الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      ونبدأ من حيث بدأ السياق القرآني بالقاعدة الأولية التي يقوم عليها بناء الإسلام كله. وبناء النظام الإسلامي في شتى جوانبه: الله لا إله إلا هو، ليجمعنكم إلى يوم القيامة لا ريب فيه. ومن أصدق من الله حديثا إنه من توحيد الله - سبحانه - وإفراده بالألوهية تبدأ خطوات المنهج الرباني سواء في تربية النفوس أم في إقامة المجتمع، ووضع شرائعه وتنظيمه; وسواء كانت هذه الشرائع متعلقة بالنظام الداخلي للمجتمع المسلم، أم بالنظام الدولي، الذي يتعامل هذا المجتمع على أساسه مع المجتمعات الأخرى. ومن ثم نجد هذا الافتتاح لمجموعة الآيات المتضمنة لطائفة من قواعد التعامل الخارجية والداخلية أيضا. [ ص: 729 ] كذلك من الاعتقاد في الآخرة، وجمع الله الواحد لعباده، ليحاسبهم هناك على ما أتاح لهم في الدنيا من فرص العمل والابتلاء، تبدأ خطوات هذا المنهج في تربية النفوس، وإثارة الحساسية فيها تجاه التشريعات والتوجيهات; وتجاه كل حركة من حركاتها في الحياة.. فهو الابتلاء في الصغيرة والكبيرة في الدنيا; والحساب على الصغيرة والكبيرة في الآخرة.. وهذا هو الضمان الأوثق لنفاذ الشرائع والأنظمة; لأنه كامن هناك في أعماق النفس، حارس عليها، سهران حيث يغفو الرقباء ويغفل السلطان!

                                                                                                                                                                                                                                      هذا حديث الله - سبحانه - وهذا وعده: ومن أصدق من الله حديثا ..

                                                                                                                                                                                                                                      وبعد هذه اللمسة للقلوب، وهي اللمسة الدالة على طريقة هذا المنهج في التربية، كما هي دالة على أساس التصور الاعتقادي العملي في حياة الجماعة المسلمة..

                                                                                                                                                                                                                                      بعد هذه اللمسة يبدأ في استنكار حالة من التميع في مواجهة النفاق والمنافقين; وقلة الحسم في موضع الحسم في معاملة الجماعة المسلمة لهم; وانقسام هذه الجماعة فئتين في أمر طائفة من المنافقين - من خارج المدينة كما سنبين - حيث يشي هذا الاستنكار بما كان في المجتمع المسلم يومئذ من عدم التناسق; كما يشي بتشدد الإسلام في ضرورة تحديد الأمور وحسمها، وكراهة التميع في التعامل مع المنافقين والنظرة إليهم; والارتكان إلى ظاهرهم.. ما لم يكن ذلك عن خطة مقررة هادفة:

                                                                                                                                                                                                                                      فما لكم في المنافقين فئتين؟ والله أركسهم بما كسبوا أتريدون أن تهدوا من أضل الله؟ ومن يضلل الله فلن تجد له سبيلا ودوا لو تكفرون كما كفروا فتكونون سواء. فلا تتخذوا منهم أولياء حتى يهاجروا في سبيل الله. فإن تولوا فخذوهم، واقتلوهم حيث وجدتموهم، ولا تتخذوا منهم وليا ولا نصيرا ..

                                                                                                                                                                                                                                      وقد وردت في شأن هؤلاء المنافقين روايات، أهمها روايتان:

                                                                                                                                                                                                                                      قال الإمام أحمد : حدثنا بهز ، حدثنا شعبة ، قال عدي بن ثابت : أخبرني عبد الله بن يزيد ، عن زيد بن ثابت ، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خرج إلى أحد ، فرجع ناس خرجوا معه. فكان أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيهم، فرقتين: فرقة تقول: نقتلهم، وفرقة تقول: لا. هم المؤمنون! فأنزل الله: فما لكم في المنافقين فئتين؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "إنها طيبة . وإنها تنفي الخبث كما ينفي الكير خبث الحديد .. (أخرجاه في الصحيحين من حديث شعبة ) .

                                                                                                                                                                                                                                      وقال العوفي عن ابن عباس : نزلت في قوم كانوا قد تكلموا بالإسلام; وكانوا يظاهرون المشركين. فخرجوا من مكة يطلبون حاجة لهم. فقالوا: إن لقينا أصحاب محمد فليس علينا منهم بأس.. وإن المؤمنين لما أخبروا أنهم قد خرجوا من مكة ، قالت فئة من المؤمنين: اركبوا إلى الجبناء فاقتلوهم، فإنهم يظاهرون عدوكم. وقالت فئة أخرى من المؤمنين: سبحان الله: - أو كما قالوا - أتقتلون قوما قد تكلموا بمثل ما تكلمتم به؟ من أجل أنهم لم يهاجروا، ولم يتركوا ديارهم نستحل دماءهم وأموالهم؟ فكانوا كذلك فئتين، والرسول عندهم لا ينهى واحدا من الفريقين عن شيء، فنزلت: فما لكم في المنافقين فئتين؟ .. (رواه ابن أبي حاتم ، وقد روي عن أبي سلمة بن عبد الرحمن وعكرمة ومجاهد والضحاك وغيرهم قريب من هذا) .

                                                                                                                                                                                                                                      ومع أن الرواية الأولى أوثق من ناحية السند والإخراج إلا أننا نرجح مضمون الرواية الثانية، بالاستناد إلى الواقع التاريخي; فالثابت أن منافقي المدينة لم يرد أمر بقتالهم; ولم يقاتلهم الرسول - صلى الله عليه وسلم - [ ص: 730 ] أو يقتلهم. إنما كانت هناك خطة أخرى مقررة في التعامل معهم. هي خطة الإغضاء عنهم، وترك المجتمع نفسه ينبذهم، وتقطيع الأسناد من حولهم بطرد اليهود - وهم الذين يغرونهم ويملون لهم - من المدينة أولا. ثم من الجزيرة العربية كلها أخيرا.. أما هنا فنحن نجد أمرا جازما بأخذهم أسرى، وقتلهم حيث وجدوا: مما يقطع بأنهم مجموعة أخرى غير مجموعة المنافقين في المدينة .. وقد يقال: إن الأمر بأخذهم أسرى وقتلهم مشروط بقوله تعالى: فلا تتخذوا منهم أولياء حتى يهاجروا، في سبيل الله فإن تولوا فخذوهم واقتلوهم حيث وجدتموهم .. فهو تهديد ليقلعوا عما هم فيه.. وقد يكونون أقلعوا فلم ينفذ الرسول - صلى الله عليه وسلم - هذا الأمر فيهم.. ولكن كلمة "يهاجروا" تقطع - في هذه الفترة - بأنهم ليسوا من أهل المدينة . وأن المقصود هو أن يهاجروا إلى المدينة ; فقد كان هذا قبل الفتح. ومعنى الهجرة - قبل الفتح - كان محددا بأنه الهجرة من دار الكفر إلى دار الإسلام; والانضمام للجماعة المسلمة; والخضوع لنظامها. وإلا فهو الكفر أو النفاق.. وسيجيء في سياق السورة - في الدرس التالي - تنديد شديد بموقف الذين بقوا - بغير عذر من الضعف - من المسلمين في مكة ; دار الكفر والحرب بالنسبة لهم - ولو كانوا من أهلها ومواطنين فيها! - وكل هذا يؤيد ترجيح الرواية الثانية. وأن هؤلاء المنافقين كانوا جماعة من مكة - أو ممن حولها - يقولون كلمة الإسلام بأفواههم، ويظاهرون عدو المسلمين بأعمالهم.

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية