[ ص: 3895 ] (88)
nindex.php?page=treesubj&link=28889سورة الغاشية مكية
وآياتها ست وعشرون
بسم الله الرحمن الرحيم
nindex.php?page=treesubj&link=30387_30395_30442_30437_29468_30291_30296_29059nindex.php?page=tafseer&surano=88&ayano=1هل أتاك حديث الغاشية (1)
nindex.php?page=tafseer&surano=88&ayano=2وجوه يومئذ خاشعة (2)
nindex.php?page=tafseer&surano=88&ayano=3عاملة ناصبة (3)
nindex.php?page=tafseer&surano=88&ayano=4تصلى نارا حامية (4)
nindex.php?page=tafseer&surano=88&ayano=5تسقى من عين آنية (5)
nindex.php?page=tafseer&surano=88&ayano=6ليس لهم طعام إلا من ضريع (6)
nindex.php?page=tafseer&surano=88&ayano=7لا يسمن ولا يغني من جوع (7)
nindex.php?page=tafseer&surano=88&ayano=8وجوه يومئذ ناعمة (8)
nindex.php?page=tafseer&surano=88&ayano=9لسعيها راضية (9)
nindex.php?page=tafseer&surano=88&ayano=10في جنة عالية (10)
nindex.php?page=tafseer&surano=88&ayano=11لا تسمع فيها لاغية (11)
nindex.php?page=tafseer&surano=88&ayano=12فيها عين جارية (12)
nindex.php?page=tafseer&surano=88&ayano=13فيها سرر مرفوعة (13)
nindex.php?page=tafseer&surano=88&ayano=14وأكواب موضوعة (14)
nindex.php?page=tafseer&surano=88&ayano=15ونمارق مصفوفة (15)
nindex.php?page=tafseer&surano=88&ayano=16وزرابي مبثوثة (16)
nindex.php?page=tafseer&surano=88&ayano=17أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت (17)
nindex.php?page=tafseer&surano=88&ayano=18وإلى السماء كيف رفعت (18)
nindex.php?page=tafseer&surano=88&ayano=19وإلى الجبال كيف نصبت (19)
nindex.php?page=tafseer&surano=88&ayano=20وإلى الأرض كيف سطحت (20)
nindex.php?page=tafseer&surano=88&ayano=21فذكر إنما أنت مذكر (21)
nindex.php?page=tafseer&surano=88&ayano=22لست عليهم بمصيطر (22)
nindex.php?page=tafseer&surano=88&ayano=23إلا من تولى وكفر (23)
nindex.php?page=tafseer&surano=88&ayano=24فيعذبه الله العذاب الأكبر (24)
nindex.php?page=tafseer&surano=88&ayano=25إن إلينا إيابهم (25)
nindex.php?page=tafseer&surano=88&ayano=26ثم إن علينا حسابهم (26)
هذه السورة واحدة من الإيقاعات العميقة الهادئة. الباعثة إلى التأمل والتدبر، وإلى الرجاء والتطلع، وإلى المخافة والتوجس، وإلى عمل الحساب ليوم الحساب!
وهي تطوف بالقلب البشري في مجالين هائلين: مجال الآخرة وعالمها الواسع، ومشاهدها المؤثرة. ومجال الوجود العريض المكشوف للنظر، وآيات الله المبثوثة في خلائقه المعروضة للجميع. ثم تذكرهم بعد هاتين الجولتين الهائلتين بحساب الآخرة، وسيطرة الله، وحتمية الرجوع إليه في نهاية المطاف.. كل ذلك في أسلوب عميق الإيقاع، هادئ، ولكنه نافذ. رصين ولكنه رهيب!
nindex.php?page=tafseer&surano=88&ayano=1هل أتاك حديث الغاشية؟ ..
[ ص: 3896 ] بهذا المطلع تبدأ السورة التي تريد لترد القلوب إلى الله، ولتذكرهم بآياته في الوجود، وحسابه في الآخرة وجزائه الأكيد. وبهذا الاستفهام الموحي بالعظمة الدال على التقرير الذي يشير في الوقت ذاته إلى أن أمر الآخرة مما سبق به التقرير والتذكير. وتسمى القيامة هذا الاسم الجديد: "الغاشية".. أي الداهية التي تغشى الناس وتغمرهم بأهوالها. وهو من الأسماء الجديدة الموحية التي وردت في هذا الجزء.. الطامة.. الصاخة.. الغاشية.. القارعة.. مما يناسب طبيعة هذا الجزء المعهودة.
وهذا الخطاب:
nindex.php?page=tafseer&surano=88&ayano=1هل أتاك..؟ كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يحس وقع توجيهه إلى شخصه، حيثما سمع هذه السورة، وكأنما يتلقاه أول مرة مباشرة من ربه، لشدة حساسية قلبه بخطاب الله - سبحانه - واستحضاره لحقيقة الخطاب، وشعوره بأنه صادر إليه بلا وسيط حيثما سمعته أذناه.. قال
nindex.php?page=showalam&ids=11970ابن أبي حاتم: حدثنا
علي بن محمد الطنافسي، حدثنا
أبو بكر بن عباس، عن
أبي إسحاق، عن
عمر بن ميمون، قال:
مر النبي - صلى الله عليه وسلم على امرأة تقرأ: nindex.php?page=tafseer&surano=88&ayano=1هل أتاك حديث الغاشية؟ فقام يستمع ويقول: "نعم قد جاءني"..
والخطاب - مع ذلك - عام لكل من يسمع هذا القرآن. فحديث الغاشية هو حديث هذا القرآن المتكرر. يذكر به وينذر ويبشر; ويستجيش به في الضمائر الحساسية والخشية والتقوى والتوجس; كما يثير به الرجاء والارتقاب والتطلع. ومن ثم يستحيي هذه الضمائر فلا تموت ولا تغفل.
nindex.php?page=tafseer&surano=88&ayano=1هل أتاك حديث الغاشية؟ .. ثم يعرض شيئا من حديث الغاشية:
nindex.php?page=tafseer&surano=88&ayano=2وجوه يومئذ خاشعة. nindex.php?page=tafseer&surano=88&ayano=3عاملة ناصبة. nindex.php?page=tafseer&surano=88&ayano=4تصلى نارا حامية. nindex.php?page=tafseer&surano=88&ayano=5تسقى من عين آنية. nindex.php?page=tafseer&surano=88&ayano=6ليس لهم طعام إلا من ضريع. nindex.php?page=tafseer&surano=88&ayano=7لا يسمن ولا يغني من جوع ..
إنه يعجل بمشهد العذاب قبل مشهد النعيم فهو أقرب إلى جو "الغاشية" وظلها.. فهناك: يومئذ وجوه خاشعة ذليلة متعبة مرهقة عملت ونصبت فلم تحمد العمل ولم ترض العاقبة، ولم تجد إلا الوبال والخسارة، فزادت مضضا وإرهاقا وتعبا، فهي:
nindex.php?page=tafseer&surano=88&ayano=3عاملة ناصبة .. عملت لغير الله، ونصبت في غير سبيله. عملت لنفسها ولأولادها. وتعبت لدنياها ولأطماعها. ثم وجدت عاقبة العمل والكد. وجدته في الدنيا شقوة لغير زاد. ووجدته في الآخرة سوادا يؤدي إلى العذاب. وهي تواجه النهاية مواجهة الذليل المرهق المتعوس الخائب الرجاء!
ومع هذا الذل والرهق العذاب والألم:
nindex.php?page=tafseer&surano=88&ayano=4تصلى نارا حامية وتذوقها وتعانيها.
nindex.php?page=tafseer&surano=88&ayano=5تسقى من عين آنية .. حارة بالغة الحرارة..
nindex.php?page=tafseer&surano=88&ayano=6ليس لهم طعام إلا من ضريع nindex.php?page=tafseer&surano=88&ayano=7لا يسمن ولا يغني من جوع .. والضريع قيل: شجر من نار في جهنم. استنادا إلى ما ورد عن شجرة الزقوم التي تنبت في أصل الجحيم. وقيل: نوع من الشوك اللاطئ بالأرض، ترعاه الإبل وهو أخضر، ويسمى "الشبرق" فإذا جني صار اسمه "الضريع" ولم تستطع الإبل مذاقه فهو عندئذ سام! فهذا أو ذاك هو لون من ألوان الطعام يومئذ مع الغسلين والغساق وباقي هذه الألوان التي لا تسمن ولا تغني من جوع!
وواضح أننا لا نملك في الدنيا أن ندرك طبيعة هذا العذاب في الآخرة. إنما تجيء هذه الأوصاف لتلمس في حسنا البشري أقصى ما يملك تصوره من الألم، الذي يتجمع من الذل والوهن والخيبة ومن لسع النار الحامية، ومن التبرد والارتواء بالماء الشديد الحرارة! والتغذي بالطعام الذي لا تقوى الإبل على تذوقه، وهو شوك لا نفع فيه ولا غناء.. من مجموعة هذه التصورات يتجمع في حسنا إدراك لأقصى درجات الألم. وعذاب الآخرة
[ ص: 3897 ] بعد ذلك أشد. وطبيعته لا يتذوقها إلا من يذوقها والعياذ بالله!
وعلى الجانب الآخر:
nindex.php?page=tafseer&surano=88&ayano=8وجوه يومئذ ناعمة. nindex.php?page=tafseer&surano=88&ayano=9لسعيها راضية: nindex.php?page=tafseer&surano=88&ayano=10في جنة عالية. nindex.php?page=tafseer&surano=88&ayano=11لا تسمع فيها لاغية. nindex.php?page=tafseer&surano=88&ayano=12فيها عين جارية. nindex.php?page=tafseer&surano=88&ayano=13فيها سرر مرفوعة. nindex.php?page=tafseer&surano=88&ayano=14وأكواب موضوعة. nindex.php?page=tafseer&surano=88&ayano=15ونمارق مصفوفة. nindex.php?page=tafseer&surano=88&ayano=16وزرابي مبثوثة ..
فهنا وجوه يبدو فيها النعيم. ويفيض منها الرضى. وجوه تنعم بما تجد، وتحمد ما عملت. فوجدت عقباه خيرا، وتستمتع بهذا الشعور الروحي الرفيع. شعور الرضى عن عملها حين ترى رضى الله عنها. وليس أروح للقلب من أن يطمئن إلى الخير ويرضى عاقبته، ثم يراها ممثلة في رضى الله الكريم. وفي النعيم. ومن ثم يقدم القرآن هذا اللون من السعادة على ما في الجنة من رخاء ومتاع، ثم يصف الجنة ومناعمها المتاحة لهؤلاء السعداء:
nindex.php?page=tafseer&surano=88&ayano=10في جنة عالية .. عالية في ذاتها رفيعة مجيدة. ثم هي عالية الدرجات. وعالية المقامات. وللعلو في الحس إيقاع خاص.
nindex.php?page=tafseer&surano=88&ayano=11لا تسمع فيها لاغية .. ويطلق هذا التعبير جوا من السكون والهدوء والسلام والاطمئنان والود والرضى والنجاء والسمر بين الأحباء والأوداء، والتنزه والارتفاع عن كل كلمة لاغية، لا خير فيها ولا عافية.. وهذه وحدها نعيم. وهذه وحدها سعادة. سعادة تتبين حين يستحضر الحس هذه الحياة الدنيا، وما فيها من لغو وجدل وصراع وزحام ولجاج وخصام وقرقعة وفرقعة. وضجة وصخب، وهرج ومرج. ثم يستسلم بعد ذلك لتصور الهدوء الآمن والسلام الساكن والود الرضي والظل الندي في العبارة الموحية:
nindex.php?page=tafseer&surano=88&ayano=11لا تسمع فيها لاغية وألفاظها ذاتها تنسم الروح والندى وتنزلق في نعومة ويسر، وفي إيقاع موسيقي ندي رخي! وتوحي هذه اللمسة بأن حياة المؤمنين في الأرض وهم ينأون عن الجدل واللغو، هي طرف من حياة الجنة، يتهيأون بها لذلك النعيم الكريم.
وهكذا يقدم الله من صفة الجنة هذا المعنى الرفيع الكريم الوضيء. ثم تجيء المناعم التي تشبع الحس والحواس.. تجيء في الصورة التي يملك البشر تصورها. وهي في الجنة مكيفة وفق ما ترتقي إليه نفوس أهل الجنة. مما لا يعرفه إلا من يذوقه!
[ ص: 3895 ] (88)
nindex.php?page=treesubj&link=28889سُورَةُ الْغَاشِيَةِ مَكِّيَّةٌ
وَآيَاتُهَا سِتٌّ وَعِشْرُونَ
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
nindex.php?page=treesubj&link=30387_30395_30442_30437_29468_30291_30296_29059nindex.php?page=tafseer&surano=88&ayano=1هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ (1)
nindex.php?page=tafseer&surano=88&ayano=2وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ (2)
nindex.php?page=tafseer&surano=88&ayano=3عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ (3)
nindex.php?page=tafseer&surano=88&ayano=4تَصْلَى نَارًا حَامِيَةً (4)
nindex.php?page=tafseer&surano=88&ayano=5تُسْقَى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ (5)
nindex.php?page=tafseer&surano=88&ayano=6لَيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلا مِنْ ضَرِيعٍ (6)
nindex.php?page=tafseer&surano=88&ayano=7لا يُسْمِنُ وَلا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ (7)
nindex.php?page=tafseer&surano=88&ayano=8وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاعِمَةٌ (8)
nindex.php?page=tafseer&surano=88&ayano=9لِسَعْيِهَا رَاضِيَةٌ (9)
nindex.php?page=tafseer&surano=88&ayano=10فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ (10)
nindex.php?page=tafseer&surano=88&ayano=11لا تَسْمَعُ فِيهَا لاغِيَةً (11)
nindex.php?page=tafseer&surano=88&ayano=12فِيهَا عَيْنٌ جَارِيَةٌ (12)
nindex.php?page=tafseer&surano=88&ayano=13فِيهَا سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ (13)
nindex.php?page=tafseer&surano=88&ayano=14وَأَكْوَابٌ مَوْضُوعَةٌ (14)
nindex.php?page=tafseer&surano=88&ayano=15وَنَمَارِقُ مَصْفُوفَةٌ (15)
nindex.php?page=tafseer&surano=88&ayano=16وَزَرَابِيُّ مَبْثُوثَةٌ (16)
nindex.php?page=tafseer&surano=88&ayano=17أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ (17)
nindex.php?page=tafseer&surano=88&ayano=18وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ (18)
nindex.php?page=tafseer&surano=88&ayano=19وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ (19)
nindex.php?page=tafseer&surano=88&ayano=20وَإِلَى الأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ (20)
nindex.php?page=tafseer&surano=88&ayano=21فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ (21)
nindex.php?page=tafseer&surano=88&ayano=22لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ (22)
nindex.php?page=tafseer&surano=88&ayano=23إِلا مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ (23)
nindex.php?page=tafseer&surano=88&ayano=24فَيُعَذِّبُهُ اللَّهُ الْعَذَابَ الأَكْبَرَ (24)
nindex.php?page=tafseer&surano=88&ayano=25إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ (25)
nindex.php?page=tafseer&surano=88&ayano=26ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ (26)
هَذِهِ السُّورَةُ وَاحِدَةٌ مِنَ الْإِيقَاعَاتِ الْعَمِيقَةِ الْهَادِئَةِ. الْبَاعِثَةِ إِلَى التَّأَمُّلِ وَالتَّدَبُّرِ، وَإِلَى الرَّجَاءِ وَالتَّطَلُّعِ، وَإِلَى الْمَخَافَةِ وَالتَّوَجُّسِ، وَإِلَى عَمَلِ الْحِسَابِ لِيَوْمِ الْحِسَابِ!
وَهِيَ تَطَّوَّفُ بِالْقَلْبِ الْبَشَرِيِّ فِي مَجَالَيْنِ هَائِلَيْنِ: مَجَالِ الْآخِرَةِ وَعَالَمِهَا الْوَاسِعِ، وَمَشَاهِدِهَا الْمُؤَثِّرَةِ. وَمَجَالِ الْوُجُودِ الْعَرِيضِ الْمَكْشُوفِ لِلنَّظَرِ، وَآيَاتِ اللَّهِ الْمَبْثُوثَةِ فِي خَلَائِقِهِ الْمَعْرُوضَةِ لِلْجَمِيعِ. ثُمَّ تُذَكِّرُهُمْ بَعْدَ هَاتَيْنِ الْجَوْلَتَيْنِ الْهَائِلَتَيْنِ بِحِسَابِ الْآخِرَةِ، وَسَيْطَرَةِ اللَّهِ، وَحَتْمِيَّةِ الرُّجُوعِ إِلَيْهِ فِي نِهَايَةِ الْمَطَافِ.. كُلُّ ذَلِكَ فِي أُسْلُوبٍ عَمِيقِ الْإِيقَاعِ، هَادِئٍ، وَلَكِنَّهُ نَافِذٌ. رَصِينٌ وَلَكِنَّهُ رَهِيبٌ!
nindex.php?page=tafseer&surano=88&ayano=1هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ؟ ..
[ ص: 3896 ] بِهَذَا الْمَطْلَعِ تَبْدَأُ السُّورَةُ الَّتِي تُرِيدُ لِتَرُدَّ الْقُلُوبَ إِلَى اللَّهِ، وَلِتُذَكِّرَهُمْ بِآيَاتِهِ فِي الْوُجُودِ، وَحِسَابِهِ فِي الْآخِرَةِ وَجَزَائِهِ الْأَكِيدِ. وَبِهَذَا الِاسْتِفْهَامِ الْمُوحِي بِالْعَظَمَةِ الدَّالِّ عَلَى التَّقْرِيرِ الَّذِي يُشِيرُ فِي الْوَقْتِ ذَاتِهِ إِلَى أَنَّ أَمْرَ الْآخِرَةِ مِمَّا سَبَقَ بِهِ التَّقْرِيرُ وَالتَّذْكِيرُ. وَتُسَمَّى الْقِيَامَةُ هَذَا الِاسْمَ الْجَدِيدَ: "الْغَاشِيَةَ".. أَيِ الدَّاهِيَةَ الَّتِي تَغْشَى النَّاسَ وَتَغْمُرُهُمْ بِأَهْوَالِهَا. وَهُوَ مِنَ الْأَسْمَاءِ الْجَدِيدَةِ الْمُوحِيَةِ الَّتِي وَرَدَتْ فِي هَذَا الْجُزْءِ.. الطَّامَّةُ.. الصَّاخَّةُ.. الْغَاشِيَةُ.. الْقَارِعَةُ.. مِمَّا يُنَاسِبُ طَبِيعَةَ هَذَا الْجُزْءِ الْمَعْهُودَةَ.
وَهَذَا الْخِطَابُ:
nindex.php?page=tafseer&surano=88&ayano=1هَلْ أَتَاكَ..؟ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُحِسُّ وَقْعَ تَوْجِيهِهِ إِلَى شَخْصِهِ، حَيْثُمَا سَمِعَ هَذِهِ السُّورَةَ، وَكَأَنَّمَا يَتَلَقَّاهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ مُبَاشَرَةً مِنْ رَبِّهِ، لِشِدَّةِ حَسَاسِيَةِ قَلْبِهِ بِخِطَابِ اللَّهِ - سُبْحَانَهُ - وَاسْتِحْضَارِهِ لِحَقِيقَةِ الْخِطَابِ، وَشُعُورِهِ بِأَنَّهُ صَادِرٌ إِلَيْهِ بِلَا وَسِيطٍ حَيْثُمَا سَمِعَتْهُ أُذُنَاهُ.. قَالَ
nindex.php?page=showalam&ids=11970ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا
عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدٍ الطَّنَافِسِيُّ، حَدَّثَنَا
أَبُو بَكْرٍ بْنُ عَبَّاسٍ، عَنْ
أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ
عُمَرَ بْنِ مَيْمُونٍ، قَالَ:
مَرَّ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى امْرَأَةٍ تَقْرَأُ: nindex.php?page=tafseer&surano=88&ayano=1هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ؟ فَقَامَ يَسْتَمِعُ وَيَقُولُ: "نَعَمْ قَدْ جَاءَنِي"..
وَالْخِطَابُ - مَعَ ذَلِكَ - عَامٌّ لِكُلِّ مَنْ يَسْمَعُ هَذَا الْقُرْآنَ. فَحَدِيثُ الْغَاشِيَةِ هُوَ حَدِيثُ هَذَا الْقُرْآنِ الْمُتَكَرِّرِ. يُذَكِّرُ بِهِ وَيُنْذِرُ وَيُبَشِّرُ; وَيَسْتَجِيشُ بِهِ فِي الضَّمَائِرِ الْحَسَاسِيَةَ وَالْخَشْيَةَ وَالتَّقْوَى وَالتَّوَجُّسَ; كَمَا يُثِيرُ بِهِ الرَّجَاءَ وَالِارْتِقَابَ وَالتَّطَلُّعَ. وَمِنْ ثَمَّ يَسْتَحْيِي هَذِهِ الضَّمَائِرَ فَلَا تَمُوتُ وَلَا تَغْفُلُ.
nindex.php?page=tafseer&surano=88&ayano=1هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ؟ .. ثُمَّ يَعْرِضُ شَيْئًا مِنْ حَدِيثِ الْغَاشِيَةِ:
nindex.php?page=tafseer&surano=88&ayano=2وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ. nindex.php?page=tafseer&surano=88&ayano=3عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ. nindex.php?page=tafseer&surano=88&ayano=4تَصْلَى نَارًا حَامِيَةً. nindex.php?page=tafseer&surano=88&ayano=5تُسْقَى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ. nindex.php?page=tafseer&surano=88&ayano=6لَيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلا مِنْ ضَرِيعٍ. nindex.php?page=tafseer&surano=88&ayano=7لا يُسْمِنُ وَلا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ ..
إِنَّهُ يُعَجِّلُ بِمَشْهَدِ الْعَذَابِ قَبْلَ مَشْهَدِ النَّعِيمِ فَهُوَ أَقْرَبُ إِلَى جَوِّ "الْغَاشِيَةِ" وَظِلِّهَا.. فَهُنَاكَ: يَوْمَئِذٍ وُجُوهٌ خَاشِعَةٌ ذَلِيلَةٌ مُتْعَبَةٌ مُرْهَقَةٌ عَمِلَتْ وَنَصَبَتْ فَلَمْ تَحْمَدِ الْعَمَلَ وَلَمْ تَرْضَ الْعَاقِبَةَ، وَلَمْ تَجِدْ إِلَّا الْوَبَالَ وَالْخَسَارَةَ، فَزَادَتْ مَضَضًا وَإِرْهَاقًا وَتَعَبًا، فَهِيَ:
nindex.php?page=tafseer&surano=88&ayano=3عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ .. عَمِلَتْ لِغَيْرِ اللَّهِ، وَنَصَبْتَ فِي غَيْرِ سَبِيلِهِ. عَمِلَتْ لِنَفْسِهَا وَلِأَوْلَادِهَا. وَتَعِبَتْ لِدُنْيَاهَا وَلِأَطْمَاعِهَا. ثُمَّ وَجَدَتْ عَاقِبَةَ الْعَمَلِ وَالْكَدِّ. وَجَدَتْهُ فِي الدُّنْيَا شِقْوَةً لِغَيْرِ زَادٍ. وَوَجَدَتْهُ فِي الْآخِرَةِ سَوَادًا يُؤَدِّي إِلَى الْعَذَابِ. وَهِيَ تُوَاجِهُ النِّهَايَةَ مُوَاجَهَةَ الذَّلِيلِ الْمُرْهَقِ الْمَتْعُوسِ الْخَائِبِ الرَّجَاءِ!
وَمَعَ هَذَا الذُّلِّ وَالرَّهَقِ الْعَذَابُ وَالْأَلَمُ:
nindex.php?page=tafseer&surano=88&ayano=4تَصْلَى نَارًا حَامِيَةً وَتَذُوقُهَا وَتُعَانِيهَا.
nindex.php?page=tafseer&surano=88&ayano=5تُسْقَى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ .. حَارَةٌ بَالِغَةُ الْحَرَارَةِ..
nindex.php?page=tafseer&surano=88&ayano=6لَيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلا مِنْ ضَرِيعٍ nindex.php?page=tafseer&surano=88&ayano=7لا يُسْمِنُ وَلا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ .. وَالضَّرِيعُ قِيلَ: شَجَرٌ مِنْ نَارٍ فِي جَهَنَّمَ. اسْتِنَادًا إِلَى مَا وَرَدَ عَنْ شَجَرَةِ الزَّقُّومِ الَّتِي تَنْبُتُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ. وَقِيلَ: نَوْعٌ مِنَ الشَّوْكِ اللَّاطِئِ بِالْأَرْضِ، تَرْعَاهُ الْإِبِلُ وَهُوَ أَخْضَرُ، وَيُسَمَّى "الشَّبْرَقَ" فَإِذَا جُنِيَ صَارَ اسْمُهُ "الضَّرِيعَ" وَلَمْ تَسْتَطِعِ الْإِبِلُ مَذَاقَهُ فَهُوَ عِنْدَئِذٍ سَامٌّ! فَهَذَا أَوْ ذَاكَ هُوَ لَوْنٌ مِنْ أَلْوَانِ الطَّعَامِ يَوْمَئِذٍ مَعَ الْغِسْلِينِ وَالْغَسَّاقِ وَبَاقِي هَذِهِ الْأَلْوَانِ الَّتِي لَا تُسْمِنُ وَلَا تُغْنِي مِنْ جُوعٍ!
وَوَاضِحٌ أَنَّنَا لَا نَمْلِكُ فِي الدُّنْيَا أَنْ نُدْرِكَ طَبِيعَةَ هَذَا الْعَذَابَ فِي الْآخِرَةِ. إِنَّمَا تَجِيءُ هَذِهِ الْأَوْصَافُ لِتَلْمِسَ فِي حِسِّنَا الْبَشَرِيِّ أَقْصَى مَا يَمْلِكُ تَصَوُّرَهُ مِنَ الْأَلَمِ، الَّذِي يَتَجَمَّعُ مِنَ الذُّلِّ وَالْوَهَنِ وَالْخَيْبَةِ وَمِنْ لَسْعِ النَّارِ الْحَامِيَةِ، وَمِنَ التَّبَرُّدِ وَالِارْتِوَاءِ بِالْمَاءِ الشَّدِيدِ الْحَرَارَةِ! وَالتَّغَذِّي بِالطَّعَامِ الَّذِي لَا تَقْوَى الْإِبِلُ عَلَى تَذَوُّقِهِ، وَهُوَ شَوْكٌ لَا نَفْعَ فِيهِ وَلَا غِنَاءَ.. مِنْ مَجْمُوعَةِ هَذِهِ التَّصَوُّرَاتِ يَتَجَمَّعُ فِي حِسِّنَا إِدْرَاكٌ لِأَقْصَى دَرَجَاتِ الْأَلَمِ. وَعَذَابُ الْآخِرَةِ
[ ص: 3897 ] بَعْدَ ذَلِكَ أَشَدُّ. وَطَبِيعَتُهُ لَا يَتَذَوَّقُهَا إِلَّا مَنْ يَذُوقُهَا وَالْعِيَاذُ بِاللَّهِ!
وَعَلَى الْجَانِبِ الْآخَرِ:
nindex.php?page=tafseer&surano=88&ayano=8وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاعِمَةٌ. nindex.php?page=tafseer&surano=88&ayano=9لِسَعْيِهَا رَاضِيَةٌ: nindex.php?page=tafseer&surano=88&ayano=10فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ. nindex.php?page=tafseer&surano=88&ayano=11لا تَسْمَعُ فِيهَا لاغِيَةً. nindex.php?page=tafseer&surano=88&ayano=12فِيهَا عَيْنٌ جَارِيَةٌ. nindex.php?page=tafseer&surano=88&ayano=13فِيهَا سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ. nindex.php?page=tafseer&surano=88&ayano=14وَأَكْوَابٌ مَوْضُوعَةٌ. nindex.php?page=tafseer&surano=88&ayano=15وَنَمَارِقُ مَصْفُوفَةٌ. nindex.php?page=tafseer&surano=88&ayano=16وَزَرَابِيُّ مَبْثُوثَةٌ ..
فَهُنَا وُجُوهٌ يَبْدُو فِيهَا النَّعِيمُ. وَيَفِيضُ مِنْهَا الرِّضَى. وُجُوهٌ تَنْعَمُ بِمَا تَجِدُ، وَتَحْمَدُ مَا عَمِلَتْ. فَوَجَدَتْ عُقْبَاهُ خَيْرًا، وَتَسْتَمْتِعُ بِهَذَا الشُّعُورِ الرُّوحِيِّ الرَّفِيعِ. شُعُورِ الرِّضَى عَنْ عَمَلِهَا حِينَ تَرَى رِضَى اللَّهِ عَنْهَا. وَلَيْسَ أَرْوَحُ لِلْقَلْبِ مِنْ أَنْ يَطْمَئِنَّ إِلَى الْخَيْرِ وَيَرْضَى عَاقِبَتَهُ، ثُمَّ يَرَاهَا مُمَثَّلَةً فِي رِضَى اللَّهِ الْكَرِيمِ. وَفِي النَّعِيمِ. وَمِنْ ثَمَّ يُقَدِّمُ الْقُرْآنُ هَذَا اللَّوْنَ مِنَ السَّعَادَةِ عَلَى مَا فِي الْجَنَّةِ مِنْ رَخَاءٍ وَمَتَاعٍ، ثُمَّ يَصِفُ الْجَنَّةَ وَمَنَاعِمَهَا الْمُتَاحَةَ لِهَؤُلَاءِ السُّعَدَاءِ:
nindex.php?page=tafseer&surano=88&ayano=10فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ .. عَالِيَةٍ فِي ذَاتِهَا رَفِيعَةٍ مَجِيدَةٍ. ثُمَّ هِيَ عَالِيَةُ الدَّرَجَاتِ. وَعَالِيَةُ الْمَقَامَاتِ. وَلِلْعُلُوِّ فِي الْحِسِّ إِيقَاعٌ خَاصٌّ.
nindex.php?page=tafseer&surano=88&ayano=11لا تَسْمَعُ فِيهَا لاغِيَةً .. وَيُطْلِقُ هَذَا التَّعْبِيرُ جَوًّا مِنَ السُّكُونِ وَالْهُدُوءِ وَالسَّلَامِ وَالِاطْمِئْنَانِ وَالْوُدِّ وَالرِّضَى وَالنِّجَاءِ وَالسَّمَرِ بَيْنَ الْأَحِبَّاءِ وَالْأَوِدَّاءِ، وَالتَّنَزُّهِ وَالِارْتِفَاعِ عَنْ كُلِّ كَلِمَةٍ لَاغِيَةٍ، لَا خَيْرَ فِيهَا وَلَا عَافِيَةَ.. وَهَذِهِ وَحْدَهَا نَعِيمٌ. وَهَذِهِ وَحْدَهَا سَعَادَةٌ. سَعَادَةٌ تَتَبَيَّنُ حِينَ يَسْتَحْضِرُ الْحِسُّ هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا، وَمَا فِيهَا مِنْ لَغْوٍ وَجَدَلٍ وَصِرَاعٍ وَزِحَامٍ وَلَجَاجٍ وَخِصَامٍ وَقَرْقَعَةٍ وَفَرْقَعَةٍ. وَضَجَّةٍ وَصَخَبٍ، وَهَرْجٍ وَمَرْجٍ. ثُمَّ يَسْتَسْلِمُ بَعْدَ ذَلِكَ لِتَصَوُّرِ الْهُدُوءِ الْآمَنِ وَالسَّلَامِ السَّاكِنِ وَالْوُدِّ الرَّضِيِّ وَالظِّلِّ النِّدِيِّ فِي الْعِبَارَةِ الْمُوحِيَةِ:
nindex.php?page=tafseer&surano=88&ayano=11لا تَسْمَعُ فِيهَا لاغِيَةً وَأَلْفَاظُهَا ذَاتُهَا تَنَسَّمَ الرُّوحَ وَالنَّدَى وَتَنْزَلِقُ فِي نُعُومَةٍ وَيُسْرٍ، وَفِي إِيقَاعٍ مُوسِيقِيٍّ نَدِيٍّ رَخِيٍّ! وَتُوحِي هَذِهِ اللَّمْسَةُ بِأَنَّ حَيَاةَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الْأَرْضِ وَهُمْ يَنْأَوْنَ عَنِ الْجَدَلِ وَاللَّغْوِ، هِيَ طَرَفٌ مِنْ حَيَاةِ الْجَنَّةِ، يَتَهَيَّأُونَ بِهَا لِذَلِكَ النَّعِيمِ الْكَرِيمِ.
وَهَكَذَا يُقَدِّمُ اللَّهُ مِنْ صِفَةِ الْجَنَّةِ هَذَا الْمَعْنَى الرَّفِيعَ الْكَرِيمَ الْوَضِيءَ. ثُمَّ تَجِيءُ الْمَنَاعَمُ الَّتِي تُشْبِعُ الْحِسَّ وَالْحَوَاسَّ.. تَجِيءُ فِي الصُّورَةِ الَّتِي يَمْلِكُ الْبَشَرُ تَصَوُّرَهَا. وَهِيَ فِي الْجَنَّةِ مُكَيَّفَةٌ وَفْقَ مَا تَرْتَقِي إِلَيْهِ نُفُوسُ أَهْلِ الْجَنَّةِ. مِمَّا لَا يَعْرِفُهُ إِلَّا مَنْ يَذُوقُهُ!