ونقف عند هذا الحد - المناسب لسياق الظلال - في الحديث عن الإيحاءات القوية العميقة ، التي يثيرها في النفس قول الله تعالى :
رسلا مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل . .
لنمضي بعدها مع السياق القرآني :
لكن الله يشهد بما أنزل إليك. أنزله بعلمه. والملائكة يشهدون. وكفى بالله شهيدا .
فإذا ، وهي جارية على سنة الله في إرسال الرسل لعباده أنكر أهل الكتاب هذه الرسالة الأخيرة مبشرين ومنذرين، لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل وأهل الكتاب يعترفون بالرسل قبل محمد - صلى الله عليه وسلم - اليهود يعترفون بمن قبل عيسى - عليه السلام - والنصارى يعترفون بهم ، وبعيسى الذي ألهوه كما سيجيء . . فإذا أنكروا رسالتك - يا محمد - فلا عليك منهم . فلينكروا :
لكن الله يشهد بما أنزل إليك. أنزله بعلمه. والملائكة يشهدون. وكفى بالله شهيدا . .
وفي هذه الشهادة من الله . . ثم من ملائكته ومنهم من حملها إلى رسوله . . إسقاط لكل ما يقوله أهل الكتاب . فمن هم والله يشهد ؟ والملائكة تشهد ؟ وشهادة الله وحدها فيها الكفاية ؟ ! وفي هذه الشهادة تسرية عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - وما يلقاه من كيد اليهود وعنتهم .
وفيها كذلك تصديق وتثبيت وتطمين للمسلمين - في أول عهدهم بالإسلام بالمدينة - أمام حملة يهود التي يدل على ضخامتها هذه الحملة القرآنية المنوعة الأساليب والإيحاءات في ردها والقضاء عليها: [ ص: 813 ] وعندئذ يجيء التهديد الرعيب للمنكرين في موضعه ، بعد شهادة الله - سبحانه - وشهادة الملائكة بكذبهم وتعنتهم والتوائهم .
إن الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله قد ضلوا ضلالا بعيدا إن الذين كفروا وظلموا لم يكن الله ليغفر لهم ولا ليهديهم طريقا إلا طريق جهنم خالدين فيها أبدا وكان ذلك على الله يسيرا . .
إن هذه الأوصاف وهذه التقريرات - مع كونها عامة - تنطبق أول ما تنطبق ، على حال اليهود ، وتصور موقفهم من هذا الدين وأهله ; بل من الدين الحق كله ; سواء منهم من عاصروا فجر الدعوة في المدينة ، أو من سبقوهم منذ أيام موسى عليه السلام أو من جاءوا بعدهم إلى يومنا هذا إلا القلة النادرة المستثناة من الذين فتحوا قلوبهم للهدى فهداهم الله .
وهؤلاء - وكل من ينطبق عليهم وصف الكفر والصد - قد ضلوا ضلالا بعيدا . ضلوا عن هدى الله ; وضلوا طريقهم القويم في الحياة . ضلوا فكرا وتصورا واعتقادا ; وضلوا سلوكا ومجتمعا وأوضاعا . ضلوا في الدنيا وضلوا في الآخرة . ضلوا ضلالا لا يرتجى معه هدى ضلوا ضلالا بعيدا . . . .
ويعيد السياق وصفهم بالكفر ، ليضم إليه الظلم :
إن الذين كفروا وظلموا . .
والكفر في ذاته ظلم : ظلم للحق ، وظلم للنفس ، وظلم للناس . . والقرآن يعبر عن الكفر أحيانا بأنه الظلم كقوله تعالى : إن الشرك لظلم عظيم . . وقوله : ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون بعد ما قرر أنهم الكافرون في الآية السابقة عليها . . (كما سيجيء في موضعه في هذا الجزء في سورة المائدة ) . . وهؤلاء لم يرتكبوا ظلم الشرك وحده ، ولكن ارتكبوا معه ظلم الصد عن سبيل الله أيضا ، فأمعنوا في الكفر . . أو أمعنوا في الظلم . . ومن ثم يقرر الله بعدله جزاءهم الأخير :
إن الذين كفروا وظلموا لم يكن الله ليغفر لهم ولا ليهديهم طريقا إلا طريق جهنم خالدين فيها أبدا . .
فليس من شأن الله - سبحانه - أن يغفر لأمثال هؤلاء ، بعدما ضلوا ضلالا بعيدا ، وقطعوا على أنفسهم كل طريق للمغفرة . . وليس من شأن الله - سبحانه - أن يهديهم طريقا إلا طريق جهنم . وقد قطعوا على أنفسهم كذلك كل طريق للهدى ، وأوصدوا في وجوه أنفسهم كل طريق إلا طريق جهنم . فأبعدوا فيه وأوغلوا ، واستحقوا الخلود المؤبد فيها بإبعادهم في الضلال والكفر والصد والظلم ، بحيث لا يرجى لهم من هذا الإبعاد مآب ! وكان ذلك على الله يسيرا . .
فهو القاهر فوق عباده . وليس بينه وبين أحد من العباد صهر ولا نسب ، يجعل أخذهم بهذا الجزاء العادل المستحق عليهم عسيرا . وليس لأحد من عباده قوة ولا حيلة تجعل أخذه عسيرا على الله أيضا . .
ولقد كان اليهود - كما كان النصارى - يقولون : نحن أبناء الله وأحباؤه وكانوا يقولون : لن تمسنا النار إلا أياما معدودات . وكانوا يقولون : نحن شعب الله المختار . . فجاء القرآن لينفي هذا كله . ويضعهم في موضعهم . . عبادا من العباد . . إن أحسنوا أثيبوا ، وإن أساءوا - ولم يستغفروا ويتوبوا - عذبوا . . وكان ذلك على الله يسيرا . .
[ ص: 814 ] ومن ثم دعوة شاملة إلى الناس كافة - بعد هذه البيانات كلها - أن هذا الرسول إنما جاءهم بالحق من ربهم . فمن آمن به فهو الخير . ومن كفر فإن الله غني عنهم جميعا ، وقادر عليهم جميعا ، وله ما في السماوات والأرض . وهو يعلم الأمر كله ، ويجريه وفق علمه وحكمته :
يا أيها الناس، قد جاءكم الرسول بالحق من ربكم. فآمنوا خيرا لكم. وإن تكفروا فإن لله ما في السماوات والأرض، وكان الله عليما حكيما . .
وهي دعوة سبقها دحض مفتريات أهل الكتاب ، وكشف جبلة اليهود ومناكرهم في تاريخهم كله ، وتصوير تعنتهم الأصيل ، حتى مع موسى نبيهم وقائدهم ومنقذهم ، كما سبقها بيان طبيعة الرسالة وغايتها . وهذه الغاية وتلك الطبيعة تقتضيان أن يرسل الله الرسل ، وتقتضيان أن يرسل الله محمدا حتما . فهو رسول إلى العالمين . إلى الناس كافة - بعدما غبرت الرسالات كلها خاصة بقوم كل رسول - فلم يكن بد من تبليغ عام في ختام الرسالات ، يبلغ إلى الناس كافة : لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل . . ولو لم تكن هذه الرسالة عامة للناس كافة لكان للناس - ممن سيأتون من أجيال وأمم - حجة على الله . فانقطعت هذه الحجة بالرسالة العامة للناس وللزمان ، وكانت هي الرسالة الأخيرة . فإنكار أن هناك رسالة بعد أنبياء بني إسرائيل غير عيسى ، أو بعد عيسى - عليه السلام - لا يتفق مع عدل الله ، في أن يأخذ الناس بالعقاب بعد البلاغ . . ولم يسبق أن كانت هناك رسالة عامة . ولم يكن بد من هذه الرسالة العامة . . فكانت بعدل الله ورحمته بالعباد . . وكان حقا قول الله سبحانه وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين . . رحمة في الدنيا ورحمة في الآخرة . كما يتجلى من هذا البيان . .