الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      وقبل أن نأخذ في استعراض ذلك التعقيب القرآني على أحداث المعركة يحسن أن نلخص وقائعها كما وردت في روايات السيرة; لندرك مواضع التعقيب والتوجيه حق الإدراك، ولنراقب طريقة التربية الإلهية بالقرآن الكريم، في تناول الوقائع والأحداث:

                                                                                                                                                                                                                                      كان المسلمون قد انتصروا في بدر ، ذلك الانتصار الكامل، الذي تبدو فيه - في ظل الظروف التي وقع فيها - رائحة المعجزة. وقد قتل الله بأيديهم أئمة الكفر ورءوسه من قريش . فرأس في قريش أبو سفيان بن حرب - بعد ذهاب أشرافهم في بدر - فأخذ يؤلب على المسلمين لأخذ الثأر. وكانت القافلة التي تحمل متاجر قريش قد نجت فلم تقع في أيدي المسلمين; فتآمر المشركون على رصد ما فيها من أموال لحرب المسلمين.

                                                                                                                                                                                                                                      وقد جمع أبو سفيان قريبا من ثلاثة آلاف من قريش وأحلافهم والأحابيش وخرج بهم في شوال من السنة الثالثة للهجرة; وجاءوا معهم بنسائهم ليحاموا عنهن ولا يفروا. ثم أقبل بهم نحو المدينة ، فنزل قريبا من جبل أحد .

                                                                                                                                                                                                                                      واستشار رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أصحابه: أيخرج إليهم، أم يمكث في المدينة ؟ وكان رأيه ألا يخرجوا من المدينة ، وأن يتحصنوا بها; فإن دخلوها قاتلهم المسلمون على أفواه الأزقة، والنساء من فوق البيوت . ووافقه على هذا الرأي عبد الله بن أبي "رأس المنافقين" فبادرت جماعة كبيرة من الصحابة - ومعظمهم من الشبان ممن فاتهم يوم بدر - فأشاروا عليه بالخروج وألحوا عليه في ذلك. حتى بدا أن هذا هو الرأي السائد في الجماعة. فنهض - صلى الله عليه وسلم - ودخل بيته - بيت عائشة - رضي الله عنها - ولبس لأمته، وخرج عليهم، وقد انثنى عزم أولئك. وقالوا: أكرهنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على الخروج! فقالوا:

                                                                                                                                                                                                                                      يا رسول الله، إن أحببت أن تمكث في المدينة فافعل. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما ينبغي لنبي إذا لبس لأمته أن يضعها حتى يحكم الله بينه وبين عدوه
                                                                                                                                                                                                                                      .. وألقى عليهم بذلك درسا نبويا عاليا; فللشورى وقتها حتى إذا انتهت جاء وقت العزم والمضي والتوكل على الله. ولم يعد هناك مجال للتردد، وإعادة الشورى والتأرجح بين الآراء.. إنما تمضي الأمور لغاياتها ويفعل الله بعد ذلك ما يشاء.. [ ص: 461 ] وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد رأى في منامه: أن في سيفه ثلمة، ورأى أن بقرا تذبح، وأنه أدخل يده في درع حصينة .. فتأول الثلمة في سيفه برجل يصاب من أهل بيته. وتأول البقر بنفر من أصحابه يقتلون. وتأول الدرع بالمدينة .. وكان إذن يرى عاقبة المعركة. ولكنه في الوقت ذاته كان يمضي نظام الشورى، ونظام الحركة بعد الشورى.. لقد كان يربي أمة. والأمم تربى بالأحداث، وبرصيد التجارب الذي تتمخض عنه الأحداث.. ثم لقد كان يمضي قدر الله، الذي تستقر عليه مشاعره، ويستقر عليه قلبه، فيمضي وفق مواقع هذا القدر، كما يحسها في قلبه الموصول..

                                                                                                                                                                                                                                      وخرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في ألف من أصحابه، واستعمل ابن أم مكتوم على الصلاة بمن بقي في المدينة ، فلما صار بين المدينة وأحد ، انعزل رأس النفاق: عبد الله بن أبي بنحو ثلث العسكر. وقال:

                                                                                                                                                                                                                                      يخالفني ويسمع للفتية! فتبعهم عبد الله بن عمرو بن حرام - والد جابر بن عبد الله - رضي الله عنهما - يوبخهم ويحضهم على الرجوع. ويقول: تعالوا قاتلوا في سبيل الله، أو ادفعوا. قالوا: لو نعلم أنكم تقاتلون لم نرجع! فرجع عنهم وسبهم.

                                                                                                                                                                                                                                      وسأله قوم من الأنصار أن يستعينوا بحلفائهم من يهود .. فأبى - صلى الله عليه وسلم - فالمعركة هي معركة الإيمان والكفر فما ليهود بها؟ والنصر من عند الله - حين يصح التوكل عليه وتتجرد القلوب له - وقال: من رجل يخرج بنا على القوم من كثب؟ فخرج به بعض الأنصار حتى نزل الشعب من أحد في عدوة الوادي ، وجعل ظهره إلى أحد ، ونهى الناس عن القتال حتى يأمرهم.

                                                                                                                                                                                                                                      فلما أصبح تعبأ للقتال في سبعمائة، فيهم خمسون فارسا، واستعمل على الرماة - وكانوا خمسين - عبد الله بن جبير ، وأمره وأصحابه أن يلزموا مركزهم، وألا يفارقوه ولو رأوا الطير تتخطف العسكر. وكانوا خلف الجيش. وأمرهم أن ينضحوا المشركين بالنبل لئلا يأتوا المسلمين من ورائهم.

                                                                                                                                                                                                                                      وظاهر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بين درعين. وأعطى اللواء مصعب بن عمير . وجعل على إحدى المجنبتين الزبير بن العوام ، وعلى الأخرى المنذر بن عمرو . واستعرض الشبان يومئذ، فرد من استصغره عن القتال. وكان منهم عبد الله بن عمرو ، وأسامة بن زيد ، وأسيد بن ظهير ، والبراء بن عازب ، وزيد ابن أرقم ، وزيد بن ثابت ، وعرابة بن أوس ، وعمرو بن حزام . وأجاز من رآه مطيقا. وكان منهم سمرة بن جندب ، ورافع بن خديج ، ولهما خمس عشرة سنة!.

                                                                                                                                                                                                                                      وتعبأت قريش للقتال وهم في ثلاثة آلاف. وفيهم مائتا فارس. فجعلوا على ميمنتهم خالد بن الوليد ، وعلى الميسرة عكرمة بن أبي جهل .

                                                                                                                                                                                                                                      ودفع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سيفه إلى أبي دجانة سماك بن خرشة . وكان شجاعا بطلا يختال عند الحرب.

                                                                                                                                                                                                                                      وكان أول من بدر من المشركين أبو عامر الفاسق . وكان يسمى "الراهب" فسماه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "الفاسق" . وكان رأس الأوس في الجاهلية. فلما جاء الإسلام شرق به، وجاهر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالعداوة، فخرج من المدينة ، وذهب إلى قريش يؤلبهم على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ويحضهم على قتاله. ووعدهم بأن قومه إذا رأوه أطاعوه ومالوا معه. فكان أول من لقي المسلمين. فنادى قومه، وتعرف إليهم. فقالوا له: لا أنعم الله بك عينا يا فاسق! فقال: لقد أصاب قومي بعدي شر! ثم قاتل المسلمين قتالا شديدا.

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 462 ] ولما نشب القتال أبلى أبو دجانة الأنصاري بلاء حسنا. هو وطلحة بن عبيد الله ، وحمزة بن عبد المطلب ، وعلي بن أبي طالب ، والنضر بن أنس ، وسعد بن الربيع ..

                                                                                                                                                                                                                                      وكانت الدولة أول النهار للمسلمين على الكفار; حيث قتل من هؤلاء سبعون من صناديدهم. وانهزم أعداء الله وولوا مدبرين. حتى انتهوا إلى نسائهم. وحتى شمرت النساء ثيابهن عن أرجلهن هاربات!.

                                                                                                                                                                                                                                      فلما رأى الرماة هزيمة المشركين وانكشافهم، تركوا مراكزهم التي أمرهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ألا يبرحوها. وقالوا: يا قوم، الغنيمة! الغنيمة! فذكرهم أميرهم عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلم يسمعوا، وظنوا أن ليس للمشركين رجعة! فذهبوا في طلب الغنيمة، وأخلوا الثغر في أحد !.

                                                                                                                                                                                                                                      عندئذ أدركها خالد ، فكر في خيل المشركين، فوجدوا الثغر خاليا فاحتلوه من خلف ظهور المسلمين. وأقبل المنهزمون من المشركين حين رأوا خالدا والفرسان قد علوا المسلمين، فأحاطوا بهم!.

                                                                                                                                                                                                                                      وانقلبت المعركة، فدارت الدائرة على المسلمين، ووقع الهرج والمرج في الصف، واستولى الاضطراب والذعر، لهول المفاجأة التي لم يتوقعها أحد. وكثر القتل واستشهد من المسلمين من كتب الله له الشهادة، وخلص المشركون إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقد أفرد إلا من نفر يعدون على الأصابع قاتلوا عنه حتى قتلوا.

                                                                                                                                                                                                                                      وقد جرح وجهه - صلى الله عليه وسلم - وكسرت سنه الرباعية اليمنى في الفك الأسفل. وهشمت البيضة على رأسه. ورماه المشركون بالحجارة حتى وقع لجنبه، وسقط في حفرة من الحفر التي كان أبو عامر الفاسق قد حفرها وغطاها! يكيد بها المسلمين. وغاصت حلقتان من حلق المغفر في وجنته.

                                                                                                                                                                                                                                      وفي وسط هذا الهول المحيط بالمسلمين صاح صائح: أن محمدا قتل.. فكانت الطامة التي هدت ما بقي من قواهم، فانقلبوا على أعقابهم مهزومين هزيمة منكرة لا يحاولون قتالا، مما أصابهم من اليأس والكلال!.

                                                                                                                                                                                                                                      ولما انهزم الناس لم ينهزم أنس بن النضر - رضي الله عنه - وقد انتهى إلى عمر بن الخطاب وطلحة بن عبيد الله في رجال من المهاجرين والأنصار قد ألقوا بأيديهم! فقال: ما يجلسكم؟ فقالوا: قتل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: فما تصنعون بالحياة بعده؟ فقوموا فموتوا على ما مات عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثم استقبل المشركين ولقي سعد بن معاذ فقال: يا سعد واها لريح الجنة إني أجدها من دون أحد ! فقاتل حتى قتل.. ووجد به بضع وسبعون ضربة. ولم تعرفه إلا أخته. عرفته ببنانه..

                                                                                                                                                                                                                                      وأقبل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نحو المسلمين. وكان أول من عرفه تحت المغفر، كعب بن مالك . فصاح بأعلى صوته: يا معشر المسلمين. أبشروا. هذا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأشار بيده:

                                                                                                                                                                                                                                      أن اسكت. واجتمع إليه المسلمون. ونهضوا معه إلى الشعب. وفيهم أبو بكر وعمر والحارث بن الصمة الأنصاري وغيرهم.. فلما امتدوا صعودا في الجبل أدرك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أبي بن خلف على جواد له اسمه العود. كان يطعمه في مكة ويقول: أقتل عليه محمدا . فلما سمع بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: بل أنا أقتله إن شاء الله.. فلما أدركه تناول - صلى الله عليه وسلم - الحربة من الحارث وطعن بها عدو الله في ترقوته. فذهب يخور كالثور . وقد أيقن أنه مقتول. كما قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من قبل! ومات بالفعل في طريق عودته!.

                                                                                                                                                                                                                                      وأشرف أبو سفيان على الجبل فنادى: أفيكم محمد ؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا تجيبوه.

                                                                                                                                                                                                                                      فقال: أفيكم ابن أبي قحافة ؟ فلم يجيبوه. فقال: أفيكم عمر بن الخطاب ؟ فلم يجيبوه. ولم يسأل إلا عن هؤلاء الثلاثة. فقال: مخاطبا قومه: أما هؤلاء فقد كفيتموهم. فلم يملك عمر - رضي الله عنه - نفسه [ ص: 463 ] أن قال: يا عدو الله. إن الذين ذكرتهم أحياء. وقد أبقى الله لك ما يسوؤك! فقال: قد كان في القوم مثلة، لم آمر بها ولم تسؤني! (يشير بذلك إلى ما صنعته زوجه هند بجثمان حمزة - رضي الله عنه - بعد أن قتله وحشي حين بقرت بطنه، واستخرجت كبده. فلاكتها ثم لفظتها!) ثم قال: اعل هبل! فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ألا تجيبونه؟ قالوا: بماذا نجيبه؟ قال:

                                                                                                                                                                                                                                      قولوا: الله أعلى وأجل. قال: لنا العزى ولا عزى لكم! قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ألا تجيبونه؟ قالوا: بماذا نجيبه؟ قال: قولوا: الله مولانا ولا مولى لكم.. قال أبو سفيان : يوم بيوم بدر والحرب سجال. فقال عمر - رضي الله عنه - : لا سواء. قتلانا في الجنة وقتلاكم في النار
                                                                                                                                                                                                                                      .

                                                                                                                                                                                                                                      ولما انقضت المعركة انصرف المشركون، فظن المسلمون أنهم قصدوا المدينة لسبي الذراري وإحراز الأموال.

                                                                                                                                                                                                                                      فشق ذلك عليهم. فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - لعلي بن أبي طالب - رضي الله عنه - اخرج في آثار القوم، فانظر ماذا يصنعون، وماذا يريدون. فإن هم جنبوا الخيل وامتطوا الإبل فإنهم يريدون مكة . وإن كانوا ركبوا الخيل وساقوا الإبل فإنهم يريدون المدينة . فوالذي نفسي بيده لو أرادوها لأسيرن إليهم ثم لأناجزهم فيها" ..

                                                                                                                                                                                                                                      قال علي : فخرجت في آثارهم أنظر ماذا يصنعون. فجنبوا الخيل وامتطوا الإبل، ووجهوا مكة .

                                                                                                                                                                                                                                      فلما كانوا في بعض الطريق تلاوموا فيما بينهم، وقال بعضهم: لم تصنعوا شيئا، أصبتم شوكتهم وحدهم، ثم تركتموهم وقد بقي منهم رؤوس يجمعون لكم. فارجعوا حتى نستأصل شأفتهم.. فبلغ ذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فنادى في الناس، وندبهم إلى المسير إلى لقاء عدوهم وقال: "لا يخرج معنا إلا من شهد القتال. فقال له عبد الله بن أبي : أركب معك. قال: لا. فاستجاب له المسلمون على ما بهم من الجرح الشديد والخوف; وقالوا: سمعا وطاعة. وأستأذنه جابر بن عبد الله . وقال: يا رسول الله إني أحب ألا تشهد مشهدا إلا كنت معك، وإنما خلفني أبي على بناته يوم أحد ، فائذن لي أسير معك، فأذن له، فسار رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والمسلمون معه حتى بلغوا حمراء الأسد ; وأقبل معبد بن أبي معبد الخزاعي إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأمره أن يلحق بأبي سفيان فيخذله، فلحقه بالروحاء ، ولم يعلم بإسلامه، فقال: وما وراءك يا معبد ؟ فقال: محمد وأصحابه قد تحرقوا عليكم، وخرجوا في جمع لم يخرجوا في مثله، وقد ندم من كان تخلف عنهم من أصحابهم. فقال: ما تقول؟ فقال: ما أرى أن ترتحل حتى يطلع الجيش وراء هذه الأكمة! فقال أبو سفيان : والله لقد أجمعنا الكرة عليهم لنستأصلهم. قال: فلا تفعل فإني لك ناصح! فرجعوا على أعقابهم إلى مكة .

                                                                                                                                                                                                                                      ولقي أبو سفيان بعض المشركين يريدون المدينة ; فقال: هل لك أن تبلغ محمدا رسالة، وأوقر لك راحلتك زبيبا إذا أتيت إلى مكة ؟ قال: نعم. قال: أبلغ محمدا أنا قد جمعنا الكرة لنستأصله ونستأصل أصحابه. فلما بلغهم قوله قالوا: حسبنا الله ونعم الوكيل. ولم يفت ذلك في عضدهم. وأقاموا ثلاثة أيام ينتظرون. ثم عرفوا أن المشركين أبعدوا في طريقهم إلى مكة منصرفين . فعادوا إلى المدينة ..


                                                                                                                                                                                                                                      وبعد فإن هذا الملخص لأحداث الغزوة لا يصور كل جوانبها، ولا يسجل كل ما وقع فيها، مما هو موضع المثل والعبرة.. ومن ثم نذكر بعض الوقائع الموحية، تكملة لرسم الجو واستحيائه:

                                                                                                                                                                                                                                      كان عمرو بن قميئة من المشركين الذين خلصوا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين أفرد في فترة [ ص: 464 ] اضطراب المعركة، عقب تخلي الرماة عن أماكنهم، وإحاطة الكفار بالمسلمين، والصيحة بأن محمدا قتل، وما صنعته في صفوف المسلمين وعزائمهم.

                                                                                                                                                                                                                                      وفي هذه الغمرة التي يطيش فيها الحليم كانت أم عمارة نسيبة بنت كعب المازنية تقاتل عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قتالا شديدا. وقد ضربت عمر بن قميئة بسيفها ضربات عدة، ولكن وقته درعان كانتا عليه. وضربها هو بالسيف فجرحها جرحا شديدا على عاتقها..

                                                                                                                                                                                                                                      وكان أبو دجانة يترس بظهره على النبي - صلى الله عليه وسلم - والنبل يقع فيه، وهو لا يتحرك، ولا يكشف رسول الله صلى الله عليه وسلم.

                                                                                                                                                                                                                                      وكان طلحة بن عبيد الله يثوب سريعا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ويقف دونه وحده، حتى يصرع.. في صحيح ابن حبان عن عائشة قالت: قال أبو بكر الصديق : لما كان يوم أحد ، انصرف الناس كلهم عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فكنت أول من فاء إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فرأيت بين يديه رجلا يقاتل عنه ويحميه. قلت: كن طلحة ! فداك أبي وأمي! كن طلحة ! فداك أبي وأمي! فلم أنشب أن أدركني أبو عبيدة بن الجراح . وإذا هو يشتد كأنه طير، حتى لحقني، فدفعنا إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فإذا طلحة بين يديه صريعا. فقال صلى الله عليه وسلم: "دونكم أخاكم فقد أوجب وقد رمي النبي - صلى الله عليه وسلم - في وجنته، حتى غابت حلقة من حلق المغفر في وجنته. فذهبت لأنزعها عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال أبو عبيدة : نشدتك الله يا أبا بكر إلا تركتني! قال: فأخذ أبو عبيدة السهم بفيه، فجعل ينضنضه كراهة أن يؤذي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثم استل السهم بفيه، فندرت ثنية أبي عبيدة . قال أبو بكر : ثم ذهبت لآخذ الآخر، فقال أبو عبيدة : نشدتك الله يا أبا بكر إلا تركتني! قال: فأخذه، فجعل ينضنضه حتى استله، فندرت ثنية أبي عبيدة الأخرى.. ثم قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "دونكم أخاكم فقد أوجب" قال: فأقبلنا على طلحة نعالجه. وقد أصابته بضع عشرة ضربة.

                                                                                                                                                                                                                                      وجاء علي - كرم الله وجهه - بالماء لغسل جرح رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فكان يصب الماء على الجرح، وفاطمة - رضي الله عنها - تغسله. فلما رأت أن الدم لا يكف، أخذت قطعة من حصير، فأحرقتها، فألصقتها بالجرح فاستمسك الدم.

                                                                                                                                                                                                                                      وقد مص مالك والد أبي سعيد الخدري جرح رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى أنقاه. فقال له:

                                                                                                                                                                                                                                      "مجه" فقال: والله لا أمجه أبدا! ثم ذهب، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : "من أراد أن ينظر إلى رجل من أهل الجنة فلينظر إلى هذا
                                                                                                                                                                                                                                      ..

                                                                                                                                                                                                                                      وفي صحيح مسلم أنه - صلى الله عليه وسلم - أفرد يوم أحد في سبعة من الأنصار ورجلين من قريش . فلما رهقوه قال: من يردهم عني وله الجنة؟" فتقدم رجل من الأنصار ، فقاتل حتى قتل. ثم رهقوه فقال: "من يردهم عني فله الجنة وهو رفيقي في الجنة" .. فلم يزل كذلك حتى قتل السبعة. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "ما أنصفنا أصحابنا" .. ثم جالدهم طلحة حتى أجهضهم عنه. وترس عليه أبو دجانة بظهره كما أسلفنا، حتى انجلت الكربة.. وقد بلغ الإعياء برسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه وهو يصعد الجبل والمشركون يتبعونه أراد أن يعلو صخرة فلم يستطع لما به، فجلس طلحة تحته حتى صعدها. وحانت الصلاة. فصلى بهم جالسا.

                                                                                                                                                                                                                                      ومن أحداث هذا اليوم كذلك: [ ص: 465 ] أن حنظلة الأنصاري (الملقب بحنظلة الغسيل) شد على أبي سفيان ، فلما تمكن منه حمل على حنظلة شداد ابن الأسود فقتله. وكان جنبا. فإنه لما سمع صيحة الحرب وهو مع امرأته، قام من فوره إلى الجهاد. فأخبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أصحابه أن الملائكة تغسله. ثم قال: سلوا أهله ما شأنه؟ فسألوا امرأته، فأخبرتهم الخبر!.

                                                                                                                                                                                                                                      وقال زيد بن ثابت : بعثني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم أحد أطلب سعد بن الربيع . قال:

                                                                                                                                                                                                                                      فجعلت أطوف بين القتلى، فأتيته وهو بآخر رمق، وبه سبعون ضربة، ما بين طعنة برمح، وضربة بسيف، ورمية بسهم. فقلت: يا سعد . إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقرأ عليك السلام، ويقول لك:

                                                                                                                                                                                                                                      أخبرني كيف تجدك؟ فقال: وعلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - السلام. قل له: يا رسول الله أجد ريح الجنة. وقل لقومي الأنصار : لا عذر لكم عند الله إن خلص إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وفيكم عين تطرف.. وفاضت نفسه من وقته.


                                                                                                                                                                                                                                      ومر رجل من المهاجرين برجل من الأنصار ، وهو يتشحط في دمه، فقال: يا فلان. أشعرت أن محمدا قد قتل؟ فقال الأنصاري: إن كان محمد قد قتل فقد بلغ، فقاتلوا عن دينكم.

                                                                                                                                                                                                                                      وقال عبد الله بن عمرو بن حرام : رأيت في النوم، قبل أحد ، مبشر بن عبد المنذر يقول لي: أنت قادم علينا في أيام. فقلت. وأين أنت؟ فقال: في الجنة، نسرح فيها حيث نشاء. قلت له ألم تقتل يوم بدر ؟ فقال: بلى. ثم أحييت. فذكرت ذلك لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: "هذه الشهادة يا أبا جابر ..

                                                                                                                                                                                                                                      وقال خيثمة - وكان ابنه قد استشهد مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم بدر : لقد أخطأتني وقعة بدر ، وكنت والله عليها حريصا، حتى ساهمت ابني في الخروج، فخرج سهمه، فرزق الشهادة. وقد رأيت البارحة ابني في النوم في أحسن صورة، يسرح في ثمار الجنة وأنهارها يقول: الحق بنا ترافقنا في الجنة، فقد وجدت ما وعدني ربي حقا. وقد - والله يا رسول الله - أصبحت مشتاقا إلى مرافقته في الجنة. وقد كبرت سني، ورق عظمي، وأحببت لقاء ربي. فادع الله يا رسول الله أن يرزقني الشهادة، ومرافقة سعد في الجنة.

                                                                                                                                                                                                                                      فدعا له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بذلك. فقتل بأحد شهيدا.


                                                                                                                                                                                                                                      وقال عبد الله بن جحش في ذلك اليوم: اللهم إني أقسم عليك أن ألقى العدو غدا، فيقتلوني، ثم يبقروا بطني، ويجدعوا أنفي وأذني. ثم تسألني فيم ذلك؟ فأقول: فيك !.

                                                                                                                                                                                                                                      وكان عمرو بن الجموح أعرج شديد العرج، وكان له أربعة بنين شباب، يغزون مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا غزا. فلما توجه إلى أحد أراد أن يتوجه معه، فقال له بنوه: إن الله قد جعل لك رخصة، فلو قعدت ونحن نكفيك! وقد وضع الله عنك الجهاد. فأتى عمرو بن الجموح رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله. إن بني هؤلاء يمنعونني أن أخرج معك. والله إني لأرجو أن أستشهد، فأطأ بعرجتي هذه في الجنة. فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "أما أنت فقد وضع الله عنك الجهاد".

                                                                                                                                                                                                                                      وقال لبنيه: "وما عليكم أن تدعوه؟ لعل الله عز وجل أن يرزقه الشهادة؟" .. فخرج مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقتل يوم أحد شهيدا
                                                                                                                                                                                                                                      .

                                                                                                                                                                                                                                      وفي مضطرب المعركة نظر حذيفة بن اليمان إلى أبيه والمسلمون يريدون قتله، لا يعرفونه، وهم يظنونه من المشركين. فقال حذيفة : أي عباد الله، أبي. فلم يفهموا قوله حتى قتلوه. فقال: يغفر الله لكم. فأراد [ ص: 466 ] رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يؤدي ديته. فقال حذيفة : قد تصدقت بديته على المسلمين. فزاد ذلك حذيفة خيرا عند رسول الله .

                                                                                                                                                                                                                                      وقال وحشي غلام جبير بن مطعم يصف مصرع حمزة سيد الشهداء في هذه الغزوة: قال لي جبير : إن قتلت حمزة عم محمد فأنت عتيق. قال: فخرجت مع الناس. وكنت رجلا حبشيا، أقذف بالحربة قذف الحبشة ، قلما أخطئ بها شيئا. فلما التقى الناس خرجت أنظر حمزة وأتبصره، حتى رأيته كأنه الجمل الأورق، يهد الناس بسيفه هدا، ما يقوم له شيء. فو الله إني لأتهيأ له أريده، وأستتر منه بشجرة أو بحجر ليدنو مني.

                                                                                                                                                                                                                                      إذ تقدمني إليه سباع بن عبد العزى ، فلما رآه حمزة ضربه ضربة كأنما اختطف رأسه، فهززت حربتي حتى إذا رضيت عنها دفعتها عليه، فوقعت في ثنته (أحشائه) حتى خرجت من بين رجليه. وذهب لينوء نحوي فغلب. وتركته وإياها حتى مات. ثم أتيته فأخذت حربتي ورجعت إلى المعسكر، فقعدت فيه. إذ لم تكن لي بغيره حاجة. إنما قتلت لأعتق..

                                                                                                                                                                                                                                      وقد جاءت هند بنت عتبة زوج أبي سفيان ، فبقرت بطن حمزة ، وأخرجت كبده، ولاكتها فلم تقدر عليها. فألقتها..

                                                                                                                                                                                                                                      ولما وقف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعد المعركة على جثمان حمزة - رضي الله عنه - تأثر تأثرا شديدا. وقال - صلى الله عليه وسلم - : "لن أصاب بمثلك أبدا. وما وقفت قط موقفا أغيظ إلي من هذا" ..

                                                                                                                                                                                                                                      ثم قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "أكلت شيئا؟" قالوا: لا. قال: ما كان الله ليدخل شيئا من حمزة في النار
                                                                                                                                                                                                                                      ..

                                                                                                                                                                                                                                      وقد أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يدفن شهداء أحد في مصارعهم، ولا ينقلوا إلى مقابر المدينة . وكان بعض الصحابة قد نقلوا قتلاهم. فنادى منادي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - برد القتلى إلى مصارعهم فردوا. ووقف - صلوات الله وسلامه عليه - يدفن الرجلين والثلاثة في اللحد الواحد. وكان يسأل: أيهم أكثر أخذا في القرآن؟ فإذا أشاروا إلى رجل قدمه في اللحد. ودفن عبد الله بن عمرو بن حرام وعمرو بن الجموح في قبر واحد لما كان بينهما من المحبة. فقال: "ادفنوا هذين المتحابين في الدنيا في قبر واحد" .

                                                                                                                                                                                                                                      هذه بعض اللقطات من المعركة التي تجاور فيها النصر والهزيمة، لا تفرق بينهما إلا لحظة من الزمان، وإلا مخالفة عن الأمر، وإلا حركة من الهوى، وإلا لفتة من الشهوة! والتي تجاورت فيها القيم العالية والسفوح الهابطة! والنماذج الفريدة في تاريخ الإيمان والبطولة، وفي تاريخ النفاق والهزيمة!.

                                                                                                                                                                                                                                      وهي مجموعة تكشف عن حالة من عدم التناسق في الصف حينذاك، كما تكشف عن حالة من الغبش في تصورات بعض المسلمين.. وهذه وتلك أنشأت - وفق سنة الله وقدره - هذه النتائج التي ذاقها المسلمون; وهذه التضحيات الجسام، التي تتراءى على قمتها تلك التي أصابت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والتي لا شك أن الصحابة حين ذاك كانوا يحسونها بعمق وعنف، ويرونها أشد ما نالهم من الآلام. وقد دفعوا الثمن غاليا ليتلقوا الدرس عاليا، وليمحص الله القلوب ويميز الصفوف، وليعد الجماعة المسلمة للمهمة العظمى التي ناطها بها: مهمة القيادة الراشدة للبشرية، وإقرار منهج الله في الأرض في صورته المثالية الواقعية..

                                                                                                                                                                                                                                      فلننظر إذن كيف عالج القرآن الكريم الموقف بطريقة القرآن. [ ص: 467 ] إن النص القرآني لا يتتبع أحداث المعركة للرواية والعرض; ولكنه يتتبع دخائل النفوس وخوالج القلوب ويتخذ من الأحداث مادة تنبيه وتنوير وتوجيه..

                                                                                                                                                                                                                                      وهو لا يعرض الحوادث عرضا تاريخيا مسلسلا بقصد التسجيل; إنما هو يعرضها للعبرة والتربية واستخلاص القيم الكامنة وراء الحوادث; ورسم سمات النفوس، وخلجات القلوب، وتصوير الجو الذي صاحبها; والسنن الكونية التي تحكمها; والمبادئ الباقية التي تقررها. وبذلك تستحيل الحادثة محورا أو نقطة ارتكاز لثروة ضخمة من المشاعر والسمات، والنتائج والاستدلالات. يبدأ السياق منها; ثم يستطرد حولها; ثم يعود إليها; ثم يجول في أعماق الضمائر، وفي أغوار الحياة; ويكرر هذا مرة بعد مرة، حتى ينتهي برواية الحادث إلى نهايتها وقد ضم جناحيه على حفل من المعاني والدلائل والقيم والمبادئ، لم تكن رواية الحادث إلا وسيلة إليها، ونقطة ارتكاز تتجمع حواليها. وحتى يكون قد تناول ملابسات الحادث وعقابيله في الضمائر، فجلاها. ونقاها، وأراحها في مواضعها، فلا تجد النفس منها حيرة ولا قلقا، ولا تحس فيها لبسا ولا دخلا..

                                                                                                                                                                                                                                      وينظر الإنسان في رقعة المعركة، وما وقع فيها - على سعته وتنوعه - ثم ينظر إلى رقعه التعقيب القرآني، وما تناوله من جوانب; فإذا هذه الرقعة أوسع من تلك، وأبقى على الزمن، وألصق بالقلوب، وأعمق في النفوس، وأقدر على تلبية حاجات النفس البشرية، وحاجات الجماعة الإسلامية، في كل موقف تتعرض له في هذا المجال، على تتابع الأجيال. فهي تتضمن الحقائق الباقية من وراء الأحداث الزائلة، والمبادئ المطلقة من وراء الحوادث المفردة، والقيم الأصيلة من وراء الظواهر العارضة، والرصيد الصالح للتزود بغض النظر عن اعتبارات الزمان والمكان..

                                                                                                                                                                                                                                      وهذه الحصيلة الباقية تدخرها النصوص القرآنية لكل قلب يتفتح بالإيمان، في أي زمان وفي أي مكان..

                                                                                                                                                                                                                                      وسنعرض لها متجمعة - إن شاء الله - بعد استعراضها متفرقة في النصوص..

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية