الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      ذلك كان موقفهم مع أنبيائهم، يبينه ويقرره، ثم يجابههم بموقفهم من الرسالة الجديدة والنبي الجديد ، فإذا هم هم، كأنهم أولئك الذين جابهوا الأنبياء من قبل:

                                                                                                                                                                                                                                      وقالوا: قلوبنا غلف. بل لعنهم الله بكفرهم فقليلا ما يؤمنون ولما جاءهم كتاب من عند الله مصدق لما معهم - وكانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا - فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به. فلعنة الله على الكافرين. بئسما اشتروا به أنفسهم: أن يكفروا بما أنزل الله - بغيا، أن ينزل الله من فضله على من يشاء من عباده - فباءوا بغضب على غضب، وللكافرين عذاب مهين. وإذا قيل لهم: آمنوا بما أنزل الله، قالوا: نؤمن بما أنزل علينا. ويكفرون بما وراءه، وهو الحق مصدقا لما معهم، قل: فلم تقتلون أنبياء الله من قبل إن كنتم مؤمنين ولقد جاءكم موسى بالبينات ثم اتخذتم العجل من بعده وأنتم ظالمون. وإذ أخذنا ميثاقكم ورفعنا فوقكم الطور: خذوا ما آتيناكم بقوة واسمعوا قالوا: سمعنا وعصينا، وأشربوا في قلوبهم العجل بكفرهم. قل: بئسما يأمركم به إيمانكم إن كنتم مؤمنين!

                                                                                                                                                                                                                                      .. إن الأسلوب هنا يعنف ويشتد، ويتحول - في بعض المواضع - إلى صواعق وحمم.. إنه يجبههم جبها شديدا بما قالوا وما فعلوا; ويجردهم من كل حججهم ومعاذيرهم التي يسترون بها استكبارهم عن الحق، وأثرتهم البغيضة، وعزلتهم النافرة، وكراهتهم لأن ينال غيرهم الخير، وحسدهم أن يؤتي الله أحدا من فضله.

                                                                                                                                                                                                                                      جزاء موقفهم الجحودي المنكر من الإسلام ورسوله الكريم..

                                                                                                                                                                                                                                      وقالوا: قلوبنا غلف. بل لعنهم الله بكفرهم فقليلا ما يؤمنون ..

                                                                                                                                                                                                                                      قالوا: إن قلوبنا مغلفة لا تنفذ إليها دعوة جديدة، ولا تستمع إلى داعية جديد! قالوها تيئيسا لمحمد - صلى الله عليه وسلم - وللمسلمين، من دعوتهم إلى هذا الدين; أو تعليلا لعدم استجابتهم لدعوة الرسول.. [ ص: 90 ] ويقول الله ردا على قولتهم: بل لعنهم الله بكفرهم .. أي: إنه طردهم وأبعدهم عن الهدى بسبب كفرهم.

                                                                                                                                                                                                                                      فهم قد كفروا ابتداء فجازاهم الله على الكفر بالطرد وبالحيلولة بينهم وبين الانتفاع بالهدى.. فقليلا ما يؤمنون ..

                                                                                                                                                                                                                                      أي قليلا ما يقع منهم الإيمان بسبب هذا الطرد الذي حق عليهم جزاء كفرهم السابق، وضلالهم القديم. أو أن هذه حالهم: أنهم كفروا فقلما يقع منهم الإيمان، حالة لاصقة بهم يذكرها تقريرا لحقيقتهم.. وكلا المعنيين يتفق مع المناسبة والموضوع.

                                                                                                                                                                                                                                      وقد كان كفرهم قبيحا، لأنهم كفروا بالنبي الذي ارتقبوه، واستفتحوا به على الكافرين، أي: ارتقبوا أن ينتصروا به على من سواهم. وقد جاءهم بكتاب مصدق لما معهم:

                                                                                                                                                                                                                                      ولما جاءهم كتاب من عند الله مصدق لما معهم - وكانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا - فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به ..

                                                                                                                                                                                                                                      وهو تصرف يستحق الطرد والغضب لقبحه وشناعته.. ومن ثم يصب عليهم اللعنة ويصمهم بالكفر:

                                                                                                                                                                                                                                      فلعنة الله على الكافرين ..

                                                                                                                                                                                                                                      ويفضح السبب الخفي لهذا الموقف الشائن الذي وقفوه; بعد أن يقرر خسارة الصفقة التي اختاروها:

                                                                                                                                                                                                                                      بئسما اشتروا به أنفسهم أن يكفروا بما أنزل الله، بغيا أن ينزل الله من فضله على من يشاء من عباده. فباءوا بغضب على غضب، وللكافرين عذاب مهين ..

                                                                                                                                                                                                                                      بئسما اشتروا به أنفسهم أن يكفروا ... لكأن هذا الكفر هو الثمن المقابل لأنفسهم! والإنسان يعادل نفسه بثمن ما، يكثر أو يقل. أما أن يعادلها بالكفر فتلك أبأس الصفقات وأخسرها ولكن هذا هو الواقع. وإن بدا تمثيلا وتصويرا. لقد خسروا أنفسهم في الدنيا فلم ينضموا إلى الموكب الكريم العزيز ولقد خسروا أنفسهم في الآخرة بما ينتظرهم من العذاب المهين. وبماذا خرجوا في النهاية؟ خرجوا بالكفر، هو وحده الذي كسبوه وأخذوه!.

                                                                                                                                                                                                                                      وكان الذي حملهم على هذا كله هو حسدهم لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يختاره الله للرسالة التي انتظروها فيهم، وحقدهم لأن ينزل الله من فضله على من يشاء من عباده. وكان هذا بغيا منهم وظلما فعادوا من هذا الظلم بغضب على غضب; وهناك ينتظرهم عذاب مهين، جزاء الاستكبار والحسد والبغي الذميم.

                                                                                                                                                                                                                                      وهذه الطبيعة التي تبدو هنا في يهود هي الطبيعة الكنود، طبيعة الأثرة الضيقة التي تحيا في نطاق من التعصب شديد وتحس أن كل خير يصيب سواها كأنما هو مقتطع منها; ولا تشعر بالوشيجة الإنسانية الكبرى، التي تربط البشرية جميعا.. وهكذا عاش اليهود في عزلة، يحسون أنهم فرع مقطوع من شجرة الحياة; ويتربصون بالبشرية الدوائر; ويكنون للناس البغضاء، ويعانون عذاب الأحقاد والضغائن، ويذيقون البشرية رجع هذه الأحقاد فتنا يوقدونها بين بعض الشعوب وبعض، وحروبا يثيرونها ليجروا من ورائها المغانم، ويروون بها أحقادهم التي لا تنطفئ، وهلاكا يسلطونه على الناس، ويسلطه عليهم الناس.. وهذا الشر كله إنما نشأ من تلك الأثرة البغيضة: بغيا.. أن ينزل الله من فضله على من يشاء من عباده ..

                                                                                                                                                                                                                                      وإذا قيل لهم: آمنوا بما أنزل الله قالوا: نؤمن بما أنزل علينا، ويكفرون بما وراءه وهو الحق مصدقا لما معهم ..

                                                                                                                                                                                                                                      وكان هذا هو الذي يقولونه إذا دعوا إلى الإيمان بالقرآن وبالإسلام. كانوا يقولون نؤمن بما أنزل علينا .. [ ص: 91 ] ففيه الكفاية، وهو وحده الحق، ثم يكفرون بما وراءه. سواء ما جاءهم به عيسى عليه السلام، وما جاءهم به محمد خاتم النبيين.

                                                                                                                                                                                                                                      والقرآن يعجب من موقفهم هذا، ومن كفرهم بما وراء الذي معهم وهو الحق مصدقا لما معهم ..

                                                                                                                                                                                                                                      وما لهم وللحق؟ وما لهم أن يكون مصدقا لما معهم! ما داموا لم يستأثروا هم به؟ إنهم يعبدون أنفسهم، ويتعبدون لعصبيتهم. لا بل إنهم ليعبدون هواهم، فلقد كفروا من قبل بما جاءهم أنبياؤهم به ... ويلقن الله نبيه - صلى الله عليه وسلم - أن يجبههم بهذه الحقيقة، وكشفا لموقفهم وفضحا لدعواهم:

                                                                                                                                                                                                                                      قل: فلم تقتلون أنبياء الله من قبل إن كنتم مؤمنين؟ ..

                                                                                                                                                                                                                                      لم تقتلون أنبياء الله من قبل، إن كنتم حقا تؤمنون بما أنزل إليكم؟ وهؤلاء الأنبياء هم الذين جاؤوكم بما تدعون أنكم تؤمنون به؟

                                                                                                                                                                                                                                      لا بل إنكم كفرتم بما جاءكم به موسى - نبيكم الأول ومنقذكم الأكبر - :

                                                                                                                                                                                                                                      ولقد جاءكم موسى بالبينات ثم اتخذتم العجل من بعده وأنتم ظالمون ..

                                                                                                                                                                                                                                      فهل اتخاذكم العجل من بعد ما جاءكم موسى بالبينات، وفي حياة موسى نفسه، كان من وحي الإيمان؟

                                                                                                                                                                                                                                      وهل يتفق هذا مع دعواكم أنكم تؤمنون بما أنزل إليكم؟

                                                                                                                                                                                                                                      ولم تكن هذه هي المرة الوحيدة. بل كان هنالك الميثاق تحت الصخرة، وكان هناك التمرد والمعصية:

                                                                                                                                                                                                                                      وإذ أخذنا ميثاقكم ورفعنا فوقكم الطور: خذوا ما آتيناكم بقوة واسمعوا، قالوا: سمعنا وعصينا، وأشربوا في قلوبهم العجل بكفرهم ..

                                                                                                                                                                                                                                      والسياق هنا يلتفت من الخطاب إلى الحكاية.. يخاطب بني إسرائيل بما كان منهم، ويلتفت إلى المؤمنين - وإلى الناس جميعا - فيطلعهم على ما كان منهم.. ثم يلقن الرسول - صلى الله عليه وسلم - أن يجبههم بالترذيل والتبشيع لهذا اللون من الإيمان العجيب الذي يدعونه إن كان يأمرهم بكل هذا الكفر الصريح:

                                                                                                                                                                                                                                      قل: بئسما يأمركم به إيمانكم إن كنتم مؤمنين! ..

                                                                                                                                                                                                                                      ونقف هنا لحظة أمام التعبيرين المصورين العجيبين: قالوا: سمعنا وعصينا .. وأشربوا في قلوبهم العجل بكفرهم ..

                                                                                                                                                                                                                                      إنهم قالوا: سمعنا. ولم يقولوا عصينا. ففيم إذن حكاية هذا القول عنهم هنا؟ إنه التصوير الحي للواقع الصامت كأنه واقع ناطق، لقد قالوا بأفواههم: سمعنا. وقالوا بأعمالهم: عصينا. والواقع العملي هو الذي يمنح القول الشفوي دلالته. وهذه الدلالة أقوى من القول المنطوق.. وهذا التصوير الحي للواقع يومئ إلى مبدأ كلي من مبادئ الإسلام: إنه لا قيمة لقول بلا عمل . إن العمل هو المعتبر. أو هي الوحدة بين الكلمة المنطوقة والحركة الواقعة، وهي مناط الحكم والتقدير.

                                                                                                                                                                                                                                      فأما الصورة الغليظة التي ترسمها: وأشربوا في قلوبهم العجل فهي صورة فريدة. لقد أشربوا، أشربوا بفعل فاعل سواهم. أشربوا ماذا؟ أشربوا العجل! وأين أشربوه؟ أشربوه في قلوبهم! ويظل الخيال يتمثل تلك المحاولة العنيفة الغليظة، وتلك الصورة الساخرة الهازئة: صورة العجل يدخل في القلوب إدخالا، ويحشر فيها حشرا، حتى ليكاد ينسى المعنى الذهني الذي جاءت هذه الصورة المجسمة لتؤديه، وهو حبهم الشديد لعبادة العجل، حتى لكأنهم أشربوه إشرابا في القلوب! هنا تبدو قيمة التعبير القرآني المصور، بالقياس [ ص: 92 ] إلى التعبير الذهني المفسر.. إنه التصوير.. السمة البارزة في التعبير القرآني الجميل.

                                                                                                                                                                                                                                      ثم لقد كانوا يطلقونها دعوى عريضة.. إنهم شعب الله المختار. إنهم وحدهم المهتدون. إنهم وحدهم الفائزون في الآخرة. إنه ليس لغيرهم من الأمم في الآخرة عند الله نصيب.

                                                                                                                                                                                                                                      وهذه الدعوى تتضمن أن المؤمنين بمحمد - صلى الله عليه وسلم - لا نصيب لهم في الآخرة. والهدف الأول هو زعزعة ثقتهم بدينهم وبوعود رسولهم ووعود القرآن لهم.. فأمر الله نبيه - صلى الله عليه وسلم - أن يدعو اليهود إلى مباهلة. أي بأن يقف الفريقان ويدعوا الله بهلاك الكاذب منهما:

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية