وتمضي عجلة التاريخ، فيظلنا عهد إبراهيم - عليه السلام - ولكن السياق لا يتعرض هنا لقصة إبراهيم.
ذلك أن السياق يتحرى مصارع المكذبين متناسقا مع ما جاء في أول السورة: وكم من قرية أهلكناها، فجاءها بأسنا بياتا أو هم قائلون .. وهذا القصص إنما هو تفصيل لهذا الإجمال في إهلاك القرى التي كذبت بالنذير.. وقوم إبراهيم لم يهلكوا لأن إبراهيم - عليه السلام - لم يطلب من ربه هلاكهم. بل اعتزلهم وما يدعون من دون الله.. إنما تجيء هنا قصة قوم لوط - ابن أخي إبراهيم - ومعاصره، بما فيها من إنذار وتكذيب وإهلاك. يتمشى مع ظلال السياق، على طريقة القرآن:
ولوطا إذ قال لقومه: أتأتون الفاحشة ما سبقكم بها من أحد من العالمين؟ إنكم لتأتون الرجال - شهوة - من دون النساء. بل أنتم قوم مسرفون. وما كان جواب قومه إلا أن قالوا: أخرجوهم من قريتكم، إنهم [ ص: 1315 ] أناس يتطهرون. فأنجيناه وأهله إلا امرأته كانت من الغابرين. وأمطرنا عليهم مطرا، فانظر كيف كان عاقبة المجرمين
..
وتكشف لنا قصة قوم لوط عن لون خاص من انحراف الفطرة وعن قضية أخرى غير قضية الألوهية والتوحيد التي كانت مدار القصص السابق. ولكنها في الواقع ليست بعيدة عن قضية الألوهية والتوحيد..
إن الاعتقاد في الله الواحد يقود إلى الإسلام لسننه وشرعه. وقد شاءت سنة الله أن يخلق البشر ذكرا وأنثى، وأن يجعلهما شقين للنفس الواحدة تتكامل بهما وأن يتم الامتداد في هذا الجنس عن طريق النسل وأن يكون النسل من التقاء ذكر وأنثى.. ومن ثم ركبهما وفق هذه السنة صالحين للالتقاء، صالحين للنسل عن طريق هذا الالتقاء، مجهزين عضويا ونفسيا لهذا الالتقاء.. وجعل اللذة التي ينالانها عندئذ عميقة، والرغبة في إتيانها أصيلة، وذلك لضمان أن يتلاقيا فيحققا مشيئة الله في امتداد الحياة ثم لتكون هذه الرغبة الأصيلة وتلك اللذة العميقة دافعا في مقابل المتاعب التي يلقيانها بعد ذلك في الذرية. من حمل ووضع ورضاعة.
ومن نفقة وتربية وكفالة.. ثم لتكون كذلك ضمانا لبقائهما ملتصقين في أسرة، تكفل الأطفال الناشئين، الذين تطول فترة حضانتهم أكثر من أطفال الحيوان، ويحتاجون إلى رعاية أطول من الجيل القديم! هذه هي سنة الله التي يتصل إدراكها والعمل بمقتضاها بالاعتقاد في الله وحكمته ولطف تدبيره وتقديره.
ومن ثم يكون الانحراف عنها متصلا بالانحراف عن العقيدة، وعن منهج الله للحياة.
ويبدو انحراف الفطرة واضحا في قصة قوم لوط، حتى أن لوطا ليجبههم بأنهم بدع دون خلق الله فيها، وأنهم في هذا الانحراف الشنيع غير مسبوقين:
ولوطا إذ قال لقومه: أتأتون الفاحشة ما سبقكم بها من أحد من العالمين؟ إنكم لتأتون الرجال - شهوة - من دون النساء بل أنتم قوم مسرفون ..
والإسراف الذي يدمغهم به لوط هو الإسراف في تجاوز منهج الله الممثل في الفطرة السوية. والإسراف في الطاقة التي وهبهم الله إياها، لأداء دورهم في امتداد البشرية ونمو الحياة، فإذا هم يريقونها ويبعثرونها في غير موضع الإخصاب. فهي مجرد " شهوة " شاذة. لأن الله جعل لذة الفطرة الصادقة في تحقيق سنة الله الطبيعية.
فإذا وجدت نفس لذتها في نقيض هذه السنة، فهو الشذوذ إذن والانحراف والفساد الفطري، قبل أن يكون فساد الأخلاق.. ولا فرق في الحقيقة. فالأخلاق الإسلامية هي الأخلاق الفطرية، بلا انحراف ولا فساد.
إن التكوين العضوي للأنثى - كالتكوين النفسي - هو الذي يحقق لذة الفطرة الصادقة للذكر في هذا الالتقاء، الذي لا يقصد به مجرد " الشهوة " . إنما هذه اللذة المصاحبة له رحمة من الله ونعمة، إذ يجعل القيام بتحقيق سنته ومشيئته في امتداد الحياة، مصحوبا بلذة تعادل مشقة التكليف! فأما التكوين العضوي للذكر - بالنسبة للذكر - فلا يمكن أن يحقق لذة للفطرة السليمة بل إن شعور الاستقذار ليسبق، فيمنع مجرد الاتجاه عند الفطرة السليمة.
وطبيعة التصور الاعتقادي، ونظام الحياة الذي يقوم عليه، ذو أثر حاسم في هذا الشأن..
فهذه هي الجاهلية الحديثة في أوربا وفي أمريكا ينتشر فيها هذا الانحراف الجنسي الشاذ انتشارا ذريعا.
بغير ما مبرر إلا الانحراف عن الاعتقاد الصحيح، وعن منهج الحياة الذي يقوم عليه.
وقد كانت هناك دعوى عريضة من الأجهزة التي يوجهها اليهود في الأرض لتدمير الحياة الإنسانية لغير اليهود، بإشاعة الانحلال العقدي والأخلاقي.. كانت هناك دعوى عريضة من هذه الأجهزة الموجهة بأن [ ص: 1316 ] احتجاب المرأة هو الذي ينشر هذه الفاحشة الشاذة في المجتمعات! ولكن شهادة الواقع تخرق العيون. ففي أوربا وأمريكا لم يبق ضابط واحد للاختلاط الجنسي الكامل بين كل ذكر وكل أنثى - كما في عالم البهائم! - وهذه الفاحشة الشاذة يرتفع معدلها بارتفاع الاختلاط ولا ينقص! ولا يقتصر على الشذوذ بين الرجال بل يتعداه إلى الشذوذ بين النساء.. ومن لا تخرق عينيه هذه الشهادة فليقرإ: " السلوك الجنسي عند الرجال " و " السلوك الجنسي عند النساء " في تقرير " كنزي " الأمريكي.. ولكن هذه الأجهزة الموجهة ما تزال تردد هذه الأكذوبة، وتسندها إلى حجاب المرأة. لتؤدي ما تريده بروتوكولات صهيون، ووصايا مؤتمرات المبشرين! ونعود إلى قوم لوط! فيتجلى لنا الانحراف مرة أخرى في جوابهم لنبيهم:
وما كان جواب قومه إلا أن قالوا: أخرجوهم من قريتكم، إنهم أناس يتطهرون ! يا عجبا! أو من يتطهر يخرج من القرية إخراجا، ليبقى فيها الملوثون المدنسون؟! ولكن لماذا العجب؟ وماذا تصنع الجاهلية الحديثة؟ أليست تطارد الذين يتطهرون، فلا ينغمسون في الوحل الذي تنغمس فيه مجتمعات الجاهلية - وتسميه تقدمية وتحطيما للأغلال عن المرأة وغير المرأة - أليست تطاردهم في أرزاقهم وأنفسهم وأموالهم وأفكارهم وتصوراتهم كذلك ولا تطيق أن تراهم يتطهرون لأنها لا تتسع ولا ترحب إلا بالملوثين الدنسين القذرين؟! إنه منطق الجاهلية في كل حين!! وتعرض الخاتمة سريعا بلا تفصيل ولا تطويل كالذي يجيء في السياقات الأخرى:
فأنجيناه وأهله - إلا امرأته كانت من الغابرين - وأمطرنا عليهم مطرا، فانظر كيف كان عاقبة المجرمين ..
إنها النجاة لمن تهددهم العصاة. كما أنها هي الفصل بين القوم على أساس العقيدة والمنهج. فامرأته - وهي ألصق الناس به - لم تنج من الهلاك. لأن صلتها كانت بالغابرين المهلكين من قومه في المنهج والاعتقاد.
وقد أمطروا مطرا مهلكا مع ما صاحبه من عواصف.. ترى كان هذا المطر المغرق، والماء الدافق، لتطهير الأرض من ذلك الدنس الذي كانوا فيه، والوحل الذي عاشوا وماتوا فيه؟! على أية حال لقد طويت صفحة أخرى من صحائف المكذبين المجرمين!