[ ص: 757 ] لا خير في كثير من نجواهم إلا من أمر بصدقة أو معروف أو إصلاح بين الناس ومن يفعل ذلك ابتغاء مرضات الله فسوف نؤتيه أجرا عظيما ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم وساءت مصيرا إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ومن يشرك بالله فقد ضل ضلالا بعيدا إن يدعون من دونه إلا إناثا وإن يدعون إلا شيطانا مريدا لعنه الله وقال لأتخذن من عبادك نصيبا مفروضا ولأضلنهم ولأمنينهم ولآمرنهم فليبتكن آذان الأنعام ولآمرنهم فليغيرن خلق الله ومن يتخذ الشيطان وليا من دون الله فقد خسر خسرانا مبينا يعدهم ويمنيهم وما يعدهم الشيطان إلا غرورا أولئك مأواهم جهنم ولا يجدون عنها محيصا وعد الله حقا ومن أصدق من الله قيلا والذين آمنوا وعملوا الصالحات سندخلهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب من يعمل سوءا يجز به ولا يجد له من دون الله وليا ولا نصيرا ومن يعمل من الصالحات من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فأولئك يدخلون الجنة ولا يظلمون نقيرا واتخذ الله إبراهيم خليلا ومن أحسن دينا ممن أسلم وجهه لله وهو محسن واتبع ملة إبراهيم حنيفا ولله ما في السماوات وما في الأرض وكان الله بكل شيء محيطا
.
يتصل هذا الدرس بالدرس السابق، بأكثر من صلة. فهو - أولا - نزلت بعض آياته تعليقا وتعقيبا على الأحداث التي تلت حادث اليهودي. من ارتداد بشير بن أبيرق ومشاقته للرسول - صلى الله عليه وسلم - وعودته إلى الجاهلية; التي تحدث هذا الدرس عنها، وعن تصوراتها وحماقاتها وعلاقاتها بالشيطان، ودور الشيطان فيها! ويقرر أن وهو ثانيا - يتحدث عن الله لا يغفر أن يشرك به، ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء. ; وأنه لا خير في كثير مما يتناجون به، من أمثال ما بيتوا في ذلك الحادث وتناجوا. ويحدد أنواع النجوى التي يحبها الله ; وهي التناجي في فعل الخير والمعروف والإصلاح بين الناس. ويقرر جزاء هذه النجوى وتلك عند الله.. وأخيرا يقرر القواعد العادلة التي يجازي بها الله على الأعمال ; وأنها ليست تابعة لرغبات أحد من الناس وتمنياتهم. لا أماني المسلمين ولا أماني أهل الكتاب . إنما هي ترجع إلى عدل الله المطلق; وإلى الحق الذي لو اتبع أهواءهم لفسدت السماوات والأرض.. النجوى والتآمر
فالدرس كله، موضوعا واتجاها، موصول الأسباب بالدرس السابق من هذه الناحية.. [ ص: 758 ] ثم هو حلقة من حلقات المنهج التربوي الحكيم، في إعداد هذه الجماعة لتكون الأمة التي تقود البشرية; بتفوقها التربوي والتنظيمي; وليعالج فيها مواضع الضعف البشري ورواسب المجتمع الجاهلي; وليخوض بها المعركة في ميادينها كلها.. وهو الهدف الذي تتوخاه السورة بشتى موضوعاتها، ويتولاه المنهج القرآني كله..
لا خير في كثير من نجواهم. إلا من أمر بصدقة أو معروف أو إصلاح بين الناس. ومن يفعل ذلك ابتغاء مرضات الله، فسوف نؤتيه أجرا عظيما ..
لقد تكرر في القرآن وهي أن تجتمع طائفة بعيدا عن الجماعة المسلمة وعن القيادة المسلمة، لتبيت أمرا.. وكان اتجاه التربية الإسلامية واتجاه التنظيم الإسلامي كذلك أن يأتي كل إنسان بمشكلته أو بموضوعه، فيعرضه على النبي - صلى الله عليه وسلم - مسارة إن كان أمرا شخصيا لا يريد أن يشيع عنه شيء في الناس. أو مساءلة علنية إن كان من الموضوعات ذات الصبغة العامة، التي ليست من خصوصيات هذا الشخص. النهي عن النجوى;
والحكمة في هذه الخطة، هو ألا تتكون "جيوب" في الجماعة المسلمة; وألا تنعزل مجموعات منها بتصوراتها ومشكلاتها، أو بأفكارها واتجاهاتها. وألا تبيت مجموعة من الجماعة المسلمة أمرا بليل، وتواجه به الجماعة أمرا مقررا من قبل; أو تخفيه عن الجماعة وتستخفي به عن أعينها وإن كانت لا تختفي به عن الله وهو معهم إذ يبيتون ما لا يرضى من القول.
وهذا الموضع أحد المواضع التي ورد فيها هذا النهي عن التناجي والتبييت بمعزل عن الجماعة المسلمة وقيادتها..
ولقد كان المسجد هو ندوة الجماعة المسلمة، تتلاقى فيه وتتجمع للصلاة ولشؤون الحياة. وكان المجتمع المسلم كله مجتمعا مفتوحا; تعرض مشكلاته - التي ليست بأسرار للقيادة في المعارك وغيرها; والتي ليست بمسائل شخصية بحتة لا يحب أصحابها أن تلوكها الألسن - عرضا عاما. وكان هذا المجتمع المفتوح من ثم مجتمعا نظيفا طلق الهواء. لا يتجنبه ليبيت من وراء ظهره، إلا الذين يتآمرون عليه! أو على مبدأ من مبادئه - من المنافقين غالبا - وكذلك اقترنت النجوى بالمنافقين في معظم المواضع.
وهذه حقيقة تنفعنا. فالمجتمع المسلم يجب أن يكون بريئا من هذه الظاهرة، وأن يرجع أفراده إليه وإلى قيادتهم العامة بما يخطر لهم من الخواطر، أو بما يعرض لهم من خطط واتجاهات أو مشكلات!
والنص القرآني هنا يستثني نوعا من النجوى.. هو في الحقيقة ليس منها، وإن كان له شكلها:
إلا من أمر بصدقة أو معروف، أو إصلاح بين الناس ..
وذلك أن يجتمع الرجل الخير بالرجل الخير، فيقول له: هلم نتصدق على فلان فقد علمت حاجته في خفية عن الأعين. أو هلم إلى معروف معين نفعله أو نحض عليه. أو هلم نصلح بين فلان وفلان فقد علمت أن بينهما نزاعا.. وقد تتكون العصبة من الخيرين لأداء أمر من هذه الأمور، وتتفق فيما بينها سرا على النهوض بهذا الأمر. فهذا ليس نجوى ولا تآمرا. ومن ثم سماه "أمرا" وإن كان له شكل النجوى، في مسارة الرجل الخير للخيرين أمثاله بأمر في معروف يعلمه أو خطر له.. على شرط أن يكون الباعث هو ابتغاء مرضاة الله: [ ص: 759 ] ومن يفعل ذلك ابتغاء مرضات الله فسوف نؤتيه أجرا عظيما ..
فلا يكون لهوى في الصدقة على فلان، أو الإصلاح بين فلان وعلان. ولا يكون ليشتهر الرجل بأنه - والله رجل طيب - ! يحض على الصدقة والمعروف، ويسعى في الإصلاح بين الناس! ولا تكون هناك شائبة تعكر صفاء الاتجاه إلى الله، بهذا الخير. فهذا هو مفرق الطريق بين العمل يعمله المرء فيرضى الله عنه ويثيبه به. والعمل نفسه يعمله المرء فيغضب الله عليه، ويكتبه له في سجل السيئات! ومن يشاقق الرسول - من بعد ما تبين له الهدى - ويتبع غير سبيل المؤمنين، نوله ما تولى، ونصله جهنم وساءت مصيرا إن الله لا يغفر أن يشرك به، ويغفر ما دون ذلك - لمن يشاء - ومن يشرك بالله فقد ضل ضلالا بعيدا .
وقد ذكر في أن سبب نزول هذه المجموعة من الآيات. بشير بن أبيرق قد ارتد والتحق بالمشركين.. من بعد ما تبين له الهدى .. فقد كان في صفوف المسلمين، ثم اتبع غير سبيل المؤمنين .. ولكن النص عام، ينطبق على كل حالة، ويواجه كل حالة من مشاقة الرسول - صلى الله عليه وسلم - ومشاقته كفر وشرك وردة، ينطبق عليها ما ينطبق على ذلك الحادث القديم.
والمشاقة - لغة - أن يأخذ المرء شقا مقابلا للشق الذي يأخذه الآخر. والذي يشاق الرسول - صلى الله عليه وسلم - هو الذي يأخذ له شقا وجانبا وصفا غير الصف والجانب والشق الذي يأخذه النبي - صلى الله عليه وسلم - ومعنى هذا أن يتخذ له منهجا للحياة كلها غير منهجه، وأن يختار له طريقا غير طريقه. فالرسول - صلى الله عليه وسلم - جاء يحمل من عند الله منهجا كاملا للحياة يشتمل على العقيدة والشعائر التعبدية، كما يشتمل على الشريعة والنظام الواقعي لجوانب الحياة البشرية كلها.. وهذه وتلك كلتاهما جسم هذا المنهج، بحيث تزهق روح هذا المنهج إذا شطر جسمه فأخذ منه شق وطرح شق! والذي يشاق الرسول - صلى الله عليه وسلم - هو كل من ينكر منهجه جملة، أو يؤمن ببعض ويكفر ببعض، فيأخذ بشق منه ويطرح شقا!
وقد اقتضت رحمة الله بالناس، ألا يحق عليهم القول، ولا يصلوا جهنم وساءت مصيرا، إلا بعد أن يرسل إليهم رسولا. وبعد أن يبين لهم. وبعد أن يتبينوا الهدى. ثم يختاروا الضلالة. وهي رحمة الله الواسعة الحانية على هذا المخلوق الضعيف. فإذا تبين له الهدى. أي إذا علم أن هذا المنهج من عند الله. ثم شاق الرسول - صلى الله عليه وسلم - فيه، ولم يتبعه ويطعه، ولم يرض بمنهج الله الذي تبين له، فعندئذ يكتب الله عليه الضلال، ويوليه الوجهة التي تولاها، ويلحقه بالكفار والمشركين الذين توجه إليهم. ويحق عليه العذاب المذكور في الآية بنصه:
ومن يشاقق الرسول - من بعد ما تبين له الهدى - ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى، ونصله جهنم. وساءت مصيرا! ..
ويعلل النص هذا المصير البائس السيئ، بأن مغفرة الله - سبحانه - تتناول كل شيء.. إلا أن يشرك به.. فهذه لا مغفرة لمن مات عليها:
إن الله لا يغفر أن يشرك به. ويغفر ما دون ذلك - لمن يشاء - ومن يشرك بالله فقد ضل ضلالا بعيدا ..
والشرك بالله - كما أسلفنا في هذا الجزء عند تفسير مثل هذه الآية من قبل - يتحقق باتخاذ آلهة مع الله اتخاذا صريحا على طريقة الجاهلية العربية وغيرها من الجاهليات القديمة - كما يتحقق بعدم إفراد الله بخصائص [ ص: 760 ] الألوهية; والاعتراف لبعض البشر بهذه الخصائص. كإشراك اليهود والنصارى الذي حكاه القرآن من أنهم اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله ولم يكونوا عبدوهم مع الله. ولكن كانوا فقط اعترفوا لهم بحق التشريع لهم من دون الله. فحرموا عليهم وأحلوا لهم. فاتبعوهم في هذا. ومنحوهم خاصية من خصائص الألوهية! فحق عليهم وصف الشرك. وقيل عنهم إنهم خالفوا ما أمروا به من التوحيد وما أمروا إلا ليعبدوا إلها واحدا . فيقيموا له وحده الشعائر، ويتلقوا منه وحده الشرائع والأوامر.
ولا غفران لذنب الشرك - متى مات صاحبه عليه - بينما باب المغفرة مفتوح لكل ذنب سواه.. عندما يشاء الله.. والسبب في تعظيم جريمة الشرك ، وخروجها من دائرة المغفرة، أن من يشرك بالله يخرج عن حدود الخير والصلاح تماما; وتفسد كل فطرته بحيث لا تصلح أبدا:
ومن يشرك بالله فقد ضل ضلالا بعيدا ..
ولو بقي خيط واحد صالح من خيوط الفطرة لشده إلى الشعور بوحدانية ربه; ولو قبل الموت بساعة.. فأما وقد غرغر - وهو على الشرك - فقد انتهى أمره وحق عليه القول: ونصله جهنم. وساءت مصيرا! .