الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      إن الذين آمنوا، والذين هادوا، والنصارى، والصابئين - من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحا - فلهم أجرهم عند ربهم، ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون ..

                                                                                                                                                                                                                                      والذين آمنوا يعني بهم المسلمين. والذين هادوا هم اليهود - إما بمعنى عادوا إلى الله، وإما بمعنى أنهم أولاد يهوذا - والنصارى هم أتباع عيسى - عليه السلام - والصابئون: الأرجح أنهم تلك الطائفة من مشركي العرب قبل البعثة، الذين ساورهم الشك فيما كان عليه قومهم من عبادة الأصنام، فبحثوا لأنفسهم عن عقيدة يرتضونها، فاهتدوا إلى التوحيد، وقالوا: إنهم يتعبدون على الحنيفية الأولى، ملة إبراهيم ، واعتزلوا عبادة قومهم دون أن تكون لهم دعوة فيهم. فقال عنهم المشركون: إنهم صبئوا - أي مالوا عن دين آبائهم - كما كانوا يقولون عن المسلمين بعد ذلك. ومن ثم سموا الصابئة. وهذا القول أرجح من القول بأنهم عبدة النجوم كما جاء في بعض التفاسير.

                                                                                                                                                                                                                                      والآية تقرر أن من آمن بالله واليوم الآخر من هؤلاء جميعا وعمل صالحا، فإن لهم أجرهم عند ربهم، ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون. فالعبرة بحقيقة العقيدة، لا بعصبية جنس أو قوم .. وذلك طبعا قبل البعثة [ ص: 76 ] المحمدية. أما بعدها فقد تحدد شكل الإيمان الأخير.

                                                                                                                                                                                                                                      ثم يمضي السياق يستعرض مواقف بني إسرائيل في مواجهة يهود المدينة بمسمع من المسلمين..

                                                                                                                                                                                                                                      وإذ أخذنا ميثاقكم، ورفعنا فوقكم الطور: خذوا ما آتيناكم بقوة، واذكروا ما فيه لعلكم تتقون ثم توليتم من بعد ذلك، فلولا فضل الله عليكم ورحمته لكنتم من الخاسرين ..

                                                                                                                                                                                                                                      وتفصيل هذا الميثاق وارد في سور أخرى، وبعضه ورد في هذه السورة فيما بعد. والمهم هنا هو استحضار المشهد، والتناسق النفسي والتعبيري بين قوة رفع الصخرة فوق رؤوسهم وقوة أخذ العهد، وأمرهم أن يأخذوا ما فيه بقوة. وأن يعزموا فيه عزيمة. فأمر العقيدة لا رخاوة فيه ولا تميع ، ولا يقبل أنصاف الحلول ولا الهزل ولا الرخاوة.. إنه عهد الله مع المؤمنين.. وهو جد وحق، فلا سبيل فيه لغير الجد والحق.. وله تكاليف شاقة، نعم! ولكن هذه هي طبيعته. إنه أمر عظيم. أعظم من كل ما في هذا الوجود. فلا بد أن تقبل عليه النفس إقبال الجاد القاصد العارف بتكاليفه، المتجمع الهم والعزيمة المصمم على هذه التكاليف. ولا بد أن يدرك صاحب هذا الأمر أنه إنما يودع حياة الدعة والرخاء والرخاوة، كما قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقد نودي للتكليف: مضى عهد النوم يا خديجة .. وكما قال له ربه: إنا سنلقي عليك قولا ثقيلا ..

                                                                                                                                                                                                                                      وكما قال لبني إسرائيل :

                                                                                                                                                                                                                                      خذوا ما آتيناكم بقوة واذكروا ما فيه لعلكم تتقون ..

                                                                                                                                                                                                                                      ولا بد مع أخذ العهد بقوة وجد واستجماع نفس وتصميم.. لا بد مع هذا من تذكر ما فيه، واستشعار حقيقته، والتكيف بهذه الحقيقة، كي لا يكون الأمر كله مجرد حماسة وحمية وقوة. فعهد الله منهج حياة ، منهج يستقر في القلب تصورا وشعورا، ويستقر في الحياة وضعا ونظاما، ويستقر في السلوك أدبا وخلقا، وينتهي إلى التقوى والحساسية برقابة الله وخشية المصير.

                                                                                                                                                                                                                                      ولكن هيهات! لقد أدركت إسرائيل نحيزتها، وغلبت عليها جبلتها:

                                                                                                                                                                                                                                      ثم توليتم من بعد ذلك ..

                                                                                                                                                                                                                                      ثم أدركتها رحمة الله مرة أخرى وشملها فضله العظيم; فأنقذها من الخسار المبين:

                                                                                                                                                                                                                                      فلولا فضل الله عليكم ورحمته لكنتم من الخاسرين ..

                                                                                                                                                                                                                                      ومرة أخرى يواجههم بمظهر من مظاهر النكث والنكسة، والتحلل من العهد والعجز عن الاستمساك به، والضعف عن احتمال تكاليفه، والضعف أمام الهوى أو النفع القريب:

                                                                                                                                                                                                                                      ولقد علمتم الذين اعتدوا منكم في السبت: فقلنا لهم: كونوا قردة خاسئين، فجعلناها نكالا لما بين يديها وما خلفها، وموعظة للمتقين ..

                                                                                                                                                                                                                                      وقد فصل القرآن حكاية اعتدائهم في السبت في موضع آخر فقال: واسألهم عن القرية التي كانت حاضرة البحر إذ يعدون في السبت إذ تأتيهم حيتانهم يوم سبتهم شرعا ويوم لا يسبتون لا تأتيهم .. فلقد طلبوا أن يكون لهم يوم راحة مقدس، فجعل الله لهم يوم السبت راحة مقدسا لا يعملون فيه للمعاش. ثم ابتلاهم بعد ذلك بالحيتان تكثر يوم السبت، وتختفي في غيره! وكان ابتلاء لم تصمد له يهود ! وكيف تصمد وتدع هذا الصيد القريب يضيع؟ [ ص: 77 ] أتتركه وفاء بعهد واستمساكا بميثاق؟ إن هذا ليس من طبع يهود !.

                                                                                                                                                                                                                                      ومن ثم اعتدوا في السبت. اعتدوا على طريقتهم الملتوية. راحوا يحوطون على الحيتان في يوم السبت، ويقطعونها عن البحر بحاجز، ولا يصيدونها! حتى إذا انقضى اليوم تقدموا وانتشلوا السمك المحجوز!.

                                                                                                                                                                                                                                      فقلنا لهم: كونوا قردة خاسئين ..

                                                                                                                                                                                                                                      لقد حق عليهم جزاء النكول عن عهدهم مع الله، والنكوص عن مقام الإنسان ذي الإرادة. فانتكسوا بهذا إلى عالم الحيوان والبهيمة، الحيوان الذي لا إرادة له، والبهيمة التي لا ترتفع على دعوة البطون! انتكسوا بمجرد تخليهم عن الخصيصة الأولى التي تجعل من الإنسان إنسانا. خصيصة الإرادة المستعلية المستمسكة بعهد الله.

                                                                                                                                                                                                                                      وليس من الضروري أن يستحيلوا قردة بأجسامهم، فقد استحالوا إليها بأرواحهم وأفكارهم، وانطباعات الشعور والتفكير تعكس على الوجوه والملامح سمات تؤثر في السحنة وتلقي ظلها العميق!.

                                                                                                                                                                                                                                      ومضت هذه الحادثة عبرة رادعة للمخالفين في زمانها وفيما يليه، وموعظة نافعة للمؤمنين في جميع العصور:

                                                                                                                                                                                                                                      فجعلناها نكالا لما بين يديها وما خلفها وموعظة للمتقين ..

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية