[ ص: 3788 ] (77) سورة المرسلات مكية
وآياتها خمسون
بسم الله الرحمن الرحيم
والمرسلات عرفا (1) فالعاصفات عصفا (2) والناشرات نشرا (3) فالفارقات فرقا (4) فالملقيات ذكرا (5) عذرا أو نذرا (6) إنما توعدون لواقع (7) فإذا النجوم طمست (8) وإذا السماء فرجت (9) وإذا الجبال نسفت (10) وإذا الرسل أقتت (11) لأي يوم أجلت (12) ليوم الفصل (13) وما أدراك ما يوم الفصل (14) ويل يومئذ للمكذبين (15) ألم نهلك الأولين (16) ثم نتبعهم الآخرين (17) كذلك نفعل بالمجرمين (18) ويل يومئذ للمكذبين (19) ألم نخلقكم من ماء مهين (20) فجعلناه في قرار مكين (21) إلى قدر معلوم (22) فقدرنا فنعم القادرون (23) ويل يومئذ للمكذبين (24) ألم نجعل الأرض كفاتا (25) أحياء وأمواتا (26) وجعلنا فيها رواسي شامخات وأسقيناكم ماء فراتا (27) ويل يومئذ للمكذبين (28) انطلقوا إلى ما كنتم به تكذبون (29) انطلقوا إلى ظل ذي ثلاث شعب (30) لا ظليل ولا يغني من اللهب (31) إنها ترمي بشرر كالقصر (32) كأنه جمالت صفر (33) ويل يومئذ للمكذبين (34) هذا يوم لا ينطقون (35) ولا يؤذن لهم فيعتذرون (36) ويل يومئذ للمكذبين (37) هذا يوم الفصل جمعناكم والأولين (38) فإن كان لكم كيد فكيدون (39) ويل يومئذ للمكذبين (40) [ ص: 3789 ] إن المتقين في ظلال وعيون (41) وفواكه مما يشتهون (42) كلوا واشربوا هنيئا بما كنتم تعملون (43) إنا كذلك نجزي المحسنين (44) ويل يومئذ للمكذبين (45) كلوا وتمتعوا قليلا إنكم مجرمون (46) ويل يومئذ للمكذبين (47) وإذا قيل لهم اركعوا لا يركعون .(48) ويل يومئذ للمكذبين (49) فبأي حديث بعده يؤمنون (50)
هذه السورة حادة الملامح، عنيفة المشاهد، شديدة الإيقاع، كأنها سياط لاذعة من نار. وهي تقف القلب وقفة المحاكمة الرهيبة، حيث يواجه بسيل من الاستفهامات والاستنكارات والتهديدات، تنفذ إليه كالسهام المسنونة!
وتعرض السورة من مشاهد الدنيا والآخرة، وحقائق الكون والنفس، ومناظر الهول والعذاب ما تعرض. وعقب كل معرض ومشهد تلفح القلب المذنب لفحة كأنها من نار: ويل يومئذ للمكذبين !
ويتكرر هذا التعقيب عشر مرات في السورة. وهو لازمة الإيقاع فيها. وهو أنسب تعقيب لملامحها الحادة، ومشاهدها العنيفة، وإيقاعها الشديد.
وهذه اللازمة تذكرنا باللازمة المكررة في سورة "الرحمن" عقب عرض كل نعمة من نعم الله على العباد: " فبأي آلاء ربكما تكذبان" .. كما تذكرنا باللازمة المكررة في سورة "القمر" عقب كل حلقة من حلقات العذاب:" فكيف كان عذابي ونذر؟" .. وتكرارها هنا على هذا النحو يعطي السورة سمة خاصة، وطعما مميزا.. حادا..
وتتوالى مقاطع السورة وفواصلها قصيرة سريعة عنيفة، متعددة القوافي. كل مقطع بقافية. ويعود السياق أحيانا إلى بعض القوافي مرة بعد مرة. ويتلقى الحس هذه المقاطع والفواصل والقوافي بلذعها الخاص، وعنفها الخاص. واحدة إثر واحدة. وما يكاد يفيق من إيقاع حتى يعاجله إيقاع آخر، بنفس العنف وبنفس الشدة.
ومنذ بداية السورة والجو عاصف ثائر بمشهد الرياح أو الملائكة: والمرسلات عرفا. فالعاصفات عصفا. والناشرات نشرا فالفارقات فرقا. فالملقيات ذكرا، عذرا أو نذرا .. وهو افتتاح يلتئم مع جو السورة وظلها تمام الالتئام.
وللقرآن في هذا الباب طريقة خاصة في اختيار إطار للمشاهد في بعض السور من لون هذه المشاهد وقوتها.. وهذا نموذج منها، كما اختار إطارا من الضحى والليل إذا سجى لمشاهد الرعاية والحنان والإيواء في "سورة الضحى" وإطارا من العاديات الضابحة الصاخبة المثيرة للغبار لمشاهد بعثرة القبور وتحصيل ما في الصدور في سورة "والعاديات".. وغيرها كثير.
[ ص: 3790 ] وكل مقطع من مقاطع السورة العشرة بعد هذا المطلع، يمثل جولة أو رحلة في عالم، تتحول السورة معه إلى مساحات عريضة من التأملات والمشاعر والخواطر والتأثرات والاستجابات.. أعرض بكثير جدا من مساحة العبارات والكلمات، وكأنما هذه سهام تشير إلى عوالم شتى!
والجولة الأولى تقع في مشاهد يوم الفصل. وهي تصور الانقلابات الكونية الهائلة في السماء والأرض، وهي الموعد الذي تنتهي إليه الرسل بحسابها مع البشر: فإذا النجوم طمست. وإذا السماء فرجت. وإذا الجبال نسفت. وإذا الرسل أقتت. لأي يوم أجلت؟ ليوم الفصل. وما أدراك ما يوم الفصل؟ ويل يومئذ للمكذبين! .
والجولة الثانية مع مصارع الغابرين، وما تشير إليه من سنن الله في المكذبين: ألم نهلك الأولين؟ ثم نتبعهم الآخرين؟ كذلك نفعل بالمجرمين. ويل يومئذ للمكذبين! ..
والجولة الثالثة مع النشأة الأولى وما توحي به من تقدير وتدبير: ألم نخلقكم من ماء مهين؟ فجعلناه في قرار مكين؟ إلى قدر معلوم؟ فقدرنا فنعم القادرون. ويل يومئذ للمكذبين! ..
والجولة الرابعة في الأرض التي تضم أبناءها إليها أحياء وأمواتا، وقد جهزت لهم بالاستقرار والماء المحيي: ألم نجعل الأرض كفاتا؟ أحياء وأمواتا، وجعلنا فيها رواسي شامخات وأسقيناكم ماء فراتا؟ ويل يومئذ للمكذبين! ..
والجولة الخامسة مع المكذبين وما يلقونه يوم الفصل من عذاب وتأنيب: انطلقوا إلى ما كنتم به تكذبون. انطلقوا إلى ظل ذي ثلاث شعب! لا ظليل ولا يغني من اللهب. إنها ترمي بشرر كالقصر كأنه جمالت صفر. ويل يومئذ للمكذبين! .
والجولة السادسة والسابعة استطراد مع موقف المكذبين، ومزيد من التأنيب والترذيل: هذا يوم لا ينطقون، ولا يؤذن لهم فيعتذرون. ويل يومئذ للمكذبين! هذا يوم الفصل جمعناكم والأولين. فإن كان لكم كيد فكيدون. ويل يومئذ للمكذبين! ..
والجولة الثامنة مع المتقين، وما أعد لهم من نعيم: إن المتقين في ظلال وعيون، وفواكه مما يشتهون. كلوا واشربوا هنيئا بما كنتم تعملون. إنا كذلك نجزي المحسنين. ويل يومئذ للمكذبين! ..
والجولة التاسعة خطفة سريعة مع المكذبين في موقف التأنيب: كلوا وتمتعوا قليلا إنكم مجرمون. ويل يومئذ للمكذبين! ..
والجولة العاشرة خطفة سريعة مع المكذبين في موقف التكذيب: وإذا قيل لهم: اركعوا لا يركعون. ويل يومئذ للمكذبين! .
والخاتمة بعد هذه الجولات والاستعراضات والوخزات والإيقاعات: فبأي حديث بعده يؤمنون؟ ..
وهكذا يمضي القلب مع سياق السورة السريع، وكأنه يلهث مع إيقاعها وصورها ومشاهدها. فأما الحقائق الموضوعية في السورة فقد تكرر ورودها في سور القرآن - والمكية منها بوجه خاص - ولكن الحقائق القرآنية تعرض من جوانب متعددة، وفي أضواء متعددة، وبطعوم ومذاقات متعددة، وفق الحالات النفسية التي تواجهها، ووفق مداخل القلوب وأحوال النفوس التي يعلمها منزل هذا القرآن على رسوله، فتبدو في كل حالة [ ص: 3791 ] جديدة، لأنها تستجيش في النفس استجابات جديدة.
وفي هذه السورة جدة في مشاهد جهنم. وجدة في مواجهة المكذبين بهذه المشاهد. كما أن هناك جدة في أسلوب العرض والخطاب كله. ومن ثم تبرز شخصية خاصة للسورة. حادة الملامح. لاذعة المذاق. لاهثة الإيقاع!
والآن نستعرض السورة في سياقها القرآني بالتفصيل: