ولقد مكناكم في الأرض وجعلنا لكم فيها معايش قليلا ما تشكرون (10) ولقد خلقناكم ثم صورناكم ثم قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس لم يكن من الساجدين (11 ) قال ما منعك ألا تسجد إذ أمرتك قال أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين (12 ) قال فاهبط منها فما يكون لك أن تتكبر فيها فاخرج إنك من الصاغرين (13 ) قال أنظرني إلى يوم يبعثون (14 )
قال إنك من المنظرين (15 ) قال فبما أغويتني لأقعدن لهم صراطك المستقيم (16 ) ثم لآتينهم من بين أيديهم ومن خلفهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم ولا تجد أكثرهم شاكرين (17 ) قال اخرج منها مذءوما مدحورا لمن تبعك منهم لأملأن جهنم منكم أجمعين (18 ) ويا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة فكلا من حيث شئتما ولا تقربا هذه الشجرة فتكونا من الظالمين (19 )
فوسوس لهما الشيطان ليبدي لهما ما ووري عنهما من سوآتهما وقال ما نهاكما ربكما عن هذه الشجرة إلا أن تكونا ملكين أو تكونا من الخالدين (20 ) وقاسمهما إني لكما لمن الناصحين (21 ) فدلاهما بغرور فلما ذاقا الشجرة بدت لهما سوآتهما وطفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة وناداهما ربهما ألم أنهكما عن تلكما الشجرة وأقل لكما إن الشيطان لكما عدو مبين (22 ) قالا ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين (23 ) قال اهبطوا بعضكم لبعض عدو ولكم في الأرض مستقر ومتاع إلى حين (24 ) قال فيها تحيون وفيها تموتون ومنها تخرجون (25 )
[ ص: 1262 ] من هنا تبدأ الرحلة الكبرى . . تبدأ بتمهيد عن تمكين الله للجنس البشري في الأرض ، كحقيقة مطلقة ، وذلك قبل أن تبدأ قصة البشرية تفصيلا .
ولقد مكناكم في الأرض ، وجعلنا لكم فيها معايش ، قليلا ما تشكرون :
إن خالق الأرض وخالق الناس ، هو الذي مكن لهذا الجنس البشري في الأرض . هو الذي أودع الأرض هذه الخصائص والموافقات الكثيرة التي تسمح بحياة هذا الجنس وتقوته وتعوله ، بما فيها من أسباب الرزق والمعايش . .
هو الذي جعلها مقرا صالحا لنشأته بجوها وتركيبها وحجمها وبعدها عن الشمس والقمر ، ودورتها حول الشمس ، وميلها على محورها ، وسرعة دورتها . . إلى آخر هذه الموافقات التي تسمح بحياة هذا الجنس عليها .
وهو الذي أودع هذه الأرض من الأقوات والأرزاق ومن القوى والطاقات ما يسمح بنشأة هذا الجنس وحياته ، وبنمو هذه الحياة ورقيها معا . . وهو الذي جعل هذا الجنس سيد مخلوقات هذه الأرض ، قادرا على تطويعها واستخدامها بما أودعه الله من خصائص واستعدادات للتعرف إلى بعض نواميس هذا الكون وتسخيرها في حاجته . .
ولولا تمكين الله للإنسان في الأرض بهذا وذلك ، ما استطاع هذا المخلوق الضعيف القوة أن " يقهر الطبيعة " كما يعبر أهل الجاهلية قديما وحديثا ! ولا كان بقوته الذاتية قادرا على مواجهة القوى الكونية الهائلة الساحقة ! إن التصورات الجاهلية الإغريقية والرومانية هي التي تطبع تصورات الجاهلية الحديثة . . هي التي تصور الكون عدوا للإنسان وتصور القوى الكونية مضادة لوجوده وحركته وتصور الإنسان في معركة مع هذه [ ص: 1263 ] القوى - بجهده وحده - وتصور كل تعرف إلى النواميس الكونية، وكل تسخير لها " قهرا للطبيعة" في المعركة بينها وبين الجنس الإنساني!
إنها تصورات سخيفة، فوق أنها تصورات خبيثة!
لو كانت النواميس الكونية مضادة للإنسان، عدوة له، تتربص به، وتعاكس اتجاهه، وليس وراءها إرادة مدبرة - كما يزعمون - ما نشأ هذا الإنسان أصلا! وإلا فكيف كان ينشأ؟ كيف ينشأ في كون معاد بلا إرادة وراءه؟ ولما استطاع المضي في الحياة على فرض أنه وجد! وإلا فكيف يمضي والقوى الكونية الهائلة تعاكس اتجاهه؟ وهي - بزعمهم - التي تصرف نفسها ولا سلطان وراء سلطانها؟
إن التصور الإسلامي وحده هو الذي يمضي وراء هذه الجزئيات ليربطها كلها بأصل شامل متناسق.. إن الله هو الذي خلق الكون، وهو الذي خلق الإنسان. وقد اقتضت مشيئته وحكمته أن يجعل طبيعة هذا الكون بحيث تسمح بنشأة هذا الإنسان، وأودع الإنسان من الاستعدادات ما يسمح له بالتعريف إلى بعض نواميس الكون واستخدامها في حاجته.. وهذا التناسق الملحوظ هو الجدير بصنعة الله الذي أحسن كل شيء خلقه. ولم يجعل خلائقه متعاكسة متعادية متدابرة!
وفي ظل هذا التصور يعيش " الإنسان " في كون مأنوس صديق وفي رعاية قوة حكيمة مدبرة.. يعيش مطمئن القلب، مستروح النفس، ثابت الخطو، ينهض بالخلافة عن الله في الأرض في اطمئنان الواثق بأنه معان على الخلافة ويتعامل مع الكون بروح المودة والصداقة ويشكر الله كلما اهتدى إلى سر من أسرار الوجود وكلما تعرف إلى قانون من قوانينه التي تعينه في خلافته وتيسر له قدرا جديدا من الرقي والراحة والمتاع.
إن هذا التصور لا يكفه عن الحركة لاستطلاع أسرار الوجود والتعرف إلى نواميسه.. على العكس، هو يشجعه ويملأ قلبه ثقة وطمأنينة.. إنه يتحرك في مواجهة كون صديق لا يبخل عليه بأسراره، ولا يمنع عنه مدده وعونه.. وليس في مواجهة كون عدو يتربص به ويعاكس اتجاهاته ويسحق أحلامه وآماله!
إن مأساة " الوجودية " الكبرى هي هذا التصور النكد الخبيث.. تصور الوجود الكوني - بل الوجود الجماعي للبشرية ذاتها - معاكسا في طبيعته للوجود الفردي الإنساني، متجها بثقله الساحق إلى سحق هذا الوجود الإنساني! إنه تصور بائس لا بد أن ينشئ حالة من الانزواء والانكماش والعدمية! أو ينشئ حالة من الاستهتار والتمرد والفردية! وفي كلتا الحالتين لا يكون إلا القلق المضني! والبؤس النفسي والعقلي، والشرود في التيه: تيه التمرد، أو تيه العدم.. وهما سواء..
وهي ليست مأساة " الوجودية " وحدها من مذاهب الفكر الأوربي. إنها مأساة الفكر الأوربي كله - بكل مذاهبه واتجاهاته - بل مأساة الجاهلية كلها في جميع أزمانها وبيئاتها. المأساة التي يضع الإسلام حدا لها بعقيدته الشاملة. التي تنشئ في الإدراك البشري تصورا صحيحا لهذا الوجود، وما وراءه من قوة مدبرة.
إن " الإنسان " هو ابن هذه الأرض وهو ابن هذا الكون. لقد أنشأه الله من هذه الأرض، ومكنه فيها، وجعل له فيها أرزاقا ومعايش، ويسر له المعرفة التي تسلمه مفاتيحها وجعل نواميسها موافقة لوجود هذا الإنسان، تساعده - حين يتعرف إليها على بصيرة - وتيسر حياته..
ولكن الناس قليلا ما يشكرون.. ذلك أنهم في جاهليتهم لا يعلمون.. وحتى الذين يعلمون لا يملكون [ ص: 1264 ] أن يوفوا نعمة الله عليهم حقها من الشكر، وأنى لهم الوفاء ؟ لولا أن الله يقبل منهم ما يطيقون: وهؤلاء وهؤلاء ينطبق عليهم بهذين الاعتبارين قوله تعالى:
قليلا ما تشكرون .