ويستطرد السياق في معرض النعم على عيسى بن مريم وأمه ، إلى شيء من نعمة الله على قومه ، ومن معجزاته التي أيده الله بها وشهدها وشهد بها الحواريون :
إذ قال الحواريون: يا عيسى ابن مريم، هل يستطيع ربك أن ينزل علينا مائدة من السماء؟ قال: اتقوا الله إن كنتم مؤمنين قالوا: نريد أن نأكل منها، وتطمئن قلوبنا، ونعلم أن قد صدقتنا، ونكون عليها من الشاهدين قال عيسى ابن مريم: اللهم ربنا أنزل علينا مائدة من السماء تكون لنا عيدا لأولنا وآخرنا، وآية منك، وارزقنا وأنت خير الرازقين قال الله: إني منزلها عليكم، فمن يكفر بعد منكم فإني أعذبه عذابا لا أعذبه أحدا من العالمين . .
ويكشف لنا هذا الحوار عن طبيعة قوم عيسى . . المستخلصين منهم وهم الحواريون . . فإذا بينهم وبين أصحاب رسولنا - صلى الله عليه وسلم - فرق بعيد . .
إنهم الحواريون الذين ألهمهم الله الإيمان به وبرسوله عيسى . فآمنوا . وأشهدوا عيسى على إسلامهم . . ومع هذا فهم بعدما رأوا من معجزات عيسى ما رأوا ، يطلبون خارقة جديدة . تطمئن بها نفوسهم . ويعلمون منها أنه صدقهم . ويشهدون بها له لمن وراءهم .
فأما أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم - فلم يطلبوا منه خارقة واحدة بعد إسلامهم . . لقد آمنت قلوبهم واطمأنت منذ أن خالطتها بشاشة الإيمان . ولقد صدقوا رسولهم فلم يعودوا يطلبون على صدقه بعد ذلك البرهان . ولقد شهدوا له بلا معجزة إلا هذا القرآن . .
هذا هو الفارق الكبير بين حواريي عيسى عليه السلام وحواريي محمد - صلى الله عليه وسلم - ذلك مستوى ، وهذا مستوى . . وهؤلاء مسلمون وأولئك مسلمون . . وهؤلاء مقبولون عند الله وهؤلاء مقبولون . . ولكن تبقى المستويات متباعدة كما أرادها الله . .
وقصة المائدة - كما أوردها القرآن الكريم - لم ترد في كتب النصارى . ولم تذكر في هذه الأناجيل التي كتبت متأخرة بعد عيسى - عليه السلام - بفترة طويلة ، لا يؤمن معها على الحقيقة التي تنزلت من عند الله . وهذه الأناجيل ليست إلا رواية بعض القديسين عن قصة عيسى - عليه السلام - وليست هي ما أنزله الله عليه وسماه الإنجيل الذي آتاه . .
ولكن ورد في هذه الأناجيل خبر عن المائدة في صورة أخرى : فورد في إنجيل متى في نهاية الإصحاح الخامس عشر : "وأما يسوع فدعا تلاميذه ، وقال : إني أشفق على الجميع ، لأن لهم الآن ثلاثة أيام يمشون [ ص: 999 ] معي ، وليس لهم ما يأكلون . ولست أريد أن أصرفهم صائمين لئلا يخوروا في الطريق . فقال له تلاميذه : من أين لنا في البرية خبز بهذا المقدار حتى يشبع جمعا هذا عدده ؟ فقال لهم يسوع : كم عندكم من الخبز ؟ فقالوا : سبعة وقليل من صغار السمك . فأمر الجموع أن يتكئوا على الأرض ; وأخذ السبع خبزات والسمك ، وشكر وكسر ، وأعطى تلاميذه ، والتلاميذ أعطوا الجمع ، فأكل الجمع وشبعوا ، ثم رفعوا ما فضل من الكسر سبعة سلال مملوءة ، والآكلون كانوا أربعة آلاف ، ما عدا النساء والأولاد " . . . وورد مثل هذه الرواية في سائر الأناجيل . .
وبعض التابعين - رضوان الله عليهم - كمجاهد ، يريان أن المائدة لم تنزل . لأن الحواريين حينما سمعوا قول الله سبحانه : والحسن إني منزلها عليكم فمن يكفر بعد منكم فإني أعذبه عذابا لا أعذبه أحدا من العالمين . .
خافوا وكفوا عن طلب نزولها :
قال ابن كثير في التفسير : روى عن الليث بن أبي سليم قال : "هو مثل ضربه الله ولم ينزل شيء " (رواه مجاهد ابن أبي حاتم ) . ثم قال وابن جرير : حدثنا ابن جرير الحارث ، حدثنا القاسم - هو ابن سلام - حدثنا حجاج عن عن ابن جريج قال : مائدة عليها طعام أبوها حين عرض عليهم العذاب إن كفروا ، فأبوا أن تنزل عليهم . . وقال أيضا ; حدثنا أبو المثنى ، حدثنا مجاهد محمد بن جعفر ، حدثنا ، عن شعبة ، عن منصور بن زاذان ، أنه قال في المائدة : إنها لم تنزل . . وحدثنا الحسن بشر ، حدثنا يزيد ، حدثنا سعيد ، عن ، قال : كان قتادة يقول : لما قيل لهم : الحسن فمن يكفر بعد منكم فإني أعذبه عذابا لا أعذبه أحدا من العالمين قالوا : لا حاجة لنا فيها ، فلم تنزل .
ولكن أكثر آراء السلف على أنها نزلت . لأن الله تعالى قال : إني منزلها عليكم . ووعد الله حق . وما أورده القرآن الكريم عن المائدة هو الذي نعتمده في أمرها دون سواه . .