[ ص: 3873 ] والسماء ذات البروج، واليوم الموعود، وشاهد ومشهود ..
تبدأ السورة - قبل الإشارة إلى حادث الأخدود - بهذا القسم: بالسماء ذات البروج، وهي إما أن تكون أجرام النجوم الهائلة وكأنها بروج السماء الضخمة أي قصورها المبنية، كما قال: والسماء بنيناها بأيد وإنا لموسعون .. وكما قال أأنتم أشد خلقا أم السماء بناها .. وإما أن تكون هي المنازل التي تتنقل فيها تلك الأجرام في أثناء دورانها، وهي مجالاتها التي لا تتعداها في جريانها في السماء. والإشارة إليها يوحي بالضخامة. وهو الظل المراد إلقاؤه في هذا الجو.
واليوم الموعود .. وهو يوم الفصل في أحداث الدنيا، وتصفية حساب الأرض وما كان فيها. وهو الموعود الذي وعد الله بمجيئه، ووعد بالحساب والجزاء فيه; وأمهل المتخاصمين والمتقاضين إليه. وهو اليوم العظيم الذي تتطلع إليه الخلائق، وتترقبه لترى كيف تصير الأمور.
وشاهد ومشهود .. في ذلك اليوم الذي تعرض فيه الأعمال، وتعرض فيه الخلائق، فتصبح كلها مشهودة، ويصبح الجميع شاهدين.. ويعلم كل شيء. ويظهر مكشوفا لا يستره ساتر عن القلوب والعيون..
وتلتقي السماء ذات البروج، واليوم الموعود، وشاهد ومشهود.. تلتقي جميعا في إلقاء ظلال الاهتمام والاحتفال والاحتشاد والضخامة على الجو الذي يعرض فيه بعد ذلك حادث الأخدود.. كما توحي بالمجال الواسع الشامل الذي يوضع فيه هذا الحادث. وتوزن فيه حقيقته ويصفى فيه حسابه.. وهو أكبر من مجال الأرض، وأبعد من مدى الحياة الدنيا وأجلها المحدود..
وبعد رسم هذا الجو، وفتح هذا المجال، تجيء الإشارة إلى الحادث في لمسات قلائل:
قتل أصحاب الأخدود. النار ذات الوقود. إذ هم عليها قعود. وهم على ما يفعلون بالمؤمنين شهود. وما نقموا منهم إلا أن يؤمنوا بالله العزيز الحميد. الذي له ملك السماوات والأرض، والله على كل شيء شهيد ..
وتبدأ الإشارة إلى الحادث بإعلان النقمة على أصحاب الأخدود: قتل أصحاب الأخدود .. وهي كلمة تدل على الغضب. غضب الله على الفعلة وفاعليها. كما تدل على شناعة الذنب الذي يثير غضب الحليم، ونقمته، ووعيده بالقتل لفاعليه.
ثم يجيء تفسير الأخدود: النار ذات الوقود والأخدود: الشق في الأرض. وكان أصحابه قد شقوه وأوقدوا فيه النار حتى ملأوه نارا، فصارت النار بدلا في التعبير من الأخدود للإيحاء بتلهب النار فيه كله وتوقدها.
قتل أصحاب الأخدود، واستحقوا هذه النقمة وهذا الغضب، في الحالة التي كانوا عليها وهم يرتكبون ذلك الإثم، ويزاولون تلك الجريمة: إذ هم عليها قعود. وهم على ما يفعلون بالمؤمنين شهود .. وهو تعبير يصور موقفهم ومشهدهم، وهم يوقدون النار، ويلقون بالمؤمنين والمؤمنات فيها وهم قعود على النار، قريبون من عملية التعذيب البشعة، يشاهدون أطوار التعذيب، وفعل النار في الأجسام في لذة وسعار، كأنما يثبتون في حسهم هذا المشهد البشع الشنيع!
وما كان للمؤمنين من ذنب عندهم ولا ثأر: وما نقموا منهم إلا أن يؤمنوا بالله العزيز الحميد. الذي له ملك السماوات والأرض. والله على كل شيء شهيد .. فهذه جريمتهم أنهم آمنوا بالله، العزيز: القادر على ما يريد، الحميد: المستحق للحمد في كل حال، والمحمود بذاته ولو لم يحمده الجهال! وهو الحقيق بالإيمان وبالعبودية له. وهو وحده الذي له ملك السماوات والأرض وهو يشهد كل شيء وتتعلق به إرادته تعلق الحضور.
[ ص: 3874 ] ثم هو الشهيد على ما كان من أمر المؤمنين وأصحاب الأخدود.. وهذه لمسة تطمئن قلوب المؤمنين، وتهدد العتاة المتجبرين. فالله كان شهيدا. وكفى بالله شهيدا.
وتنتهي رواية الحادث في هذه الآيات القصار، التي تملأ القلب بشحنة من الكراهية لبشاعة الفعلة وفاعليها، كما تستجيش فيه التأمل فيما وراء الحادث ووزنه عند الله وما استحقه من نقمته وغضبه. فهو أمر لم ينته بعد عند هذا الحد، ووراءه في حساب الله ما وراءه.
كذلك تنتهي رواية الحادث وقد ملأت القلب بالروعة. روعة الإيمان المستعلي على الفتنة، والعقيدة المنتصرة على الحياة، والانطلاق المتجرد من أوهاق الجسم وجاذبية الأرض. فقد كان في مكنة المؤمنين أن ينجوا بحياتهم في مقابل الهزيمة لإيمانهم. ولكن كم كانوا يخسرون هم أنفسهم في الدنيا قبل الآخرة؟ وكم كانت البشرية كلها تخسر؟ كم كانوا يخسرون وهم يقتلون هذا المعنى الكبير: معنى زهادة الحياة بلا عقيدة، وبشاعتها بلا حرية، وانحطاطها حين يسيطر الطغاة على الأرواح بعد سيطرتهم على الأجساد! إنه معنى كريم جدا ومعنى كبير جدا هذا الذي ربحوه وهم بعد في الأرض. ربحوه وهم يجدون مس النار فتحترق أجسادهم، وينتصر هذا المعنى الكريم الذي تزكيه النار؟ وبعد ذلك لهم عند ربهم حساب، ولأعدائهم الطاغين حساب.. يعقب به السياق..
إن الذين فتنوا المؤمنين والمؤمنات - ثم لم يتوبوا - فلهم عذاب جهنم ولهم عذاب الحريق. إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم جنات تجري من تحتها الأنهار. ذلك الفوز الكبير ..
إن الذي حدث في الأرض وفي الحياة الدنيا ليس خاتمة الحادث وليس نهاية المطاف. فالبقية آتية هناك. والجزاء الذي يضع الأمر في نصابه، ويفصل فيما كان بين المؤمنين والطاغين آت. وهو مقرر مؤكد، وواقع كما يقول عنه الله:
إن الذين فتنوا المؤمنين والمؤمنات .. ومضوا في ضلالتهم سادرين، لم يندموا على ما فعلوا ثم لم يتوبوا .. فلهم عذاب جهنم ولهم عذاب الحريق .. وينص على "الحريق".. وهو مفهوم من عذاب جهنم. ولكنه ينطق به وينص عليه ليكون مقابلا للحريق في الأخدود. وبنفس اللفظ الذي يدل على الحدث. ولكن أين حريق من حريق؟ في شدته أو في مدته! وحريق الدنيا بنار يوقدها الخلق. وحريق الآخرة بنار يوقدها الخالق! وحريق الدنيا لحظات وتنتهي، وحريق الآخرة آباد لا يعلمها إلا الله! ومع حريق الدنيا رضى الله عن المؤمنين وانتصار لذلك المعنى الإنساني الكريم. ومع حريق الآخرة غضب الله، والارتكاس الهابط الذميم!
ويتمثل رضى الله وإنعامه على الذين آمنوا وعملوا الصالحات في الجنة: إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم جنات تجري من تحتها الأنهار .. وهذه هي النجاة الحقيقية: ذلك الفوز الكبير .. والفوز: النجاة والنجاح. والنجاة من عذاب الآخرة فوز. فكيف بالجنات تجري من تحتها الأنهار؟
بهذه الخاتمة يستقر الأمر في نصابه. وهي الخاتمة الحقيقية للموقف. فلم يكن ما وقع منه في الأرض إلا طرفا من أطرافه، لا يتم به تمامه.. وهذه هي الحقيقة التي يهدف إليها هذا التعقيب الأول على الحادث لتستقر في قلوب القلة المؤمنة في مكة، وفي قلوب كل فئة مؤمنة تتعرض للفتنة على مدار القرون.
[ ص: 3875 ] ثم تتوالى التعقيبات..
إن بطش ربك لشديد .. وإظهار حقيقة البطش وشدته في هذا الموضع هو الذي يناسب ما مر في الحادث من مظهر البطش الصغير الهزيل الذي يحسبه أصحابه ويحسبه الناس في الأرض كبيرا شديدا. فالبطش الشديد هو بطش الجبار. الذي له ملك السماوات والأرض. لا بطش الضعاف المهازيل الذين يتسلطون على رقعة من الأرض محدودة، في رقعة من الزمان محدودة..
ويظهر التعبير العلاقة بين المخاطب - وهو الرسول - صلى الله عليه وسلم - والقائل وهو الله عز وجل. وهو يقول له: إن بطش ربك.. ربك الذي تنتسب إلى ربوبيته، وسندك الذي تركن إلى معونته.. ولهذه النسبة قيمتها في هذا المجال الذي يبطش فيه الفجار بالمؤمنين!
إنه هو يبدئ ويعيد .. والبدء والإعادة وإن اتجه معناهما الكلي إلى النشأة الأولى والنشأة الآخرة.. إلا أنهما حدثان دائبان في كل لحظة من ليل أو نهار. ففي كل لحظة بدء وإنشاء، وفي كل لحظة إعادة لما بلي ومات. والكون كله في تجدد مستمر.. وفي بلى مستمر.. وفي ظل هذه الحركة الدائبة الشاملة من البدء والإعادة يبدو حادث الأخدود ونتائجه الظاهرة مسألة عابرة في واقع الأمر وحقيقة التقدير. فهو بدء لإعادة. أو إعادة لبدء. في هذه الحركة الدائبة الدائرة..
وهو الغفور الودود .. والمغفرة تتصل بقوله من قبل: ثم لم يتوبوا .. فهي من الرحمة والفضل الفائض بلا حدود ولا قيود. وهي الباب المفتوح الذي لا يغلق في وجه عائد تائب. ولو عظم الذنب وكبرت المعصية.. أما الود.. فيتصل بموقف المؤمنين، الذين اختاروا ربهم على كل شيء. وهو الإيناس اللطيف الحلو الكريم. حين يرفع الله عباده الذين يؤثرونه ويحبونه إلى مرتبة، يتحرج القلم من وصفها لولا أن فضل الله يجود بها.. مرتبة الصداقة.. الصداقة بين الرب والعبد.. ودرجة الود من الله لأودائه وأحبائه المقربين.. فماذا تكون الحياة التي ضحوا بها وهي ذاهبة؟ وماذا يكون العذاب الذي احتملوه وهو موقوت؟ ماذا يكون هذا إلى جانب قطرة من هذا الود الحلو؟ وإلى جانب لمحة من هذا الإيناس الحبيب؟
إن عبيدا من رقيق هذه الأرض. عبيد الواحد من البشرة، ليلقون بأنفسهم إلى التهلكة لكلمة تشجيع تصدر من فمه، أو لمحة رضاء تبدو في وجهه.. وهو عبد وهم عبيد.. فكيف بعباد الله. الذين يؤنسهم الله بوده الكريم الجليل، الله ذو العرش المجيد العالي المهيمن الماجد الكريم؟ ألا هانت الحياة. وهان الألم. وهان العذاب. وهان كل غال عزيز، في سبيل لمحة رضى يجود بها المولى الودود ذو العرش المجيد..
فعال لما يريد .. هذه صفته الكثيرة التحقق، الدائبة العمل.. فعال لما يريد.. فهو مطلق الإرادة، يختار ما يشاء; ويفعل ما يريده ويختاره، دائما أبدا، فتلك صفته سبحانه.
يريد مرة أن ينتصر المؤمنون به في هذه الأرض لحكمة يريدها. ويريد مرة أن ينتصر الإيمان على الفتنة وتذهب الأجسام الفانية لحكمة يريدها.. يريد مرة أن يأخذ الجبارين في الأرض. ويريد مرة أن يمهلهم لليوم الموعود.. لحكمة تتحقق هنا وتتحقق هناك، في قدره المرسوم..
فهذا طرف من فعله لما يريد. يناسب الحادث ويناسب ما سيأتي من حديث فرعون وثمود. وتبقى حقيقة الإرادة الطليقة والقدرة المطلقة وراء الأحداث ووراء الحياة والكون تفعل فعلها في الوجود.
فعال لما يريد. وهاك نموذجا من فعله لما يريد:
[ ص: 3876 ] هل أتاك حديث الجنود: فرعون وثمود؟ . وهي إشارة إلى قصتين طويلتين، ارتكانا إلى المعلوم من أمرهما للمخاطبين، بعد ما ورد ذكرهما كثيرا في القرآن الكريم. ويسميهم الجنود. إشارة إلى قوتهم واستعدادهم.. هل أتاك حديثهم؟ وكيف فعل ربك بهم ما يريد؟
وهما حديثان مختلفان في طبيعتهما وفي نتائجهما.. فأما حديث فرعون، فقد أهلكه الله وجنده ونجى بني إسرائيل، ومكن لهم في الأرض فترة، ليحقق بهم قدرا من قدره، وإرادة من إرادته. وأما حديث ثمود فقد أهلكهم الله عن بكرة أبيهم وأنجى صالحا والقلة معه حيث لم يكن لهم بعد ذلك ملك ولا تمكين. إنما هي مجرد النجاة من القوم الفاسقين.
وهما نموذجان لفعل الإرادة، وتوجه المشيئة. وصورتان من صور الدعوة إلى الله واحتمالاتها المتوقعة، إلى جانب الاحتمال الثالث الذي وقع في حادث الأخدود.. وكلها يعرضها القرآن للقلة المؤمنة في مكة، ولكل جيل من أجيال المؤمنين..
وفي الختام يجيء إيقاعان قويان جازمان. في كل منهما تقرير، وكلمة فصل وحكم أخير:
بل الذين كفروا في تكذيب، والله من ورائهم محيط ..
فشأن الكفار وحقيقة حالهم أنهم في تكذيب يمسون به ويصبحون. والله من ورائهم محيط .. وهم غافلون عما يحيط بهم من قهر الله وعلمه. فهم أضعف من الفيران المحصورة في الطوفان العميم!
بل هو قرآن مجيد في لوح محفوظ ..
والمجيد الرفيع الكريم العريق.. وهل أمجد وأرفع وأعرق من قول الله العظيم؟ وهو في لوح محفوظ.
لا ندرك نحن طبيعته، لأنه من أمر الغيب الذي تفرد الله بعلمه. إنما ننتفع نحن بالظل الذي يلقيه التعبير، والإيحاء الذي يتركه في القلوب. وهو أن هذا القرآن مصون ثابت، قوله هو المرجع الأخير، في كل ما يتناوله من الأمور. يذهب كل قول، وقوله هو المرعي المحفوظ..
ولقد قال القرآن قوله في حادث الأخدود، وفي الحقيقة التي وراءه.. وهو القول الأخير..