وهذه الأمم التي يقص الله - سبحانه - من أنبائها على رسوله - صلى الله عليه وسلم - ومن وراءه من أمته . . لم تفد من الشدة شيئا . لم تتضرع إلى الله ، ولم ترجع عما زينه لها الشيطان من الإعراض والعناد . . وهنا يملي  [ ص: 1090 ] لها الله - سبحانه - ويستدرجها بالرخاء : 
فلما نسوا ما ذكروا به فتحنا عليهم أبواب كل شيء. حتى إذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم بغتة، فإذا هم مبلسون   فقطع دابر القوم الذين ظلموا، والحمد لله رب العالمين   . . 
إن الرخاء ابتلاء آخر كابتلاء الشدة . وهو مرتبة أشد وأعلى من مرتبة الشدة ! والله يبتلي بالرخاء كما يبتلي بالشدة . يبتلي الطائعين والعصاة سواء . بهذه وبذاك سواء . . والمؤمن يبتلى بالشدة فيصبر ، ويبتلى بالرخاء فيشكر . ويكون أمره كله خيرا . . وفي الحديث : عجبا للمؤمن إن أمره كله له خير وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن ، إن أصابته سراء شكر فكان خيرا له ، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيرا له  (رواه  مسلم   ) . 
فأما هذه الأمم التي كذبت بالرسل ، والتي يقص الله من أنبائها هنا . فإنهم لما نسوا ما ذكروا به ، وعلم الله - سبحانه - أنهم مهلكون ، وابتلاهم بالبأساء والضراء فلم يتضرعوا . . فأما هؤلاء فقد فتح عليهم أبواب كل شيء للاستدراج بعد الابتلاء . . 
والتعبير القرآني : فتحنا عليهم أبواب كل شيء   . . يصور الأرزاق والخيرات ، والمتاع ، والسلطان . . متدفقة كالسيول ; بلا حواجز ولا قيود ! وهي مقبلة عليهم بلا عناء ولا كد ولا حتى محاولة ! 
إنه مشهد عجيب ; يرسم حالة في حركة ; على طريقة التصوير القرآني العجيب . 
حتى إذا فرحوا بما أوتوا   . . 
وغمرتهم الخيرات والأرزاق المتدفقة ; واستغرقوا في المتاع بها والفرح لها - بلا شكر ولا ذكر - وخلت قلوبهم من الاختلاج بذكر المنعم ومن خشيته وتقواه ; وانحصرت اهتماماتهم في لذائذ المتاع واستسلموا للشهوات ، وخلت حياتهم من الاهتمامات الكبيرة كما هي عادة المستغرقين في اللهو والمتاع . وتبع ذلك فساد النظم والأوضاع ، بعد فساد القلوب والأخلاق ; وجر هذا وذلك إلى نتائجه الطبيعية من فساد الحياة كلها . . عندئذ جاء موعد السنة التي لا تتبدل : 
أخذناهم بغتة، فإذا هم مبلسون   . . 
فكان أخذهم على غرة ; وهم في سهوة وسكرة . فإذا هم حائرون منقطعو الرجاء في النجاة عاجزون عن التفكير في أي اتجاه . وإذا هم مهلكون بجملتهم حتى آخر واحد منهم . 
فقطع دابر القوم الذين ظلموا   . . 
ودابر القوم هو آخر واحد منهم يدبرهم ، أي : يجيء على أدبارهم ; فإذا قطع هذا فأوائلهم أولى ! . . و الذين ظلموا  تعني هنا الذين أشركوا . . كما هو التعبير القرآني في أغلب المواضع عن الشرك بالظلم وعن المشركين بالظالمين . . 
والحمد لله رب العالمين   . . 
تعقيب على استئصال الظالمين (المشركين ) بعد هذا الاستدراج الإلهي والكيد المتين . . وهل يحمد الله على نعمة ، أجل من نعمة تطهير الأرض من الظالمين ، أو على رحمة أجل من رحمته لعباده بهذا التطهير ؟ 
لقد أخذ الله قوم نوح  وقوم هود  وقوم صالح  وقوم لوط  ، كما أخذ الفراعنة والإغريق والرومان وغيرهم بهذه  [ ص: 1091 ] السنة ; ووراء ازدهار حضارتهم ثم تدميرها ، ذلك السر المغيب من قدر الله ; وهذا القدر الظاهر من سنته ; وهذا التفسير الرباني لهذا الواقع التاريخي المعروف . 
ولقد كان لهذه الأمم من الحضارة ; وكان لها من التمكين في الأرض ; وكان لها من الرخاء والمتاع ; ما لا يقل - إن لم يزد في بعض نواحيه - عما تتمتع به اليوم أمم ; مستغرقة في السلطان والرخاء والمتاع ; مخدوعة بما هي فيه ; خادعة لغيرها ممن لا يعرفون سنة الله في الشدة والرخاء . . 
هذه الأمم لا تدرك أن هناك سنة ، ولا تشعر أن الله يستدرجها وفق هذه السنة . والذين يدورون في فلكها يبهرهم اللألاء الخاطف ، ويتعاظمهم الرخاء والسلطان ، ويخدعهم إملاء الله لهذه الأمم ، وهي لا تعبد الله أو لا تعرفه ، وهي تتمرد على سلطانه ، وهي تدعي لأنفسها خصائص ألوهيته ، وهي تعيث في الأرض فسادا ، وهي تظلم الناس بعد اعتدائها على سلطان الله . . 
ولقد كنت - في أثناء وجودي في الولايات المتحدة الأمريكية   - أرى رأي العين مصداق قول الله سبحانه : 
فلما نسوا ما ذكروا به فتحنا عليهم أبواب كل شيء   . . فإن المشهد الذي ترسمه هذه الآية . . مشهد تدفق كل شيء من الخيرات والأرزاق بلا حساب ! . . لا يكاد يتمثل في الأرض كلها كما يتمثل هناك ! 
وكنت أرى غرور القوم بهذا الرخاء الذي هم فيه ، وشعورهم بأنه وقف على "الرجل الأبيض " وطريقة تعاملهم مع الملونين في عجرفة مرذولة ، وفي وحشية كذلك بشعة ! وفي صلف على أهل الأرض كلهم لا يقاس إليه صلف النازية الذي شهر به اليهود في الأرض كلها حتى صار علما على الصلف العنصري . بينما الأمريكي الأبيض يزاوله تجاه الملونين في صورة أشد وأقسى ! وبخاصة إذا كان هؤلاء الملونون من المسلمين . . 
كنت أرى هذا كله فأذكر هذه الآية ، وأتوقع سنة الله ، وأكاد أرى خطواتها وهي تدب إلى الغافلين : 
حتى إذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم بغتة فإذا هم مبلسون  فقطع دابر القوم الذين ظلموا والحمد لله رب العالمين   . . 
وإذا كان الله قد رفع عذاب الاستئصال بعد بعثة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فهناك ألوان من العذاب باقية . والبشرية - وبخاصة الأمم التي فتحت عليها أبواب كل شيء - تذوق منها الكثير . على الرغم من هذا النتاج الوفير ، ومن هذا الرزق الغزير ! 
إن العذاب النفسي ، والشقاء الروحي ، والشذوذ الجنسي ، والانحلال الخلقي . . الذي تقاسي منه هذه الأمم اليوم ، ليكاد يغطي على الإنتاج والرخاء والمتاع ; وليكاد يصبغ الحياة كلها بالنكد والقلق والشقاء ! ذلك إلى جانب الطلائع التي تشير إليها القضايا الأخلاقية السياسية ، التي تباع فيها أسرار الدولة ، وتقع فيها الخيانة للأمة ، في مقابل شهوة أو شذوذ . . وهي طلائع لا تخطئ على نهاية المطاف ! 
وليس هذا كله إلا بداية الطريق . . وصدق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : إذا رأيت الله يعطي العبد من الدنيا - على معاصيه - ما يحب . فإنما هو استدراج " . . ثم تلا : فلما نسوا ما ذكروا به فتحنا عليهم أبواب كل شيء. حتى إذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم بغتة فإذا هم مبلسون   . . (رواه  ابن جرير  ،  وابن أبي حاتم   ) . 
غير أنه ينبغي ، مع ذلك ، التنبيه إلى أن سنة الله في تدمير (الباطل ) أن يقوم في الأرض (حق ) يتمثل في (أمة ) . . ثم يقذف الله بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق . . فلا يقعدن أهل الحق كسالى يرتقبون  [ ص: 1092 ] أن تجري سنة الله بلا عمل منهم ولا كد . فإنهم حينئذ لا يمثلون الحق ، ولا يكونون أهله . . وهم كسالى قاعدون . . والحق لا يتمثل إلا في أمة تقوم لتقر حاكمية الله في الأرض ، وتدفع المغتصبين لها من الذين يدعون خصائص الألوهية . . هذا هو الحق الأول ، والحق الأصيل . . ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض   . . 
 
				 
				
 
						 
						

 
					 
					