ولأن هذه الأحكام الخاصة بتنظيم الحياة الزوجية، قطاع من المنهج الرباني لتنظيم الحياة كلها; ولأن هذا المنهج بجملته قطاع من الناموس الكوني، الذي أراده الله للكون كله، فهو يتوافق مع فطرة الله للكون، وفطرة الله للإنسان، الذي يعيش في هذا الكون.. لأن هذه هي الحقيقة العميقة في هذا المنهج الشامل الكبير، يجيء في سياق السورة بعد الأحكام الخاصة بتنظيم الأسرة، ما يربطها بالنظام الكوني كله; وسلطان الله في الكون كله، وملكية الله للكون كله. ووحدة الوصية التي وصى الله بها الناس في كتبه كلها; وثواب الدنيا وثواب الآخرة.. وهي القواعد التي يقوم عليها المنهج كله. قواعد الحق والعدل والتقوى:
ولله ما في السماوات وما في الأرض. ولقد وصينا الذين أوتوا الكتاب من قبلكم وإياكم: أن اتقوا الله. وإن تكفروا فإن لله ما في السماوات وما في الأرض وكان الله غنيا حميدا ولله ما في السماوات وما في الأرض وكفى بالله وكيلا إن يشأ يذهبكم - أيها الناس - ويأت بآخرين. وكان الله على ذلك قديرا من كان يريد ثواب الدنيا فعند الله ثواب الدنيا والآخرة. وكان الله سميعا بصيرا .
ويكثر في القرآن التعقيب على الأحكام، وعلى الأوامر والنواهي بأن لله ما في السماوات وما في الأرض; أو بأن لله ملك السماوات والأرض. فالأمران متلازمان في الحقيقة. فالمالك هو صاحب السلطان في ملكه وهو صاحب حق التشريع لمن يحتويهم هذا الملك. والله وحده هو المالك، ومن ثم فهو وحده صاحب السلطان الذي يشرع به للناس. فالأمران متلازمان.
كذلك يبرز هنا من وصية الله - سبحانه - لكل من أنزل عليهم كتابا.. وذلك بعد تعيين من له ملكية السماوات والأرض، ومن له حق الوصية في ملكه: الوصية بالتقوى،
ولله ما في السماوات وما في الأرض. ولقد وصينا الذين أوتوا الكتاب من قبلكم وإياكم أن اتقوا الله . [ ص: 772 ] فصاحب السلطان الحقيقي هو الذي يخشى ويخاف. وتقوى الله هي الكفيلة بصلاح القلوب، وحرصها على منهجه في كل جزئياته.
كذلك يبين لمن يكفرون ضآلة شأنهم في ملك الله; وهو أن أمرهم عليه سبحانه; وقدرته على الذهاب بهم والمجيء بغيرهم:
وإن تكفروا فإن لله ما في السماوات وما في الأرض، وكان الله غنيا حميدا ولله ما في السماوات وما في الأرض، وكفى بالله وكيلا إن يشأ يذهبكم - أيها الناس - ويأت بآخرين. وكان الله على ذلك قديرا ..
فهو - سبحانه - إذ يوصيهم بتقواه، لا يعنيه في شيء ولا يضره في شيء ألا يسمعوا الوصية، وأن يكفروا. فإن كفرهم لن ينقص من ملكه شيئا.. فإن لله ما في السماوات وما في الأرض وهو قادر على أن يذهب بهم ويستبدل قوما غيرهم، إنما هو يوصيهم بالتقوى لصلاحهم هم، ولصلاح حالهم.
وبقدر ما يقرر الإسلام كرامة الإنسان على الله; وتكريمه على كل ما في الأرض، وكل من في الكون.. بقدر ما يقرر هو أنه على الله حين يكفر به، ويعتو ويتجبر، ويدعي خصائص الألوهية بغير حق.. فهذه كفاء تلك في التصور الإسلامي، وفي حقيقة الأمر والواقع كذلك..
ويختم هذا التعقيب بتوجيه القلوب الطامعة في الدنيا وحدها، إلى أن فضل الله أوسع.. فعنده ثواب الدنيا والآخرة.. وفي استطاعة الذين يقصرون همهم على الدنيا، أن يتطلعوا بأنظارهم وراءها; وأن يأملوا في خير الدنيا وخير الآخرة.
من كان يريد ثواب الدنيا، فعند الله ثواب الدنيا والآخرة.. وكان الله سميعا بصيرا ..
وإنه ليكون من الحمق، كما يكون من سقوط الهمة، أن يملك الإنسان التطلع إلى الدنيا والآخرة معا; وإلى ثواب الدنيا وثواب الآخرة جميعا - وهذا ما يكفله المنهج الإسلامي المتكامل الواقعي المثالي - ثم يكتفي بطلب الدنيا، ويضع فيها همه; ويعيش كالحيوان والدواب والهوام; بينما هو يملك أن يعيش كالإنسان! قدم تدب على الأرض وروح ترف في السماء. وكيان يتحرك وفق قوانين هذه الأرض; ويملك في الوقت ذاته أن يعيش مع الملأ الأعلى!
وأخيرا فإن هذه التعقيبات المتنوعة - كما تدل على الصلة الوثيقة بين الأحكام الجزئية في شريعة الله والمنهج الكلي للحياة - تدل في الوقت ذاته على خطورة شأن الأسرة في حساب الإسلام. حتى ليربطها بهذه الشؤون الكبرى; ويعقب عليها بوصية التقوى الشاملة للأديان جميعا; وإلا فالله قادر على أن يذهب بالناس ويأتي بغيرهم يتبعون وصيته; ويقيمون شريعته.. وهو تعقيب خطير. يدل على أن أمر الأسرة كذلك خطير في حساب الله. وفي منهجه للحياة..