هذه اللمسة تؤكد الاستنكار الذي سبق في الفقرة الماضية لموقف الذين أوتوا نصيبا من الكتاب، ثم هم يتولون ويعرضون عن التحاكم إلى كتاب الله، المتضمن لمنهج الله للبشر، بينما منهج الله يدبر أمر الكون كله وأمر البشر.. وفي الوقت ذاته تمهد للتحذير الوارد في الفقرة التالية من تولي المؤمنين الكافرين من دون المؤمنين .
ما دام أن لا حول للكافرين في هذا الكون ولا طول. والأمر كله بيد الله. وهو ولي المؤمنين دون سواه:
لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين. ومن يفعل ذلك فليس من الله في شيء - إلا أن تتقوا منهم تقاة - ويحذركم الله نفسه وإلى الله المصير قل: إن تخفوا ما في صدوركم أو تبدوه يعلمه الله، ويعلم ما في السماوات وما في الأرض، والله على كل شيء قدير يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضرا، وما عملت من سوء تود لو أن بينها وبينه أمدا بعيدا. ويحذركم الله نفسه والله رءوف بالعباد ..
لقد استجاش السياق القرآني في الفقرة الماضية الشعور بأن الأمر كله لله، والقوة كلها لله، والتدبير كله لله، والرزق كله بيد الله.. فما ولاء المؤمن إذن لأعداء الله؟ إنه لا يجتمع في قلب واحد حقيقة الإيمان بالله وموالاة أعدائه الذين يدعون إلى كتاب الله ليحكم بينهم فيتولون ويعرضون.. ومن ثم جاء هذا التحذير الشديد، وهذا التقرير الحاسم بخروج المسلم من إسلامه إذا هو في الحياة، سواء كانت الموالاة بمودة القلب، أو بنصره، أو باستنصاره سواء: والى من لا يرتضي أن يحكم كتاب الله
لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين. ومن يفعل ذلك فليس من الله في شيء .. [ ص: 386 ] هكذا.. ليس من الله في شيء. لا في صلة ولا نسبة، ولا دين ولا عقيدة، ولا رابطة ولا ولاية.. فهو بعيد عن الله، منقطع الصلة تماما في كل شيء تكون فيه الصلات.
ولكنها تقية اللسان لا ولاء القلب ولا ولاء العمل . قال ويرخص فقط بالتقية لمن خاف في بعض البلدان والأوقات.. - رضي الله عنهما - ليس التقاة بالعمل إنما التقاة باللسان .. فليس من التقية المرخص فيها أن تقوم المودة بين المؤمن وبين الكافر - والكافر هو الذي لا يرضى بتحكيم كتاب الله في الحياة على الإطلاق، كما يدل السياق هنا ضمنا وفي موضع آخر من السورة تصريحا - كما أنه ليس من التقية المرخص بها أن يعاون المؤمن الكافر بالعمل في صورة من الصور باسم التقية. فما يجوز هذا الخداع على الله!. ابن عباس
ولما كان الأمر في هذه الحالة متروكا للضمائر ولتقوى القلوب وخشيتها من علام الغيوب، فقد تضمن التهديد تحذير المؤمنين من نقمة الله وغضبه في صورة عجيبة من التعبير حقا:
ويحذركم الله نفسه. وإلى الله المصير ..
ثم يتابع السياق التحذير ولمس القلوب، وإشعارها أن عين الله عليها، وأن علم الله يتابعها:
قل: إن تخفوا ما في صدوركم أو تبدوه يعلمه الله، ويعلم ما في السماوات وما في الأرض والله على كل شيء قدير ..
وهو إمعان في التحذير والتهديد، واستجاشة الخشية واتقاء التعرض للنقمة التي يساندها العلم والقدرة، فلا ملجأ منها ولا نصرة!.
ثم يتابع السياق التحذير ولمس القلوب خطوة أخرى كذلك باستحضار اليوم المرهوب; الذي لا يند فيه عمل ولا نية; والذي تواجه فيه كل نفس برصيدها كله:
يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضرا، وما عملت من سوء تود لو أن بينها وبينه أمدا بعيدا ..
وهي مواجهة تأخذ المسالك على القلب البشري، وتحاصره برصيده من الخير والسوء. وتصور له نفسه وهو يواجه هذا الرصيد، ويود - ولكن لات حين مودة! - لو أن بينه وبين السوء الذي عمله أمدا بعيدا.
أو أن بينه وبين هذا اليوم كله أمدا بعيدا. بينما هو في مواجهته، آخذ بخناقه، ولات حين خلاص، ولات حين فرار!.
ثم يتابع السياق الحملة على القلب البشري، فيكرر تحذير الله للناس من نفسه - سبحانه - :
ويحذركم الله نفسه ..
ويذكرهم رحمته في هذا التحذير والفرصة متاحة قبل فوات الأوان:
والله رءوف بالعباد ..
ومن رأفته هذا التحذير وهذا التذكير. وهو دليل على .. إرادته الخير والرحمة بالعباد
وتشي هذه الحملة الضخمة المنوعة الإيماءات والإيحاءات والأساليب والإشارات، بما كان واقعا في حياة الجماعة المسلمة من خطورة تميع العلاقات بين أفراد من المعسكر المسلم وأقربائهم وأصدقائهم وعملائهم في مكة مع المشركين وفي المدينة مع اليهود . تحت دوافع القرابة أو التجارة.. على حين يريد الإسلام أن يقيم أساس المجتمع المسلم الجديد على قاعدة العقيدة وحدها ، وعلى قاعدة المنهج المنبثق من هذه العقيدة.. الأمر الذي لا يسمح الإسلام فيه بالتميع والأرجحة إطلاقا.. [ ص: 387 ] كذلك يشي بحاجة القلب البشري في كل حين إلى الجهد الناصب للتخلص من هذه الأوهاق، والتحرر من تلك القيود، والفرار إلى الله والارتباط بمنهجه دون سواه.
، ولو كان على غير دينه.. ولكن الولاء شيء آخر غير المعاملة بالحسنى. الولاء ارتباط وتناصر وتواد . وهذا لا يكون - في قلب يؤمن بالله حقا - إلا للمؤمنين الذين يرتبطون معه في الله; ويخضعون معه لمنهجه في الحياة ويتحاكمون إلى كتابه في طاعة واتباع واستسلام. والإسلام لا يمنع أن يعامل المسلم بالحسنى من لا يحاربه في دينه