(118 - 121) وجعلوا لله مما ذرأ من الحرث والأنعام نصيبا، فقالوا: هذا لله - بزعمهم - وهذا لشركائنا. فما كان لشركائهم فلا يصل إلى الله، وما كان لله فهو يصل إلى شركائهم، ساء ما يحكمون وكذلك زين لكثير من المشركين قتل أولادهم شركاؤهم ليردوهم وليلبسوا عليهم دينهم، ولو شاء الله ما فعلوه، فذرهم وما يفترون وقالوا: هذه أنعام وحرث حجر، لا يطعمها إلا من نشاء - بزعمهم - وأنعام حرمت ظهورها، وأنعام لا يذكرون اسم الله عليها - افتراء عليه - سيجزيهم بما كانوا يفترون وقالوا: ما في بطون هذه الأنعام خالصة لذكورنا ومحرم على أزواجنا، وإن يكن ميتة فهم فيه شركاء. سيجزيهم وصفهم، إنه حكيم عليم قد خسر الذين قتلوا أولادهم سفها بغير علم وحرموا ما رزقهم الله - افتراء على الله - قد ضلوا وما كانوا مهتدين . .
(136 - 140 )
هذه هي المناسبة الحاضرة في حياة الأمة المسلمة - والجاهلية حولها - التي تتمثل فيها تلك القضية الكبيرة . . قضية التشريع . . ومن ورائها القضية الكبرى . . قضية الألوهية والعبودية التي تعالجها السورة كلها ، ويعالجها القرآن المكي كله ، كما يعالجها القرآن المدني أيضا كلما جاء ذكر النظام فيه وذكر التشريع .
والحشد الذي يتدفق به سياق السورة من التقريرات والمؤثرات ، وهو يواجه الجاهلية وأهلها في أمر هذه الأنعام والذبائح والنذور - وهي المناسبة التي تتمثل فيها قضية حق التشريع - وربطها بقضية العقيدة كلها - قضية الألوهية والعبودية - وجعلها مسألة إيمان أو كفر ، ومسألة إسلام أو جاهلية . . هذا الحشد - على النحو الذي سنحاول أن نستعرض نماذج منه في هذا التعريف المختصر بالسورة ، والذي سيتجلى على حقيقته في المواجهة التفصيلية للنصوص في السياق بعد ذلك - يوقع في النفس تلك الحقيقة الأصيلة في طبيعة هذا الدين .
وهي أن كل جزئية صغيرة في الحياة الإنسانية يجب أن تخضع خضوعا مطلقا لحاكمية الله المباشرة ، الممثلة في شريعته . وإلا فهو الخروج من هذا الدين جملة من أجل الخروج على حاكمية الله المطلقة في تلك الجزئية الصغيرة .
كذلك يدل ذلك الحشد على مدى الأهمية التي ينوطها هذا الدين بتخليص مظهر الحياة كله من ظلال حاكمية البشر في أي شأن من شؤون البشر - جل أم حقر ، كبر أم صغر - وربط أي شأن من هذه الشؤون [ ص: 1019 ] بالأصل الكبير الذي يتمثل فيه هذا الدين . . وهو حاكمية الله المطلقة التي تتمثل فيها ألوهيته في الأرض ، كما تتمثل ألوهيته في الكون كله بتصرف أمر هذا الكون كله بلا شريك .
إن سياق السورة يعقب على تلك الشعائر الجاهلية في شأن الأنعام والثمار ، والنذور منها ومن الأولاد تعقيبات منوعة . بعضها مباشر ، لتصوير مدى السخف والتناقض في هذه الشعائر ، وبعضها للربط بين مزاولة البشر لحق التحريم والتحليل وقضية العقيدة الكبرى ، ولبيان أن اتباع أمر الله فيها هو صراطه المستقيم ، الذي يخرج من لا يتبعه عن هذا الدين . . على النحو التالي بعد ذكر تلك الشعائر في الآيات السابقة :
وهو الذي أنشأ جنات معروشات وغير معروشات، والنخل والزرع مختلفا أكله، والزيتون والرمان متشابها وغير متشابه. كلوا من ثمره إذا أثمر وآتوا حقه يوم حصاده، ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين ومن الأنعام حمولة وفرشا، كلوا مما رزقكم الله ولا تتبعوا خطوات الشيطان، إنه لكم عدو مبين ثمانية أزواج من الضأن اثنين ومن المعز اثنين. قل: آلذكرين حرم أم الأنثيين؟ أما اشتملت عليه أرحام الأنثيين؟ نبئوني بعلم إن كنتم صادقين ومن الإبل اثنين ومن البقر اثنين. قل: آلذكرين حرم أم الأنثيين؟ أما اشتملت عليه أرحام الأنثيين؟ أم كنتم شهداء إذ وصاكم الله بهذا؟ فمن أظلم ممن افترى على الله كذبا ليضل الناس بغير علم، إن الله لا يهدي القوم الظالمين قل: لا أجد في ما أوحي إلي محرما على طاعم يطعمه إلا أن يكون ميتة أو دما مسفوحا، أو لحم خنزير - فإنه رجس - أو فسقا أهل لغير الله به. فمن اضطر غير باغ ولا عاد فإن ربك غفور رحيم وعلى الذين هادوا حرمنا كل ذي ظفر، ومن البقر والغنم حرمنا عليهم شحومهما - إلا ما حملت ظهورهما أو الحوايا أو ما اختلط بعظم - ذلك جزيناهم ببغيهم، وإنا لصادقون فإن كذبوك فقل: ربكم ذو رحمة واسعة ولا يرد بأسه عن القوم المجرمين سيقول الذين أشركوا: لو شاء الله ما أشركنا ولا آباؤنا، ولا حرمنا من شيء. كذلك كذب الذين من قبلهم حتى ذاقوا بأسنا. قل: هل عندكم من علم فتخرجوه لنا؟ إن تتبعون إلا الظن، وإن أنتم إلا تخرصون قل فلله الحجة البالغة فلو شاء لهداكم أجمعين قل هلم شهداءكم الذين يشهدون أن الله حرم هذا، فإن شهدوا فلا تشهد معهم، ولا تتبع أهواء الذين كذبوا بآياتنا، والذين لا يؤمنون بالآخرة، وهم بربهم يعدلون قل: تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم: ألا تشركوا به شيئا، وبالوالدين إحسانا. ولا تقتلوا أولادكم من إملاق نحن نرزقكم وإياهم، ولا تقربوا الفواحش ما ظهر منها وما بطن، ولا تقتلوا النفس التي حرم الله - إلا بالحق - ذلكم وصاكم به لعلكم تعقلون ولا تقربوا مال اليتيم - إلا بالتي هي أحسن - حتى يبلغ أشده، وأوفوا الكيل والميزان بالقسط - لا نكلف نفسا إلا وسعها - وإذا قلتم فاعدلوا - ولو كان ذا قربى - وبعهد الله أوفوا. ذلكم وصاكم به لعلكم تذكرون وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه، ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله. ذلكم وصاكم به لعلكم تتقون
. . (141 - 153 )
وكذلك نرى أن هذه المسألة الجزئية الخاصة بالتحريم والتحليل في الأنعام والنذور في الأنعام والثمار ، وفي الأولاد - على ما كان متبعا في الجاهلية - يربطها السياق بتلك القضايا الكبيرة : بالهدى والضلال . واتباع منهج الله أو اتباع خطوات الشيطان ، وبرحمة الله أو بأسه وبالشهادة بوحدانية الله أو عدل غيرها به . وباتباع صراطه مستقيما أو التفرق عنه . ويستخدم نفس التعبيرات التي استخدمها وهو بصدد القضية الكبرى في محيطها الشامل . .
كما نراه يحشد لها من المؤثرات والموحيات - في هذا الموضع وحده - مشهد الخلق والإحياء في الجنات المعروشات وغير المعروشات . ومشهد النخل والزرع مختلفا ألوانه والزيتون والرمان متشابها وغير متشابه . [ ص: 1020 ] وموقف الإشهاد والمفاصلة . وموقف البأس والتدمير على المشركين . .
وهي ذات المشاهد التي حشدها السياق في السورة كلها من قبل ، وهو يتناول قضية العقيدة بجملتها ، قبل أن يتعرض لهذه المناسبة الخاصة التي تتمثل فيها . ولكل هذا دلالته التي لا تخطئ على طبيعة هذا الدين ، ونظرته لقضية الحاكمية والتشريع في الكثير والقليل . .
ولعلنا قد سبقنا سياق السورة ; ونحن نبين منهجها الموضوعي وهي تتناول قضية العقيدة بجملتها ، في مواجهة مناسبة جزئية تتعلق بأمر التشريع والحاكمية . وهي المناسبة التي لا نقول : إنها اقتضت ذلك الحشد المجتمع المتدفق من التقريرات والتأثيرات في سياق السورة كله ، وهذا البيان الرائع الباهر لحقيقة الألوهية في مجالها الواسع الشامل . ولكننا نقول : إنها المناسبة التي ربطت في سياق السورة بهذا كله ; فدل هذا الربط على طبيعة هذا الدين ; ونظرته لقضية التشريع والحاكمية في الكبير والصغير ، وفي الجليل والحقير من شؤون هذه الحياة الدنيا . . كما أسلفنا . .