وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل إن الله نعما يعظكم به إن الله كان سميعا بصيرا إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلا يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت وقد أمروا أن يكفروا به ويريد الشيطان أن يضلهم ضلالا بعيدا ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول رأيت المنافقين يصدون عنك صدودا فكيف إذا أصابتهم مصيبة بما قدمت أيديهم ثم جاءوك يحلفون بالله إن أردنا إلا إحسانا وتوفيقا أولئك الذين يعلم الله ما في قلوبهم فأعرض عنهم وعظهم وقل لهم في أنفسهم قولا بليغا وما أرسلنا من رسول إلا ليطاع بإذن الله ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم جاءوك فاستغفروا الله واستغفر لهم الرسول لوجدوا الله توابا رحيما فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما ولو أنا كتبنا عليهم أن اقتلوا أنفسكم أو اخرجوا من دياركم ما فعلوه إلا قليل منهم ولو أنهم فعلوا ما يوعظون به لكان خيرا لهم وأشد تثبيتا وإذا لآتيناهم من لدنا أجرا عظيما ولهديناهم صراطا مستقيما وحسن أولئك رفيقا ومن يطع الله .والرسول فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين ذلك الفضل من الله وكفى بالله عليما
[ ص: 685 ] هذا الدرس يتناول موضوعا خطيرا.. الموضوع الأساسي في حياة الأمة المسلمة. إنه يتناول بيان شرط الإيمان وحده; متمثلا في النظام الأساسي لهذه الأمة.. ومن الموضوع في ذاته، ومن طريقة ارتباطه وامتزاجه بالنظام الأساسي للأمة، يستمد خطورته وخطره..
إن القرآن - وهو ينشئ هذه الأمة وينشئها - وهو يخرجها إلى الوجود إخراجا. كما قال الله تعالى في التعبير القرآني الدقيق: كنتم خير أمة أخرجت للناس ..
إن القرآن وهو ينشئ هذه الأمة من حيث لم تكن; وينشئها لتصبح أمة فريدة في تاريخ البشر: خير أمة أخرجت للناس .. ويجب أن نؤكد هذه الحقيقة ونوضحها قبل المضي في الحديث: حقيقة إنشاء القرآن لهذه الأمة وتنشئتها معا.. فقد كانت - على التحقيق - إنشاء وتنشئة، كانت ميلادا جديدا للأمة; بل ميلادا جديدا "للإنسان" في صورة جديدة! ولم تكن مرحلة في طريق النشأة; ولا خطوة في سبيل التطور، ولا حتى وثبة من وثبات النهضة! إنما كانت - على وجه التحديد - "نشأة" ! و "ميلادا" للأمة العربية وللإنسان كله! وحين ننظر إلى الشعر الجاهلي - والنتف الأخرى من المأثورات الجاهلية - وهو ديوان العرب ، الذي تضمن أعلى وأخلد ما كان للعرب من نظرة للحياة والوجود، والكون والإنسان والخلق والسلوك; كما تضمن معالم حياتهم، ومكنون مشاعرهم، ومجموع تصوراتهم ولباب ثقافتهم وحضارتهم; وكينونتهم كلها بالاختصار.. حين ننظر إلى مجموعة الثقافات والتصورات والقيم التي يتضمنها هذا الديوان; في ظل القرآن; وما تضمنه من نظرة للوجود والحياة، وللكون والإنسان; ومن قيم في الحياة الإنسانية; ومن نظام للمجتمع ومن تصور لغاية الوجود الإنساني. ومن تنظيم واقعي يقوم على أساس هذا التصور..
ثم ننظر إلى واقع العرب قبل الإسلام وبعده.. في ظل تلك التصورات الجاهلية التي تتمثل في ديوانها. ثم [ ص: 686 ] في ظل هذه التصورات القرآنية التي تمثل المنهج الرباني..
حين ننظر إلى الديوان المأثور والحياة الواقعية.. في ظل القرآن وواقع الحياة الإسلامية: يتبين لنا على وجه التأكيد والتحديد.. أنها كانت نشأة ولم تكن خطوة ولا مرحلة ولا وثبة! كانت "إخراجا" من صنع الله; كتعبير القرآن الدقيق.. وكانت أعجب نشأة; وأغرب إخراج.. فهي المرة الأولى والأخيرة - فيما نعلم - التي تنبثق فيها أمة من بين دفتي كتاب! و "تخرج" فيها حياة من خلال الكلمات! ولكن لا عجب.. فهذه الكلمات.. كلمات الله..
ومن أراد المجادلة والمماحلة، فليقل لنا أين كانت هذه الأمة قبل أن "يخرجها" الله بكلماته; وقبل أن ينشئها الله بقرآنه؟.
إننا نعرف أنها كانت في الجزيرة العربية ! ولكن أين كانت في الوجود "الإنساني" ؟ أين كانت في سجل الحضارة البشرية؟ أين كانت في التاريخ العالمي؟ أين كانت تجلس على المائدة العالمية الإنسانية؟ وماذا كانت تقدم على هذه المائدة، فيعرف باسمها ويحمل طابعها؟
لقد "نشأت" هذه الأمة نشأتها بهذا الدين; ونشئت تنشئتها بهذا المنهج القويم; وقادت نفسها وقادت البشرية بعد ذلك بكتاب الله الذي في يدها، وبمنهجه الذي طبع حياتها.. لا بشيء آخر.. وأمامنا التاريخ! وقد صدقها الله وعده وهو يقول للعرب : لقد أنزلنا إليكم كتابا فيه ذكركم.. أفلا تعقلون ؟ .
فبسبب من هذا الكتاب ذكرت هذه الأمة في الأرض وكان لها دورها في التاريخ وكان لها "وجود إنساني" ابتداء، وحضارة عالمية ثانيا.. ذلك بينما يريد جماعة من الحمقى أن يرفضوا نعمة الله هذه على الأمة العربية ويجحدوا فضل الله في أن جعل كلمته الأخيرة لأهل الأرض قاطبة في العرب وبلسانهم.. ومن ثم جعل لهم وجودا وذكرا وتاريخا وحضارة يريدون أن يخلعوا هذا الرداء الذي ألبسهم الله إياه; وأن يمزقوا هذه الراية التي قادتهم إلى الذكر والمجد.. بل إلى الوجود يوم أخرج الله منهم الأمة المسلمة!
نقول.. إن القرآن حين كان "ينشئ" هذه الأمة و"ينشئها" .. ويخطط ويثبت ملامح الإسلام الجديدة، في الجماعة المسلمة - التي التقطها من سفح الجاهلية - ويطمس ويمحو ملامح الجاهلية في حياتها ونفوسها ورواسبها.. وينظم مجتمعها - أو يقيمه ابتداء - على أساس الميلاد الجديد..
وحين كان يخوض بالجماعة المسلمة المعركة; في مواجهة الجاهلية الراسبة في نفوسها وأوضاعها من مخلفات البيئة التي التقطها المنهج الرباني منها; وفي مواجهة الجاهلية الرابضة فيها ومن حولها - ممثلة في يهود المدينة ومنافقيها ومشركي مكة وما حولها - والمعركتان موصولتان في الزمان والمكان!
حين كان القرآن يصنع ذلك كله.. كان يبدأ فيقيم للجماعة المسلمة تصورها الصحيح، ببيان شرط الإيمان وحد الإسلام; ويربط بهذا التصور - في هذه النقطة بالذات - نظامها الأساسي، الذي يميز وجودها من وجود الجاهلية حولها; ويفردها بخصائص الأمة التي أخرجت للناس، لتبين للناس، وتقودهم إلى الله.. نظامها الرباني..
وهذا الدرس يتولى بيان هذا النظام الأساسي، قائما ومنبثقا من التصور الإسلامي لشرط الإيمان وحد الإسلام! إنه يتولى تحديد الجهة التي تتلقى منها الأمة المسلمة منهج حياتها; والطريقة التي تتلقى بها; والمنهج الذي [ ص: 687 ] تفهم به ما تتلقى، وترد إليه ما يجد من مشكلات وأقضية لم يرد فيها نص وتختلف الأفهام فيها; والسلطة التي تطيعها وعلة طاعتها ومصدر سلطانها.. ويقول: إن هذا هو شرط الإيمان وحد الإسلام..
وعندئذ يلتقي "النظام الأساسي" لهذه الأمة; بالعقيدة التي تؤمن بها.. في وحدة لا تتجزأ; ولا تفترق عناصرها..
وهذا هو الموضوع الخطير الذي يجلوه هذا الدرس جلاء دقيقا كاملا.. وهذه هي القضية التي تبدو، بعد مطالعة هذا الدرس، بديهية يعجب الإنسان كيف يجادل "مسلم" فيها! إنه يقول للأمة المسلمة: إن الرسل أرسلت لتطاع - بإذن الله - لا لمجرد الإبلاغ والإقناع:
وما أرسلنا من رسول إلا ليطاع بإذن الله ..
ويقول لها: إن الناس لا يؤمنون - ابتداء - إلا أن يتحاكموا إلى منهج الله ممثلا - في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم - في أحكام الرسول. وباقيا بعده في مصدريه القرآن والسنة بالبداهة; ولا يكفي أن يتحاكموا إليه - ليحسبوا مؤمنين - بل لا بد من أن يتلقوا حكمه مسلمين راضين:
فلا وربك.. لا يؤمنون.. حتى يحكموك فيما شجر بينهم، ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما .. فهذا هو شرط الإيمان وحد الإسلام.
ويقول لها: إن الذين يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت أي: إلى غير شريعة الله - لا يقبل منهم زعمهم أنهم آمنوا بما أنزل إلى الرسول وما أنزل من قبله. فهو زعم كاذب. يكذبه أنهم يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت:
ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك، يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت وقد أمروا أن يكفروا به ويريد الشيطان أن يضلهم ضلالا بعيدا .
ويقول لها: إن علامة النفاق أن يصدوا عن التحاكم إلى ما أنزل الله والتحاكم إلى رسول الله:
وإذا قيل لهم: تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول، رأيت المنافقين يصدون عنك صدودا .
ويقول لها: إن منهجها الإيماني ونظامها الأساسي، أن تطيع الله - عز وجل في هذا القرآن - وأن تطيع رسول الله - صلى الله عليه وسلم في سنته - وأولي الأمر من المؤمنين الداخلين في شرط الإيمان وحد الإسلام معكم:
يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله، وأطيعوا الرسول. وأولي الأمر منكم ..
ويقول لها: إن المرجع، فيما تختلف فيه وجهات النظر في المسائل الطارئة المتجددة، والأقضية التي لم ترد فيها أحكام نصية.. إن المرجع هو الله ورسوله.. أي شريعة الله وسنة رسوله:
فإن تنازعتم في شيء، فردوه إلى الله والرسول ..
وبهذا يبقى المنهج الرباني مهيمنا على ما يطرأ على الحياة من مشكلات وأقضية كذلك، أبد الدهر، في حياة الأمة المسلمة.. وتمثل هذه القاعدة نظامها الأساسي، الذي لا تكون مؤمنة إلا به، ولا تكون مسلمة إلا بتحقيقه.. إذ هو يجعل الطاعة بشروطها تلك، ورد المسائل التي تجد وتختلف فيها وجهات النظر إلى الله ورسوله.. شرط الإيمان وحد الإسلام.. شرطا واضحا ونصا صريحا:
إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر .. [ ص: 688 ] ولا ننس ما سبق بيانه عند قوله تعالى: إن الله لا يغفر أن يشرك به، ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ..
من أن اليهود وصموا بالشرك بالله، لأنهم كانوا يتخذون أحبارهم أربابا من دون الله - لا لأنهم عبدوهم - ولكن لأنهم قبلوا منهم التحليل والتحريم; ومنحوهم حق الحاكمية والتشريع - ابتداء من عند أنفسهم - فجعلوا بذلك مشركين.. الشرك الذي يغفر الله كل ما عداه. حتى الكبائر.. وإن زنى وإن سرق. وإن شرب الخمر .. فرد الأمر كله إلى إفراد الله - سبحانه - بالألوهية. ومن ثم إفراده بالحاكمية. فهي أخص خصائص الألوهية. وداخل هذا النطاق يبقى المسلم مسلما ويبقى المؤمن مؤمنا. ويطمع أن يغفر له ذنوبه ومنها كبائره.. أما خارج هذا النطاق فهو الشرك الذي لا يغفره الله أبدا.. إذ هو شرط الإيمان وحد الإسلام. إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر..
هذا هو الموضوع الخطير الذي يتناوله هذا الدرس. بالإضافة إلى بيان وظيفة الأمة المسلمة في الأرض من إقرار مبادئ العدل والخلق على أساس منهج الله القويم السليم: إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها. وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل.. إن الله نعما يعظكم به.. إن الله كان سميعا بصيرا ..
وقد ألممنا به إجمالا. فنأخذ في مواجهة النصوص تفصيلا..
إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل. إن الله نعما يعظكم به. إن الله كان سميعا بصيرا ..
هذه هي تكاليف الجماعة المسلمة; وهذا هو خلقها: أداء الأمانات إلى أهلها. والحكم بين "الناس" بالعدل. على منهج الله وتعليمه.
والأمانات تبدأ من الأمانة الكبرى.. الأمانة التي ناط الله بها فطرة الإنسان; والتي أبت السماوات والأرض والجبال أن يحملنها وأشفقن منها، وحملها "الإنسان" .. أمانة الهداية والمعرفة والإيمان بالله عن قصد وإرادة وجهد واتجاه. فهذه أمانة الفطرة الإنسانية خاصة. فكل ما عدا الإنسان ألهمه ربه الإيمان به، والاهتداء إليه، ومعرفته، وعبادته، وطاعته. وألزمه طاعة ناموسه بغير جهد منه ولا قصد ولا إرادة ولا اتجاه. والإنسان وحده هو الذي وكل إلى فطرته، وإلى عقله، وإلى معرفته، وإلى إرادته، وإلى اتجاهه، وإلى جهده الذي يبذله للوصول إلى الله، بعون من الله: والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا .. وهذه أمانة حملها وعليه أن يؤديها أول ما يؤدي من الأمانات.
ومن هذه الأمانة الكبرى، تنبثق سائر الأمانات، التي يأمر الله أن تؤدى:
ومن هذه الأمانات: لهذا الدين.. الشهادة له في النفس أولا بمجاهدة النفس حتى تكون ترجمة له. ترجمة حية في شعورها وسلوكها. حتى يرى الناس صورة الإيمان في هذه النفس. فيقولوا: ما أطيب هذا الإيمان وأحسنه وأزكاه; وهو يصوغ نفوس أصحابه على هذا المثال من الخلق والكمال! فتكون هذه شهادة لهذا الدين في النفس يتأثر بها الآخرون.. والشهادة له بدعوة الناس إليه، وبيان فضله ومزيته - بعد تمثل هذا الفضل وهذه المزية في نفس الداعية - فما يكفي أن يؤدي المؤمن الشهادة للإيمان في ذات نفسه، إذا هو لم يدع إليها الناس كذلك، وما يكون قد أدى أمانة الدعوة والتبليغ والبيان. وهي إحدى الأمانات.. [ ص: 689 ] ثم الشهادة لهذا الدين بمحاولة إقراره في الأرض; منهجا للجماعة المؤمنة; ومنهجا للبشرية جميعا.. المحاولة بكل ما يملك الفرد من وسيلة، وبكل ما تملك الجماعة من وسيلة. فإقرار هذا المنهج في حياة البشر هو كبرى الأمانات; بعد الإيمان الذاتي. ولا يعفى من هذه الأمانة الأخيرة فرد ولا جماعة.. ومن ثم فـ "الجهاد ماض إلى يوم القيامة" على هذا الأساس.. أداء لإحدى الأمانات.. أمانة الشهادة
ومن هذه الأمانات - الداخلة في ثنايا ما سبق - أمانة المعاملات والودائع المادية. وأمانة النصيحة للراعي وللرعية. وأمانة القيام على الأطفال الناشئة. وأمانة المحافظة على حرمات الجماعة وأموالها وثغراتها ... وسائر ما يجلوه المنهج الرباني من الواجبات والتكاليف في كل مجالي الحياة على وجه الإجمال.. فهذه من الأمانات التي يأمر الله أن تؤدى; ويجملها النص هذا الإجمال.. أمانة التعامل مع الناس; ورد أماناتهم إليهم:
فأما فالنص يطلقه هكذا عدلا شاملا "بين الناس" جميعا. لا عدلا بين المسلمين بعضهم وبعض فحسب. ولا عدلا مع أهل الكتاب ، دون سائر الناس.. وإنما هو حق لكل إنسان بوصفه "إنسانا" . فهذه الصفة - صفة الناس - هي التي يترتب عليها حق العدل في المنهج الرباني. وهذه الصفة يلتقي عليها البشر جميعا: مؤمنين وكفارا. أصدقاء وأعداء. سودا وبيضا. عربا وعجما . والأمة المسلمة قيمة على الحكم بين الناس بالعدل - متى حكمت في أمرهم - هذا العدل الذي لم تعرفه البشرية قط - في هذه الصورة - إلا على يد الإسلام، وإلا في حكم المسلمين، وإلا في عهد القيادة الإسلامية للبشرية.. والذي افتقدته من قبل ومن بعد هذه القيادة; فلم تذق له طعما قط، في مثل هذه الصورة الكريمة التي تتاح للناس جميعا. لأنهم "ناس" ! لا لأية صفة أخرى زائدة عن هذا الأصل الذي يشترك فيه "الناس" ! وذلك هو أساس الحكم في الإسلام كما أن الأمانة - بكل مدلولاتها - هي أساس الحياة في المجتمع الإسلامي. الحكم بالعدل بين "الناس"
والتعقيب على الأمر بأداء الأمانات إلى أهلها; والحكم بين الناس بالعدل; هو التذكير بأنه من وعظ الله - سبحانه - وتوجيهه. ونعم ما يعظ الله به ويوجه:
إن الله نعما يعظكم به ..
ونقف لحظة أمام التعبير من ناحية أسلوب الأداء فيه. فالأصل في تركيب الجملة: إنه نعم ما يعظكم الله به.. ولكن التعبير يقدم لفظ الجلالة، فيجعله اسم إن ويجعل نعم ما "نعما" ومتعلقاتها، في مكان خبر إن بعد حذف الخبر.. ذلك ليوحي بشدة الصلة بين الله - سبحانه - وهذا الذي يعظهم به..
ثم إنها لم تكن "عظة" إنما كانت "أمرا" .. ولكن التعبير يسميه عظة. لأن العظة أبلغ إلى القلب، وأسرع إلى الوجدان، وأقرب إلى التنفيذ المنبعث عن التطوع والرغبة والحياء! ثم يجيء التعقيب الأخير في الآية يعلق الأمر بالله ومراقبته وخشيته ورجائه:
إن الله كان سميعا بصيرا ..
والتناسق بين المأمور به من التكاليف; وهو أداء الأمانات والحكم بالعدل بين الناس; وبين كون الله سبحانه سميعا بصيرا مناسبة واضحة ولطيفة معا.. فالله يسمع ويبصر، قضايا العدل وقضايا الأمانة. والعدل كذلك في حاجة إلى الاستماع البصير وإلى حسن التقدير، وإلى مراعاة الملابسات والظواهر، وإلى التعمق فيما وراء [ ص: 690 ] الملابسات والظواهر. وأخيرا فإن الأمر بهما يصدر عن السميع البصير بكل الأمور.
وبعد فالأمانة والعدل.. ما مقياسهما؟ ما منهج تصورهما وتحديدهما وتنفيذهما؟ في كل مجال في الحياة، وفي كل نشاط للحياة؟
أنترك مدلول الأمانة والعدل; ووسائل تطبيقهما وتحقيقهما إلى عرف الناس واصطلاحهم؟ وإلى ما تحكم به عقولهم أو أهواؤهم؟.
إن للعقل البشري وزنه وقيمته بوصفه أداة من أدوات المعرفة والهداية في الإنسان.. هذا حق.. ولكن هذا العقل البشري هو عقل الأفراد والجماعات في بيئة من البيئات، متأثرا بشتى المؤثرات.. ليس هناك ما يسمى "العقل البشري" كمدلول مطلق! إنما هناك عقلي وعقلك، وعقل فلان وعلان، وعقول هذه المجموعة من البشر، في مكان ما وفي زمان ما.. وهذه كلها واقعة تحت مؤثرات شتى; تميل بها من هنا، وتميل بها من هناك..
ولا بد من ميزان ثابت، ترجع إليه هذه العقول الكثيرة; فتعرف عنده مدى الخطأ والصواب في أحكامها وتصوراتها. ومدى الشطط والغلو، أو التقصير والقصور في هذه الأحكام والتصورات. وقيمة العقل البشري هنا هو أنه الأداة المهيأة للإنسان، ليعرف بها وزن أحكامه في هذا الميزان.. الميزان الثابت، الذي لا يميل مع الهوى، ولا يتأثر بشتى المؤثرات..
ولا عبرة بما يضعه البشر أنفسهم من موازين.. فقد يكون الخلل في هذه الموازين ذاتها. فتختل جميع القيم.. ما لم يرجع الناس إلى ذلك الميزان الثابت القويم.
والله يضع هذا الميزان للبشر، للأمانة والعدل، ولسائر القيم، وسائر الأحكام، وسائر أوجه النشاط، في كل حقل من حقول الحياة:
يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول، وأولي الأمر.. منكم.. فإن تنازعتم في شيء، فردوه إلى الله والرسول. إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر. ذلك خير وأحسن تأويلا ..
وفي هذا النص القصير يبين الله - سبحانه - شرط الإيمان وحد الإسلام. في الوقت الذي يبين فيه قاعدة النظام الأساسي في الجماعة المسلمة; وقاعدة الحكم، ومصدر السلطان.. وكلها تبدأ وتنتهي عند التلقي من الله وحده; والرجوع إليه فيما لم ينص عليه نصا، من جزئيات الحياة التي تعرض في حياة الناس على مدى الأجيال; مما تختلف فيه العقول والآراء والأفهام.. ليكون هنالك الميزان الثابت، الذي ترجع إليه العقول والآراء والأفهام!
إن "الحاكمية" لله وحده في حياة البشر - ما جل منها وما دق، وما كبر منها وما صغر - والله قد سن شريعة أودعها قرآنه. وأرسل بها رسولا يبينها للناس. ولا ينطق عن الهوى. فسنته - صلى الله عليه وسلم - من ثم شريعة من شريعة الله.
والله واجب الطاعة. ومن خصائص ألوهيته أن يسن الشريعة. فشريعته واجبة التنفيذ. وعلى الذين آمنوا أن يطيعوا الله - ابتداء - وأن يطيعوا الرسول - بما له من هذه الصفة. صفة الرسالة من الله - فطاعته إذن من طاعة الله، الذي أرسله بهذه الشريعة، وببيانها للناس في سنته.. وسنته وقضاؤه - على هذا - جزء من الشريعة واجب النفاذ.. والإيمان يتعلق - وجودا وعدما - بهذه الطاعة وهذا التنفيذ بنص القرآن: [ ص: 691 ] إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ..
فأما أولو الأمر; فالنص يعين من هم.
وأولي الأمر منكم..
أي من المؤمنين.. الذين يتحقق فيهم شرط الإيمان وحد الإسلام المبين في الآية.. من طاعة الله وطاعة الرسول وإفراد الله - سبحانه - بالحاكمية وحق التشريع للناس ابتداء; والتلقي منه وحده - فيما نص عليه - والرجوع إليه أيضا فيما تختلف فيه العقول والأفهام والآراء، مما لم يرد فيه نص; لتطبيق المبادئ العامة في المنصوص عليه.
والنص يجعل كذلك - بما أنه مرسل منه - ويجعل طاعة أولي الأمر.. منكم.. تبعا لطاعة الله وطاعة رسوله. فلا يكرر لفظ الطاعة عند ذكرهم، كما كررها عند ذكر الرسول - صلى الله عليه وسلم - ليقرر أن طاعتهم مستمدة من طاعة الله وطاعة رسوله بعد أن قرر أنهم "منكم" بقيد الإيمان وشرطه.. طاعة الله أصلا; وطاعة رسوله أصلا
منكم.. بعد هذه التقريرات كلها، في حدود المعروف المشروع من الله، والذي لم يرد نص بحرمته; ولا يكون من المحرم عندما يرد إلى مبادئ شريعته، عند الاختلاف فيه.. والسنة تقرر حدود هذه الطاعة، على وجه الجزم واليقين: في الصحيحين من حديث وطاعة أولي الأمر.. : الأعمش . وفيهما من حديث إنما الطاعة في المعروف : يحيى القطان . وأخرج السمع والطاعة على المرء المسلم. فيما أحب أو كره. ما لم يؤمر بمعصية فإذا أمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة من حديث مسلم أم الحصين : .. ولو استعمل عليكم عبد. يقودكم بكتاب الله. اسمعوا له وأطيعوا
بهذا يجعل الإسلام كل فرد أمينا على شريعة الله وسنة رسوله. أمينا على إيمانه هو ودينه. أمينا على نفسه وعقله. أمينا على مصيره في الدنيا والآخرة.. ولا يجعله بهيمة في القطيع; تزجر من هنا أو من هنا فتسمع وتطيع! فالمنهج واضح، وحدود الطاعة واضحة. والشريعة التي تطاع والسنة التي تتبع واحدة لا تتعدد، ولا تتفرق، ولا يتوه فيها الفرد بين الظنون!
ذلك فيما ورد فيه نص صريح. فأما الذي لم يرد فيه نص. وأما الذي يعرض من المشكلات والأقضية، على مدى الزمان وتطور الحاجات واختلاف البيئات - ولا يكون فيه نص قاطع، أو لا يكون فيه نص على الإطلاق.. مما تختلف في تقديره العقول والآراء والأفهام - فإنه لم يترك كذلك تيها. ولم يترك بلا ميزان. ولم يترك بلا منهج للتشريع فيه والتفريع.. ووضع هذا النص القصير، منهج الاجتهاد كله، وحدده بحدوده وأقام "الأصل" الذي يحكم منهج الاجتهاد أيضا.
فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول ..
ردوه إلى النصوص التي تنطبق عليه ضمنا. فإن لم توجد النصوص التي تنطبق على هذا النحو، فردوه إلى المبادئ الكلية العامة في منهج الله وشريعته.. وهذه ليست عائمة، ولا فوضى، ولا هي من المجهلات التي تتيه فيها العقول كما يحاول بعض المخادعين أن يقول. وهناك - في هذا الدين - مبادئ أساسية واضحة كل الوضوح، تغطي كل جوانب الحياة الأساسية، وتضع لها سياجا خرقه لا يخفى على الضمير المسلم المضبوط [ ص: 692 ] بميزان هذا الدين .
إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ..
تلك الطاعة لله والطاعة للرسول، ولأولي الأمر المؤمنين القائمين على شريعة الله وسنة الرسول.. ورد ما يتنازع فيه إلى الله والرسول.. هذه وتلك شرط الإيمان بالله واليوم الآخر. كما أنها مقتضى الإيمان بالله واليوم الآخر.. فلا يوجد الإيمان ابتداء وهذا الشرط مفقود.. ولا يوجد الإيمان، ثم يتخلف عنه أثره الأكيد.
وبعد أن يضع النص المسألة في هذا الوضع الشرطي، يقدمها مرة أخرى في صورة "العظة" والترغيب والتحبيب; على نحو ما صنع في الأمر بالأمانة والعدل ثم التحبيب فيها والترغيب:
ذلك خير وأحسن تأويلا ..
ذلك خير لكم وأحسن مآلا. خير في الدنيا وخير في الآخرة. وأحسن مآلا في الدنيا وأحسن مآلا في الآخرة كذلك.. فليست المسألة أن اتباع هذا المنهج يؤدي إلى رضاء الله وثواب الآخرة - وهو أمر هائل، عظيم - ولكنه كذلك يحقق خير الدنيا وحسن مآل الفرد والجماعة في هذه الحياة القريبة.
إن هذا المنهج معناه: أن يستمتع "الإنسان" بمزايا منهج يضعه له الله.. الله الصانع الحكيم العليم البصير الخبير.. منهج بريء من جهل الإنسان، وهوى الإنسان، وضعف الإنسان. وشهوة الإنسان.. منهج لا محاباة فيه لفرد، ولا لطبقة، ولا لشعب، ولا لجنس، ولا لجيل من البشر على جيل.. لأن الله رب الجميع، ولا تخالجه - سبحانه وتعالى عن ذلك علوا كبيرا - شهوة المحاباة لفرد، أو طبقة، أو شعب، أو جنس، أو جيل.
ومنهج من مزاياه، أن صانعه هو صانع هذا الإنسان.. الذي يعلم حقيقة فطرته، والحاجات الحقيقية لهذه الفطرة، كما يعلم منحنيات نفسه ودروبها; ووسائل خطابها وإصلاحها، فلا يخبط - سبحانه وتعالى عن ذلك علوا كبيرا - في تيه التجارب بحثا عن منهج يوافق. ولا يكلف البشر ثمن هذه التجارب القاسية، حين يخبطون هم في التيه بلا دليل! وحسبهم أن يجربوا في ميدان الإبداع المادي ما يشاءون. فهو مجال فسيح جد فسيح للعقل البشري. وحسبهم كذلك أن يحاول هذا العقل تطبيق ذلك المنهج; ويدرك مواضع القياس والاجتهاد فيما تتنازع فيه العقول.
ومنهج من مزاياه أن صانعه هو صانع هذا الكون، الذي يعيش فيه الإنسان. فهو يضمن للإنسان منهجا تتلاءم قواعده مع نواميس الكون; فلا يروح يعارك هذه النواميس. بل يروح يتعرف إليها، ويصادقها، وينتفع بها.. والمنهج يهديه في هذا كله ويحميه.
ومنهج من مزاياه أنه - في الوقت الذي يهدي فيه الإنسان ويحميه - يكرمه ويحترمه ويجعل لعقله مكانا للعمل في المنهج.. مكان الاجتهاد في فهم النصوص الواردة. ثم الاجتهاد في رد ما لم يرد فيه نص إلى النصوص أو إلى المبادئ العامة للدين.. ذلك إلى المجال الأصيل، الذي يحكمه العقل البشري، ويعلن فيه سيادته الكاملة: ميدان البحث العلمي في الكون; والإبداع المادي فيه ..
ذلك خير وأحسن تأويلا .. وصدق الله العظيم.