بعد ذلك يردهم السياق إلى الحقيقة الأولية التي ضلوا عنها ، والتي أشار إليها إشارة في أول هذا الحديث بقوله : وجعلوا لله مما ذرأ من الحرث والأنعام نصيبا . . يردهم إلى مصدر الحرث والأنعام التي يتصرفون في شأنها هذه التصرفات ; ويتلقون في شأنها من شياطين الإنس والجن الذين لم يخلقوها لهم ولم ينشئوها . . إن الله هو الذي ذرأ الحرث والأنعام ، متاعا للناس ونعمة ; ذرأها لهم ليشكروا له ; ويعبدوه - وما به سبحانه من حاجة إلى شكرهم وعبادتهم ، فهو الغني ذو الرحمة ; إنما هو صلاح حالهم في دينهم ودنياهم - فما بالهم يحكمون من لم يخلق شيئا ، فيما ذرأ الله من الحرث والأنعام؟ وما بالهم يجعلون لله نصيبا ، ولأولئك نصيبا ، ثم لا يقفون عند هذا الحد فيتلاعبون - تحت استهواء أصحاب المصلحة من الشياطين - في النصيب الذي جعلوه لله؟ !
إن الخالق الرازق هو الرب المالك . الذي لا يجوز أن يتصرف في هذا المال إلا بإذنه ممثلا في شرعه . وشرعه ممثل فيما جاء به رسوله من عنده ، لا فيما يدعي الأرباب المغتصبون لسلطان الله أنه شريعة الله !
وهو الذي أنشأ جنات معروشات وغير معروشات ، والنخل والزرع مختلفا أكله ، والزيتون والرمان ، متشابها وغير متشابه . كلوا من ثمره إذا أثمر ، وآتوا حقه يوم حصاده ، ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين . ومن [ ص: 1223 ] الأنعام حمولة وفرشا . كلوا مما رزقكم الله ، ولا تتبعوا خطوات الشيطان ، إنه لكم عدو مبين .
إن الله - سبحانه - هو الذي خلق هذه الجنات ابتداء - فهو الذي أخرج الحياة من الموات - وهذه الجنات منها الإنسيات المعروشات التي يتعهدها الإنسان بالعرائش والحوائط ; ومنها البريات التي تنبت بذاتها - بقدر الله - وتنمو بلا مساعدة من الإنسان ولا تنظيم . وإن الله هو الذي أنشأ النخل والزرع مختلف الألوان والطعوم والأشكال . وإن الله هو الذي خلق الزيتون والرمان ، منوع الصنوف متشابها وغير متشابه ، وإنه - سبحانه - هو الذي خلق هذه الأنعام وجعل منها " حمولة " عالية القوائم بعيدة عن الأرض حمالة للأثقال . وجعل منها " فرشا " صغيرة الأجسام قريبة من الأرض يتخذ من أصوافها وأشعارها الفرش . .
إنه هو - سبحانه - الذي بث الحياة فى هذه الأرض ; ونوعها هذا التنويع ; وجعلها مناسبة للوظائف التى تتطلبها حياة الناس في الأرض . . فكيف يذهب الناس - فى مواجهة هذه الآيات وهذه الحقائق - إلى تحكيم غير الله فى شأن الزروع والأنعام والأموال؟
إن المنهج القرآني يكثر من عرض حقيقة الرزق الذي يختص الله بمنحه للناس ، ليتخذ منها برهانا على ضرورة إفراد الله سبحانه بالحاكمية فى حياة الناس . فإن الخالق الرازق الكافل وحده ; هو الحقيق بأن تكون له الربوبية والحاكمية والسلطان وحده . . بلا جدال :
وهنا يحشد السياق مشاهد الزرع والإثمار ، ومشاهد الأنعام وما فيها من نعم الله . . يحشد هذه المؤثرات فى صدد قضية الحاكمية ، كما حشدها من قبل فى صدد قضية الألوهية . . فيدل على أن هذه وتلك قضية واحدة في العقيدة الإسلامية .
وعند ما يذكر الزروع والثمار يقول :
كلوا من ثمره إذا أثمر وآتوا حقه يوم حصاده ولا تسرفوا ، إنه لا يحب المسرفين . .
والأمر بإيتاء حقه يوم حصاده هو الذي جعل بعض الروايات تقول عن هذه الآية إنها مدنية . وقد قلنا فى التقديم للسورة : إن الآية مكية ، لأن السياق فى الجزء المكي من السورة لا يتصور تتابعه بدون هذه الآية . فإن ما بعدها ينقطع عما قبلها لو كانت قد تأخرت حتى نزلت فى المدينة . وهذا الأمر بإيتاء حق الزرع يوم حصاده ، لا يتحتم أن يكون المقصود به الزكاة . وهناك روايات فى الآية أن المقصود هو الصدقة غير المحددة . . أما الزكاة بأنصبتها المحددة فقد حددتها السنة بعد ذلك في السنة الثانية من الهجرة . .
وقوله تعالى :
ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين . .
ينصرف إلى العطاء ، كما ينصرف إلى الأكل . فقد روي أنهم تباروا في العطاء حتى أسرفوا ، فقال الله سبحانه : ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين . .
وعند ما يذكر الأنعام يقول :
كلوا مما رزقكم الله ، ولا تتبعوا خطوات الشيطان ، إنه لكم عدو مبين . .
ذلك ليذكرهم أن هذا رزق الله وخلقه ، والشيطان لم يخلق شيئا . فما بالهم يتبعونه في رزق الله؟ ثم ليذكرهم أن الشيطان لهم عدو مبين . فما بالهم يتبعون خطواته وهو العدو المبين؟ !
[ ص: 1224 ] ثم يأخذ السياق في مواجهة دقيقة يتتبع بها مكامن الأوهام الجاهلية ، ليلقي عليها الضوء ، ويستعرضها واحدا واحدا ، وجزئية جزئية ; فيكشف فيها عن السخف الذي لا يمكن تعليله ولا الدفاع عنه ; والذي قد يخجل منه صاحبه نفسه ، حين يكشف له في النور ; وحين يرى أن لا سند له فيه من علم ولا هدى ولا كتاب منير :
ثمانية أزواج : من الضأن اثنين ومن المعز اثنين . قل : آلذكرين حرم أم الأنثيين؟ أما اشتملت عليه أرحام الأنثيين؟ نبئوني بعلم إن كنتم صادقين ! ومن الإبل اثنين ومن البقر اثنين . قل : آلذكرين حرم أم الأنثيين؟ أما اشتملت عليه أرحام الأنثيين؟ أم كنتم شهداء إذ وصاكم الله بهذا؟ فمن أظلم ممن افترى على الله كذبا ليضل الناس بغير علم؟ إن الله لا يهدي القوم الظالمين . .
فهذه الأنعام التي يدور حولها الجدل ; والتي ذكر في الآية السابقة أن الله خلقها لهم ، هي ثمانية أزواج - وكل من الذكر والأنثى يطلق عليه لفظ زوج عند ما يكون مع رفيقه - زوج من الضأن وزوج من المعز . فأي منها حرمه الله على أي من الناس؟ أم إنه حرم أجنتها في البطون؟
نبئوني بعلم إن كنتم صادقين . .
فهذه الشؤون لا يفتى فيها بالظن ، ولا يقضى فيها بالحدس ، ولا يشرع فيها بغير سلطان معلوم .
وبقية الأزواج ذكر وأنثى من الإبل ; وذكر وأنثى من البقر . فأيها كذلك حرم ؟ أم أجنتها هي التي حرمها الله على الناس؟ ومن أين هذا التحريم :
أم كنتم شهداء إذ وصاكم الله بهذا؟ . .
فحضرتم وشهدتم وصية الله لكم خاصة بهذا التحريم . فما ينبغي أن يكون هناك تحريم بغير أمر من الله مستيقن ، لا يرجع فيه إلى الرجم والظنون .
وبهذا يرد أمر التشريع كله إلى مصدر واحد . . وقد كانوا يزعمون أن الله هو الذي شرع هذا الذي يشرعونه . لذلك يعاجلهم بالتحذير والتهديد :
فمن أظلم ممن افترى على الله كذبا ليضل الناس بغير علم . إن الله لا يهدي القوم الظالمين . .
إنه لا أحد أظلم ممن يفتري على الله شريعة لم يأذن بها ، ثم يقول : شريعة الله ! وهو يقصد أن يضل الناس بغير علم ، إنما هو يحيلهم إلى هدى أو ظن . . أولئك لن يهديهم الله ; فقد قطعوا ما بينهم وبين أسباب الهدى . وأشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا . . إن الله لا يهدي القوم الظالمين . .