الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      إن أسرار هذا القرآن ستظل تتكشف لأصحابه جديدة دائما كلما عاشوا في ظلاله ; وهم يخوضون معركة العقيدة ; ويتدبرون بوعي أحداث التاريخ ; ويطالعون بوعي أحداث الحاضر . ويرون بنور الله . الذي يكشف الحق ، وينير الطريق . .

                                                                                                                                                                                                                                      ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا أو كذب بآياته؟ إنه لا يفلح الظالمون ويوم نحشرهم جميعا ثم نقول للذين أشركوا: أين شركاؤكم الذين كنتم تزعمون ثم لم تكن فتنتهم إلا أن قالوا: والله ربنا ما كنا مشركين انظر كيف كذبوا على أنفسهم، وضل عنهم ما كانوا يفترون . .

                                                                                                                                                                                                                                      هذا استطراد في مواجهة المشركين بحقيقة ما يزاولونه ، ووصف موقفهم وعملهم في تقدير الله سبحانه . . مواجهة تبدأ باستفهام تقريري لظلمهم بافتراء الكذب على الله ; وذلك فيما كانوا يدعونه من أنهم على دينه الذي جاء به إبراهيم عليه السلام ; ومن زعمهم أن ما يحلونه وما يحرمونه من الأنعام والمطاعم والشعائر - كالذي سيجيء في آخر السورة مشفوعا بقوله تعالى : بزعمهم - هو من أمر الله . . وليس من أمره .

                                                                                                                                                                                                                                      وذلك كالذي يزعمه بعض من يدعون اليوم أنهم على دين الله الذي جاء به محمد - صلى الله عليه وسلم - ويقولون عن أنفسهم إنهم "مسلمون " ! وهو من الكذب المفترى على الله . ذلك أنهم يصدرون أحكاما وينشئون أوضاعا ، ويبتدعون قيما من عند أنفسهم يغتصبون فيها سلطان الله ويدعونه لأنفسهم ، ويزعمون أنها هي دين الله ; ويزعم لهم بعض من باعوا دينهم ليشتروا به مثوى في دركات الجحيم ، أنه هو دين الله ! . . وباستنكار تكذيبهم كذلك بآيات الله ، التي جاءهم بها النبي - صلى الله عليه وسلم - فردوها وعارضوها وجحدوها . وقالوا : إنها ليست من عند الله . بينما هم يزعمون أن ما يزاولونه في جاهليتهم هو الذي من عند الله ! وذلك كالذي يحدث من أهل الجاهلية اليوم . . حذوك النعل بالنعل . .

                                                                                                                                                                                                                                      يواجههم باستنكار هذا كله ; ووصفه بأنه أظلم الظلم :

                                                                                                                                                                                                                                      ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا أو كذب بآياته! . . [ ص: 1063 ] والظلم هنا كناية عن الشرك . في صورة التفظيع له والتقبيح . وهو التعبير الغالب في السياق القرآني عن الشرك . وذلك حين يريد أن يبشع الشرك وينفر منه . ذلك أن الشرك ظلم للحق ، وظلم للنفس ، وظلم للناس . هو اعتداء على حق الله - سبحانه - في أن يوحد ويعبد بلا شريك . واعتداء على النفس بإيرادها موارد الخسارة والبوار . واعتداء على الناس بتعبيدهم لغير ربهم الحق ، وإفساد حياتهم بالأحكام والأوضاع التي تقوم على أساس هذا الاعتداء . . ومن ثم فالشرك ظلم عظيم ، كما يقول عنه رب العالمين . ولن يفلح الشرك ولا المشركون :

                                                                                                                                                                                                                                      إنه لا يفلح الظالمون . .

                                                                                                                                                                                                                                      والله - سبحانه - يقرر الحقيقة الكلية ; ويصف الحصيلة النهائية للشرك والمشركين - أو للظلم والظالمين - فلا عبرة بما تراه العيون القصيرة النظر ، في الأمد القريب ، فلاحا ونجاحا . . فهذا هو الاستدراج المؤدي إلى الخسار والبوار . . ومن أصدق من الله حديثا ؟ . .

                                                                                                                                                                                                                                      وهنا يصور من عدم فلاحهم موقفهم يوم الحشر والحساب ، في هذا المشهد الحي الشاخص الموحي :

                                                                                                                                                                                                                                      ويوم نحشرهم جميعا، ثم نقول للذين أشركوا: أين شركاؤكم الذين كنتم تزعمون ثم لم تكن فتنتهم إلا أن قالوا: والله ربنا ما كنا مشركين انظر كيف كذبوا على أنفسهم، وضل عنهم ما كانوا يفترون . .

                                                                                                                                                                                                                                      إن الشرك ألوان ، والشركاء ألوان ، والمشركين ألوان . . وليست الصورة الساذجة التي تتراءى للناس اليوم حين يسمعون كلمة الشرك وكلمة الشركاء وكلمة المشركين : من أن هناك ناسا كانوا يعبدون أصناما أو أحجارا ، أو أشجارا ، أو نجوما ، أو نارا . . إلخ . . هي الصورة الوحيدة للشرك !

                                                                                                                                                                                                                                      إن الشرك في صميمه هو الاعتراف لغير الله - سبحانه - بإحدى خصائص الألوهية . . سواء كانت هي الاعتقاد بتسيير إرادته للأحداث ومقادير الكائنات . أو كانت هي التقدم لغير الله بالشعائر التعبدية والنذور وما إليها . أو كانت هي تلقي الشرائع من غير الله لتنظيم أوضاع الحياة . . كلها ألوان من الشرك ، يزاولها ألوان من المشركين ، يتخذون ألوانا من الشركاء !

                                                                                                                                                                                                                                      والقرآن الكريم يعبر عن هذا كله بالشرك ; ويعرض مشاهد يوم القيامة تمثل هذه الألوان من الشرك والمشركين والشركاء ; ولا يقتصر على لون منها ، ولا يقصر وصف الشرك على واحد منها ; ولا يفرق في المصير والجزاء بين ألوان المشركين في الدنيا وفي الآخرة سواء . .

                                                                                                                                                                                                                                      ولقد كان العرب يزاولون هذه الألوان من الشرك جميعا :

                                                                                                                                                                                                                                      كانوا يعتقدون أن هناك كائنات من خلق الله ، لها مشاركة - عن طريق الشفاعة الملزمة عند الله - في تسيير الأحداث والأقدار . كالملائكة . أو عن طريق قدرتها على الأذى - كالجن بذواتهم أو باستخدام الكهان والسحرة لهم - أو عن طريق هذه وتلك - كأرواح الآباء والأجداد - وكل أولئك كانوا يرمزون له بالأصنام التي تعمرها أرواح هذه الكائنات ; ويستنطقها الكهان ; فتحل لهم ما تحل ، وتحرم عليهم ما تحرم . . وإنما هم الكهان في الحقيقة . . هم الشركاء !

                                                                                                                                                                                                                                      وكانوا يزاولون الشرك في تقديم الشعائر لهذه الأصنام ; وتقديم القربان لها والنذور - وفي الحقيقة للكهان - كما أن بعضهم - نقلا عن الفرس - كانوا يعتقدون في الكواكب ومشاركتها في تسيير الأحداث - عن طريق المشاركة لله - ويتقدمون لها كذلك بالشعائر (ومن هنا علاقة الحلقة المذكورة في هذه السورة من قصة إبراهيم عليه السلام بموضوع السورة كما سيأتي ) . . [ ص: 1064 ] وكذلك كانوا يزاولون اللون الثالث من الشرك بإقامتهم لأنفسهم - عن طريق الكهان والشيوخ - شرائع وقيما وتقاليد ، لم يأذن بها الله . . وكانوا يدعون ما يدعيه بعض الناس اليوم من أن هذا هو شريعة الله !

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية