وفي آية واحدة يجمع السياق القرآني أحب شهوات الأرض إلى نفس الإنسان: النساء والبنين والأموال المكدسة والخيل والأرض المخصبة والأنعام.. وهي خلاصة للرغائب الأرضية. إما بذاتها، وإما بما تستطيع أن توفره لأصحابها من لذائذ أخرى.. وفي الآية التالية يعرض لذائذ أخرى في العالم الآخر: جنات تجري من تحتها الأنهار. وأزواج مطهرة. وفوقها رضوان من الله.. وذلك كله لمن يمد ببصره إلى أبعد من لذائذ الأرض، ويصل قلبه بالله. على النحو الذي تعرضه آيتان تاليتان:
زين للناس حب الشهوات من النساء والبنين، والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة، والخيل المسومة، والأنعام، والحرث.. ذلك متاع الحياة الدنيا، والله عنده حسن المآب قل: أأنبئكم بخير من ذلكم؟ للذين اتقوا عند ربهم جنات تجري من تحتها الأنهار - خالدين فيها - وأزواج مطهرة، ورضوان من الله. والله بصير بالعباد الذين يقولون: ربنا إننا آمنا فاغفر لنا ذنوبنا وقنا عذاب النار الصابرين والصادقين والقانتين والمنفقين والمستغفرين بالأسحار ..
زين للناس . وصياغة الفعل للمجهول هنا تشير إلى أن تركيبهم الفطري قد تضمن هذا الميل; فهو محبب ومزين.. وهذا تقرير للواقع من أحد جانبيه. ففي الإنسان هذا الميل إلى هذه "الشهوات"، وهو جزء من تكوينه الأصيل، لا حاجة إلى إنكاره، ولا إلى استنكاره في ذاته. فهو ضروري للحياة البشرية كي تتأصل وتنمو وتطرد - كما أسلفنا - ولكن الواقع يشهد كذلك بأن في فطرة الإنسان جانبا آخر يوازن ذلك الميل، ويحرس الإنسان أن يستغرق في ذلك الجانب وحده; وأن يفقد قوة النفخة العلوية أو مدلولها وإيحاءها. هذا الجانب الآخر هو جانب الاستعداد للتسامي، والاستعداد لضبط النفس ووقفها عند الحد السليم من مزاولة هذه "الشهوات". الحد الباني للنفس وللحياة; مع التطلع المستمر إلى ترقية الحياة ورفعها إلى الأفق الذي [ ص: 374 ] تهتف إليه النفحة العلوية، وربط القلب البشري بالملإ الأعلى والدار الآخرة ورضوان الله.. هذا الاستعداد الثاني يهذب الاستعداد الأول، وينقيه من الشوائب، ويجعله في الحدود المأمونة التي لا يطغى فيها جانب اللذة الحسية ونزعاتها القريبة. على الروح الإنسانية وأشواقها البعيدة.. والاتجاه إلى الله، وتقواه ، هو خيط الصعود والتسامي إلى تلك الأشواق البعيدة.
زين للناس حب الشهوات .. فهي شهوات مستحبة مستلذة; وليست مستقذرة ولا كريهة. والتعبير لا يدعو إلى استقذارها وكراهيتها; إنما يدعو فقط إلى معرفة طبيعتها وبواعثها، ووضعها في مكانها لا تتعداه، ولا تطغى على ما هو أكرم في الحياة وأعلى. والتطلع إلى آفاق أخرى بعد أخذ الضروري من تلك"الشهوات" في غير استغراق ولا إغراق!.
وهنا ومحاولة تهذيبها ورفعها، لا كبتها وقمعها.. يمتاز الإسلام بمراعاته للفطرة البشرية وقبولها بواقعها،
والذين يتحدثون في هذه الأيام عن "الكبت" وأضراره، وعن "العقد النفسية" التي ينشئها الكبت والقمع، يقررون أن السبب الرئيسي للعقد هو "الكبت" وليس هو "الضبط" .. وهو استقذار دوافع الفطرة واستنكارها من الأساس، مما يوقع الفرد تحت ضغطين متعارضين: ضغط من شعوره - الذي كونه الإيحاء أو كونه الدين أو كونه العرف - بأن دوافع الفطرة دوافع قذرة لا يجوز وجودها أصلا، فهي خطيئة ودافع شيطاني! وضغط هذه الدوافع التي لا تغلب لأنها عميقة في الفطرة، ولأنها ذات وظيفة أصيلة في كيان الحياة البشرية، لا تتم إلا بها، ولم يخلقها الله في الفطرة عبثا.. وعندئذ وفي ظل هذا الصراع تتكون "العقد النفسية" .. فحتى إذا سلمنا جدلا بصحة هذه النظريات النفسية، فإننا نرى الإسلام قد ضمن سلامة الكائن الإنساني من هذا الصراع بين شطري النفس البشرية. بين نوازع الشهوة واللذة، وأشواق الارتفاع والتسامي.. وحقق لهذه وتلك نشاطها المستمر في حدود التوسط والاعتدال .
زين للناس حب الشهوات من النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسومة والأنعام والحرث ... ..
والنساء والبنون شهوة من شهوات النفس الإنسانية قوية.. وقد قرن إليهما " القناطير المقنطرة " من الذهب والفضة.. ونهم المال هو الذي ترسمه " القناطير المقنطرة " ولو كان يريد مجرد الميل إلى المال لقال: والأموال.
أو والذهب والفضة. ولكن القناطير المقنطرة تلقي ظلا خاصا هو المقصود. ظل النهم الشديد لتكديس الذهب والفضة. ذلك أن التكديس ذاته شهوة. بغض النظر عما يستطيع المال توفيره لصاحبه من الشهوات الأخرى!.
ثم قرن إلى النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة.. الخيل المسومة. والخيل كانت - وما تزال حتى في عصر الآلة المادي اليوم - زينة محببة مشتهاة. ففي الخيل جمال وفتوة وانطلاق وقوة . وفيها ذكاء وألفة ومودة. وحتى الذين لا يركبونها فروسية، يعجبهم مشهدها، ما دام في كيانهم حيوية تجيش لمشهد الخيل الفتية!.
وقرن إلى تلك الشهوات الأنعام والحرث. وهما يقترنان عادة في الذهن وفي الواقع.. الأنعام والحقول المخصبة.. والحرث شهوة بما فيه من مشهد الإنبات والنماء.. وإن تفتح الحياة في ذاته لمشهد حبيب فإذا أضيفت [ ص: 375 ] إليه شهوة الملك، كان الحرث والأنعام شهوة.
وهذه الشهوات التي ذكرت هنا هي نموذج لشهوات النفوس، يمثل شهوات البيئة التي كانت مخاطبة بهذا القرآن ; ومنها ما هو شهوة كل نفس على مدار الزمان. والقرآن يعرضها ثم يقرر قيمتها الحقيقية، لتبقى في مكانها هذا لا تتعداه، ولا تطغى على ما سواه:
ذلك متاع الحياة الدنيا ..
ذلك كله الذي عرضه من اللذائذ المحببة - وسائر ما يماثله من اللذائذ والشهوات - متاع الحياة الدنيا . لا الحياة الرفيعة. ولا الآفاق البعيدة.. متاع هذه الأرض القريب.. فأما من أراد الذي هو خير.. خير من ذلك كله. خير لأنه أرفع في ذاته. وخير لأنه يرفع النفس ويصونها من الاستغراق في الشهوات، والانكباب على الأرض دون التطلع إلى السماء.. من أراد الذي هو خير فعند الله من المتاع ما هو خير. وفيه عوض كذلك عن تلك الشهوات:
قل: أأنبئكم بخير من ذلكم؟ للذين اتقوا عند ربهم جنات تجري من تحتها الأنهار - خالدين فيها - وأزواج مطهرة، ورضوان من الله، والله بصير بالعباد ..
وهذا المتاع الأخروي الذي تذكره الآية هنا، ويؤمر الرسول - صلى الله عليه وسلم - أن يبشر به المتقين، هو نعيم حسي في عمومه.. ولكن هنالك فارقا أساسيا بينه وبين متاع الدنيا.. إنه متاع لا يناله إلا الذين اتقوا.
الذين كان خوف الله وذكره في قلوبهم. وشعور التقوى شعور مهذب للروح والحس جميعا. شعور ضابط للنفس أن تستغرقها الشهوات، وأن تنساق فيها كالبهيمة. فالذين اتقوا ربهم حين يتطلعون إلى هذا المتاع الحسي الذي يبشرون به يتطلعون إليه في شفافية مبرأة من غلظة الحس! وفي حساسية مبرأة من بهيمية الشهوة!.
ويرتفعون بالتطلع إليه - وهم في هذه الأرض - قبل أن ينتهي بهم المطاف إلى قرب الله..
وفي هذا المتاع النظيف العفيف عوض كامل عن متاع الدنيا .. وفيه زيادة..
فإذا كان متاعهم في الدنيا حرثا معطيا مخصبا، ففي الآخرة جنات كاملة تجري من تحتها الأنهار. وهي فوق هذا خالدة وهم خالدون فيها، لا كالحرث المحدود الميقات!.
وإذا كان متاعهم في الدنيا نساء وبنين، ففي الآخرة أزواج مطهرة. وفي طهارتها فضل وارتفاع على شهوات الأرض في الحياة!.
فأما الخيل المسومة والأنعام. وأما القناطير المقنطرة من الذهب والفضة. فقد كانت في الدنيا وسائل لتحقيق متاع. فأما في نعيم الآخرة فلا حاجة إلى الوسائل لبلوغ الغايات!.
ثم.. هنالك ما هو أكبر من كل متاع.. هنالك " رضوان من الله " . رضوان يعدل الحياة الدنيا والحياة الأخرى كليهما.. ويرجح.. رضوان. بكل ما في لفظه من نداوة. وبكل ما في ظله من حنان.
والله بصير بالعباد ..
بصير بحقيقة فطرتهم وما ركب فيها من ميول ونوازع. بصير بما يصلح لهذه الفطرة من توجيهات وإيحاءات.
بصير بتصريفها في الحياة وما بعد الحياة.