا برق البصر، وخسف القمر، وجمع الشمس والقمر .. ومنها: إذا الشمس كورت، وإذا النجوم انكدرت، وإذا الجبال سيرت. وإذا العشار عطلت. وإذا الوحوش حشرت. وإذا البحار سجرت .. [ ص: 3457 ] ومنها: إذا السماء انفطرت، وإذا الكواكب انتثرت. وإذا البحار فجرت .. ومنها: إذا السماء انشقت، وأذنت لربها وحقت. وإذا الأرض مدت، وألقت ما فيها وتخلت، وأذنت لربها وحقت .. وهذه وغيرها تشير إلى ذلك الحادث الهائل الذي سيقع في الكون كله. ولا يعلم حقيقته إلا الله..
فإذا انشقت السماء فكانت وردة كالدهان .. فبأي آلاء ربكما تكذبان؟ ولا تكذيب عندئذ ولا نكران..
فيومئذ لا يسأل عن ذنبه إنس ولا جان .. وذلك في موقف من مواقف ذلك اليوم المشهود. الذي ستكون فيه مواقف شتى. منها ما يسأل فيه العباد، ومنها ما لا يسألون فيه عن شيء. ومنها ما تجادل كل نفس عن نفسها، وما تلقي به التبعة على شركائها، ومنها ما لا يسمح فيه بكلمة ولا جدال ولا خصام! فهو يوم طويل مديد. وكل موقف من مواقفه هائل مشهود.
وهنا موقف: لا يسأل عن ذنبه إنس ولا جان. ذلك حين تعرف صفة كل فرد وعمله. وتبدو في الوجوه معالم الشقوة سوادا، ومعالم النجوة بياضا، ويظهر هذا وذاك في سيما الوجوه. ففي هذا الموقف هل من تكذيب ونكران: فبأي آلاء ربكما تكذبان؟ !
يعرف المجرمون بسيماهم فيؤخذ بالنواصي والأقدام .
وهو مشهد عنيف ومع العنف الهوان. حيث تجمع الأقدام إلى الجباه، ثم يقذف المجرمون على هذه الهيئة إلى النار.. فهل حينذلك من تكذيب أو نكران؟
وبينما المشهد معروض، والأخذ بالنواصي والأقدام والقذف في النار مستمر، يلتفت السياق إلى شهود هذا الاستعراض، وكأنهم حاضرون عند تلاوة السورة فيقول لهم:
هذه جهنم التي يكذب بها المجرمون .. هذه هي حاضرة معروضة - كما ترون - يطوفون بينها وبين حميم آن .. متناه في الحرارة كأنه الطعام الناضج على النار! وهم يتراوحون بين جهنم وبين هذا السائل الآني. انظروا إنهم يطوفون الآن! فبأي آلاء ربكما تكذبان؟ !
هذه ضفة العذاب الأليم. والآن إلى ضفة النعيم والتكريم:
ولمن خاف مقام ربه جنتان ..
وللمرة الأولى - فيما مر بنا من سور القرآن - تذكر الجنتان. والأظهر أنهما ضمن الجنة الكبيرة المعروفة! ولكن اختصاصهما هنا بالذكر قد يكون لمرتبتهما. وسيأتي في سورة الواقعة أن أصحاب الجنة فريقان كبيران: هما السابقون المقربون. وأصحاب اليمين. ولكل منهما نعيم. فهنا كذلك نلمح أن هاتين الجنتين هما لفريق ذي مرتبة عالية. وقد يكون فريق السابقين المقربين المذكورين في سورة الواقعة. ثم نرى جنتين أخريين من دون هاتين. ونلمح أنهما لفريق يلي ذلك الفريق. وقد يكون هو فريق أصحاب اليمين.
على أية حال فلنشهد الجنتين الأوليين، ولنعش فيهما لحظات!
إنهما ذواتا أفنان .. والأفنان الأغصان الصغيرة الندية. فهما ريانتان نضرتان.
فيهما عينان تجريان .. فماؤهما غزير، وسهل يسير.
فيهما من كل فاكهة زوجان .. ففاكهتهما منوعة كثيرة وفيرة.
وأهل الجنتين ما حالهم؟ إننا ننظرهم: متكئين على فرش بطائنها من إستبرق والإستبرق المخمل الحرير السميك. فكيف بظهائر هذه الفرش إذا كانت تلك بطائنها؟
[ ص: 3458 ] وجنى الجنتين دان .. قريب التناول، لا يتعب في قطاف.
ولكن هذا لا يستقصي ما فيهما من رفاهة ومتاع. فهناك بقية بهيجة لهذا المتاع:
فيهن قاصرات الطرف لم يطمثهن إنس قبلهم ولا جان .. فهن عفيفات الشعور والنظر. لا تمتد أبصارهن إلى غير أصحابهن، مصونات لم يمسسهن إنس ولا جن.
وهن - بعد هذا - ناضرات لامعات: كأنهن الياقوت والمرجان .
ذلك كله جزاء من خاف مقام ربه، وعبده كأنه يراه، شاعرا أن ربه يراه، فبلغ بذلك مرتبة الإحسان كما وصفها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فنالوا جزاء الإحسان من عطاء الرحمن:
هل جزاء الإحسان إلا الإحسان؟ وفي معرض الإنعام والإحسان، كان التعقيب يجيء في موضعه بعد كل فقرة: فبأي آلاء ربكما تكذبان؟ والآن إلى الفريق الآخر صاحب الجنتين الأخريين.
ومن دونهما جنتان .. وأوصافهما أدنى من الجنتين السابقتين. فهما:
مدهامتان .. أي مخضرتان خضرة تميل إلى السواد لما فيهما من أعشاب.
مدهامتان
.. أي مخضرتان خضرة تميل إلى السواد لما فيهما من أعشاب. فيهما عينان نضاختان .. تنضان بالماء. وهذا دون الجريان!
فيهما فاكهة ونخل ورمان .. وهناك: من كل فاكهة زوجان
فيهن خيرات حسان .. بسكون ياء خيرات أو بتشديدها على الوصف. وتأويل الخيرات بالسكون أو الخيرات بالتشديد في الآية التالية:
حور مقصورات في الخيام .. وتلقي الخيام ظل البداوة. فهو نعيم بدوي أو يمثل مطالب أهل البداوة.. والحور مقصورات. أما حور الجنتين السابقتين فهن قاصرات الطرف.
لم يطمثهن إنس قبلهم ولا جان .. فهن يشتركن مع زميلاتهن هناك في الصون والعفاف.
أما أهل هاتين الجنتين فنحن ننظرهما:
متكئين على رفرف خضر وعبقري حسان .. والرفرف الأبسطة وكأنها من صنع "عبقر" لتقريب وصفها إلى العرب، وقد كانوا ينسبون كل عجيب إلى وادي الجن: عبقر! ولكن المتكآت هناك بطائنها من إستبرق.
وهناك جنى الجنتين دان فهما مرتبتان مختلفتان!
وهناك كذلك كان التعقيب بعد كل صفة للجنتين ونعيمهما: فبأي آلاء ربكما تكذبان؟ .
وفي ختام السورة التي استعرضت آلاء الله في الكون، وآلاءه في الخلق، وآلاءه في الآخرة. يجيء الإيقاع الأخير، تسبيحا باسم الجليل الكريم، الذي يفني كل حي، ويبقى وجهه الكريم.
تبارك اسم ربك ذي الجلال والإكرام ..
أنسب ختام لسورة الرحمن..