الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      ومصدقا لما بين يدي من التوراة، ولأحل لكم بعض الذي حرم عليكم. وجئتكم بآية من ربكم فاتقوا الله وأطيعون. إن الله ربي وربكم فاعبدوه. هذا صراط مستقيم .. [ ص: 400 ] وهذا الختام في دعوة عيسى - عليه السلام - لبني إسرائيل يتكشف عن حقائق أصيلة في طبيعة دين الله، وفي مفهوم هذا الدين في دعوة الرسل جميعا - عليهم الصلاة والسلام - وهي حقائق ذات قيمة خاصة حين ترد على لسان عيسى - عليه السلام - بالذات، وهو الذي ثار حول مولده وحقيقته ما ثار من الشبهات، التي نشأت كلها من الانحراف عن حقيقة دين الله التي لا تتبدل بين رسول ورسول.

                                                                                                                                                                                                                                      فهو إذ يقول: ومصدقا لما بين يدي من التوراة ولأحل لكم بعض الذي حرم عليكم ..

                                                                                                                                                                                                                                      يكشف عن طبيعة المسيحية الحقة. فالتوراة التي تنزلت على موسى - عليه السلام - وهي تتضمن التشريع المنظم لحياة الجماعة وفق حاجة ذلك الزمان، وملابسات حياة بني إسرائيل "بما أنها ديانة خاصة لمجموعة من البشر في فترة من الزمان" - هذه التوراة معتمدة في رسالة المسيح عليه السلام; وجاءت رسالته مصدقة لها، مع تعديلات تتعلق بإحلال بعض ما حرم الله عليهم، وكان تحريمه في صورة عقوبات حلت بهم على معاص وانحرافات، أدبهم الله عليها بتحريم بعض ما كان حلالا لهم. ثم شاءت إرادته أن يرحمهم بالمسيح عليه السلام، فيحل لهم بعض الذي حرم عليهم.

                                                                                                                                                                                                                                      ومن هذا يتبين أن طبيعة الدين - أي دين - أن يتضمن تنظيما لحياة الناس بالتشريع ; وألا يقتصر على الجانب التهذيبي الأخلاقي وحده، ولا على المشاعر الوجدانية وحدها، ولا على العبادات والشعائر وحدها كذلك. فهذا لا يكون دينا. فما الدين إلا منهج الحياة الذي أراده الله للبشر ; ونظام الحياة الذي يربط حياة الناس بمنهج الله.

                                                                                                                                                                                                                                      ولا يمكن أن ينفك عنصر العقيدة الإيمانية، عن الشعائر التعبدية، عن القيم الخلقية، عن الشرائع التنظيمية، في أي دين يريد أن يصرف حياة الناس وفق المنهج الإلهي. وأي انفصال لهذه المقومات يبطل عمل الدين في النفوس وفي الحياة; ويخالف مفهوم الدين وطبيعته كما أراده الله.

                                                                                                                                                                                                                                      وهذا ما حدث للمسيحية. فإنها لعدة ملابسات تاريخية من ناحية; ولكونها جاءت موقوتة لزمن - حتى يجيء الدين الأخير - ثم عاشت بعد زمنها من ناحية.. قد انفصل فيها الجانب التشريعي التنظيمي عن الجانب الروحاني التعبدي الأخلاقي.. فقد حدث أن قامت العداوة المستحكمة بين اليهود والمسيح عليه السلام وأنصاره ومن اتبع دينه فيما بعد; فأنشأ هذا انفصالا بين التوراة المتضمنة للشريعة والإنجيل المتضمن للإحياء الروحي والتهذيب الأخلاقي.. كما أن تلك الشريعة كانت شريعة موقوتة لزمن خاص ولجماعة من الناس خاصة. وكان في تقدير الله أن الشريعة الدائمة الشاملة للبشرية كلها ستجيء في موعدها المقدور.

                                                                                                                                                                                                                                      وعلى أية حال فقد انتهت المسيحية إلى أن تكون نحلة بغير شريعة . وهنا عجزت عن أن تقود الحياة الاجتماعية للأمم التي عاشت عليها. فقيادة الحياة الاجتماعية تقتضي تصورا اعتقاديا يفسر الوجود كله، ويفسر حياة الإنسان ومكانه في الوجود; وتقتضي نظاما تعبديا وقيما أخلاقية. ثم تقتضي - حتما - تشريعات منظمة لحياة الجماعة، مستمدة من ذلك التصور الاعتقادي، ومن هذا النظام التعبدي، ومن هذه القيم الأخلاقية. وهذا القوام التركيبي للدين هو الذي يضمن قيام نظام اجتماعي، له بواعثه المفهومة، وله ضماناته المكينة.. فلما وقع ذلك الانفصال في الدين المسيحي عجزت المسيحية عن أن تكون نظاما شاملا للحياة البشرية ، واضطر أهلها إلى الفصل بين القيم الروحية والقيم العملية في حياتهم كلها، ومن بينهما النظام الاجتماعي الذي تقوم عليه هذه الحياة.

                                                                                                                                                                                                                                      وقامت الأنظمة الاجتماعية هناك على غير قاعدتها الطبيعية الوحيدة. فقامت معلقة في الهواء. أو قامت عرجاء!.

                                                                                                                                                                                                                                      ولم يكن هذا أمرا عاديا في الحياة البشرية، ولا حادثا صغيرا في التاريخ البشري.. إنما كان كارثة:

                                                                                                                                                                                                                                      كارثة ضخمة، تنبع منها الشقوة والحيرة والانحلال والشذوذ والبلاء الذي تتخبط فيه الحضارة المادية اليوم. [ ص: 401 ] سواء في البلاد التي لا تزال تعتنق المسيحية - وهي خالية من النظام الاجتماعي لخلوها من التشريع - أو التي نفضت عنها المسيحية وهي في الحقيقة لم تبعد كثيرا عن الذين يدعون أنهم مسيحيون.. فالمسيحية كما جاء بها السيد المسيح ، وكما هي طبيعة كل دين يستحق كلمة دين، هي الشريعة المنظمة للحياة، المنبثقة من التصور الاعتقادي في الله، ومن القيم الأخلاقية المستندة إلى هذا التصور.. وبدون هذا القوام الشامل المتكامل لا تكون مسيحية. ولا يكون دين على الإطلاق! وبدون هذا القوام الشامل المتكامل لا يقوم نظام اجتماعي للحياة البشرية يلبي حاجات النفس البشرية، ويلبي واقع الحياة البشرية، ويرفع النفس البشرية والحياة البشرية كلها إلى الله.

                                                                                                                                                                                                                                      وهذه الحقيقة هي أحد المفاهيم التي يتضمنها قول المسيح عليه السلام:

                                                                                                                                                                                                                                      ومصدقا لما بين يدي من التوراة ولأحل لكم بعض الذي حرم عليكم .. إلخ..

                                                                                                                                                                                                                                      وهو يستند في تبليغ هذه الحقيقة على الحقيقة الكبرى الأولى: حقيقة التوحيد الذي لا شبهة فيه :

                                                                                                                                                                                                                                      وجئتكم بآية من ربكم فاتقوا الله وأطيعون. إن الله ربي وربكم فاعبدوه. هذا صراط مستقيم ..

                                                                                                                                                                                                                                      فهو يعلن حقيقة التصور الاعتقادي التي قام عليها دين الله كله: المعجزات التي جاءهم بها لم يجئ بها من عند نفسه . فما له قدرة عليها وهو بشر. إنما جاءهم بها من عند الله. ودعوته تقوم ابتداء على تقوى الله وطاعة رسوله.. ثم يؤكد ربوبية الله له ولهم على السواء - فما هو برب وإنما هو عبد - وأن يتوجهوا بالعبادة إلى الرب، فلا عبودية إلا لله .. ويختم قوله بالحقيقة الشاملة.. فتوحيد الرب وعبادته، وطاعة الرسول والنظام الذي جاء به: هذا صراط مستقيم .. وما عداه عوج وانحراف. وما هو قطعا بالدين..

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية