ثم تمضي خطوات القصة مع خطوات التاريخ، من بعد موسى وخلفائه، مع الأجيال التالية في بني إسرائيل إلى الجيل الذي كان يواجه الرسول - صلى الله عليه وسلم - والجماعة المسلمة في المدينة:
وقطعناهم في الأرض أمما.. منهم الصالحون ومنهم دون ذلك.. وبلوناهم بالحسنات والسيئات لعلهم يرجعون. فخلف من بعدهم خلف ورثوا الكتاب، يأخذون عرض هذا الأدنى ويقولون: سيغفر لنا. وإن يأتهم عرض مثله يأخذوه. ألم يؤخذ عليهم ميثاق الكتاب أن لا يقولوا على الله إلا الحق، ودرسوا ما فيه، والدار الآخرة خير للذين يتقون أفلا تعقلون! والذين يمسكون بالكتاب وأقاموا الصلاة، إنا لا نضيع أجر المصلحين ..
وهذه بقية الآيات المدنية الواردة في هذا السياق تكملة لقصة بني إسرائيل من بعد موسى.. ذلك حين تفرق اليهود في الأرض جماعات مختلفة المذاهب والتصورات، مختلفة المشارب والمسالك. فكان منهم الصالحون وكان منهم من هم دون الصلاح. وظلت العناية الإلهية تواليهم بالابتلاءات. تارة بالنعماء وتارة بالبأساء، لعلهم يرجعون إلى ربهم، ويثوبون إلى رشدهم، ويستقيمون على طريقهم:
وبلوناهم بالحسنات والسيئات لعلهم يرجعون ..
والمتابعة بالابتلاء رحمة من الله بالعباد، وتذكير دائم لهم، ووقاية من النسيان المؤدي إلى الاغترار والبوار.. [ ص: 1387 ] فخلف من بعدهم خلف ورثوا الكتاب يأخذون عرض هذا الأدنى، ويقولون: سيغفر لنا. وإن يأتهم عرض مثله يأخذوه ..
وصفة هذا الخلف الذي جاء بعد ذلك السلف من قوم موسى: أنهم ورثوا الكتاب ودرسوه.. ولكنهم لم يتكيفوا به ولم تتأثر به قلوبهم ولا سلوكهم.. شأن العقيدة حين تتحول إلى ثقافة تدرس وعلم يحفظ..
وكلما رأوا عرضا من أعراض الحياة الدنيا تهافتوا عليه، ثم تأولوا وقالوا: " سيغفر لنا " .. وهكذا كلما عرض لهم من أعراض الدنيا جديد تهافتوا عليه من جديد! ويسأل سؤال استنكار:
ألم يؤخذ عليهم ميثاق الكتاب أن لا يقولوا على الله إلا الحق؟ ودرسوا ما فيه؟ .
ألم يؤخذ عليهم ميثاق الله في الكتاب ألا يتأولوا ولا يحتالوا على النصوص، وألا يخبروا عن الله إلا بالحق..
فما بالهم يقولون: " سيغفر لنا " ويتهافتون على أعراض الحياة الدنيا؟ ويبررون لأنفسهم هذا بالتقول على الله وتأكيد غفرانه لهم، وهم يعلمون أن الله إنما يغفر لمن يتوبون حقا ويقلعون عن المعصية فعلا وليس هذا حالهم، فهم يعودون كلما رأوا عرضا من أعراض الحياة الدنيا! وهم درسوا هذا الكتاب وعرفوا ما فيه! بلى! ولكن الدراسة لا تجدي ما لم تخالط القلوب. وكم من دارسين للدين وقلوبهم عنه بعيد. إنما يدرسونه ليتأولوا ويحتالوا، ويحرفوا الكلم عن مواضعه، ويجدوا المخارج للفتاوى المغرضة التي تنيلهم عرض الحياة الدنيا.. وهل آفة الدين إلا الذين يدرسونه دراسة ولا يأخذونه عقيدة ولا يتقون الله ولا يرهبونه؟! والدار الآخرة خير للذين يتقون. أفلا تعقلون؟ .
نعم! إنها الدار الآخرة! إن وزنها في قلوب الذين يتقون هو وحده الذي يرجح الكفة، وهو وحده الذي يعصم من فتنة العرض الأدنى القريب في هذه الدنيا.. نعم إنها هي التي لا يصلح قلب ولا تصلح حياة إلا بها ولا تستقيم نفس ولا تستقيم حياة إلا بملاحظتها.. وإلا فما الذي يعدل في النفس البشرية الرغبة الملحة في حيازة كل عرض يلوح لها من أعراض هذه الأرض؟ وما الذي يحجزها عن الطمع ويكفها عن البغي؟ وما الذي يهدئ فيها هياج الرغائب وسعار الشهوات وجنون المطامع؟ وما الذي يطمئنها في صراع الحياة الدنيا على النصيب الذي لا يضيع بفوات الحياة الدنيا؟ وما الذي يثبتها في المعركة بين الحق والباطل، وبين الخير والشر، وأعراض الأرض تفر من بين يديها وتنأى؟ والشر يتبجح والباطل يطغى؟
لا شيء يثبت على الغير والأحداث وتقلبات الأحوال في هذا الخضم الهائج وفي هذه المعركة الكبرى إلا اليقين في الآخرة، وأنها خير للذين يتقون، ويعفون، ويترفعون، ويثبتون على الحق والخير في وجه الزعازع والأعاصير والفتن، ويمضون في الطريق لا يتلفتون.. مطمئنين واثقين، ملء قلوبهم اليقين ..
وهذه الدار الآخرة غيب من الغيب الذي يريد دعاة " الاشتراكية العلمية " أن يلغوه من قلوبنا ومن عقيدتنا ومن حياتنا ويحلوا محله تصورا كافرا جاهلا مطموسا يسمونه: " العلمية " ..
ومن أجل هذه المحاولة البائسة تفسد الحياة، وتفسد النفوس وينطلق السعار المجنون الذي لا يكبحه إلا ذلك اليقين.. ينطلق سعار الرشوة والفساد والطمع والطغيان. وينتشر داء الإهمال وقلة المبالاة والخيانة في كل مجال.. [ ص: 1388 ] إن " العلمية " التي تناقض " الغيبية " جهالة من جهالات القرن الثامن عشر والقرن التاسع عشر. جهالة يرجع عنها " العلم البشري " ذاته، ولا يبقى يرددها في القرن العشرين إلا الجهال ! جهالة تناقض فطرة " الإنسان " ومن ثم تفسد " الحياة " ذلك الإفساد الذي يهدد البشرية بالدمار! ولكنه المخطط الصهيوني الرهيب الذي يريد أن يسلب البشرية كلها قوام حياتها وصلاحها، ليسهل تطويعها لملك صهيون في نهاية المطاف! والذي تردده الببغاوات هنا وهناك، بينما الأوضاع التي أقامتها الصهيونية وكفلتها في أنحاء الأرض تمضي عن علم في تنفيذ المخطط الرهيب هنا وهناك! ولأن قضية الآخرة، وقضية التقوى قضيتان أساسيتان في العقيدة وفي الحياة، يحيل السياق القرآني المخاطبين الذين يتهافتون على عرض هذا الأدنى.. عرض الحياة الدنيا.. إلى العقل:
والدار الآخرة خير للذين يتقون.. أفلا تعقلون؟ ..
ولو كان العقل هو الذي يحكم لا الهوى.. ولو كان العلم الحق لا الجهالة التي تسمى العلم هو الذي يقضي..
لكانت الدار الآخرة خيرا من عرض هذا الأدنى. ولكانت التقوى زادا للدين والدنيا جميعا:
والذين يمسكون بالكتاب وأقاموا الصلاة، إنا لا نضيع أجر المصلحين .
وهو تعريض بالذين أخذ عليهم ميثاق الكتاب ودرسوا ما فيه ثم هم لا يتمسكون بالكتاب الذي درسوه، ولا يعملون به، ولا يحكمونه في تصوراتهم وحركاتهم ولا في سلوكهم وحياتهم.. غير أن الآية تبقى - من وراء ذلك التعريض - مطلقة، تعطي مدلولها كاملا، لكل جيل ولكل حالة.
إن الصيغة اللفظية: " يمسكون " .. تصور مدلولا يكاد يحس ويرى.. إنها صورة القبض على الكتاب بقوة وجد وصرامة.. الصورة التي يحب الله أن يؤخذ بها كتابه وما فيه.. في غير تعنت ولا تنطع ولا تزمت..
فالجد والقوة والصرامة شيء والتعنت والتنطع والتزمت شيء آخر.. إن الجد والقوة والصرامة لا تنافي اليسر ولكنها تنافي التميع! ولا تنافي سعة الأفق ولكنها تنافي الاستهتار! ولا تنافي مراعاة الواقع ولكنها تنافي أن يكون " الواقع " هو الحكم في شريعة الله! فهو الذي يجب أن يظل محكوما بشريعة الله! والتمسك بالكتاب في جد وقوة وصرامة وإقامة الصلاة - أي شعائر العبادة - هما طرفا المنهج الرباني لصلاح الحياة.. والتمسك بالكتاب في هذه العبارة مقرونا إلى الشعائر يعني مدلولا معينا. إذ يعني تحكيم هذا الكتاب في حياة الناس لإصلاح هذه الحياة، مع إقامة شعائر العبادة لإصلاح قلوب الناس. فهما طرفان للمنهج الذي تصلح به الحياة والنفوس، ولا تصلح بسواه.. والإشارة إلى الإصلاح في الآية:
إنا لا نضيع أجر المصلحين ..
يشير إلى هذه الحقيقة.. حقيقة أن الاستمساك الجاد بالكتاب عملا، وإقامة الشعائر عبادة هما أداة الإصلاح الذي لا يضيع الله أجره على المصلحين.
وما تفسد الحياة كلها إلا بترك طرفي هذا المنهج الرباني.. ترك الاستمساك الجاد بالكتاب وتحكيمه في حياة الناس وترك العبادة التي تصلح القلوب فتطبق الشرائع دون احتيال على النصوص، كالذي كان يصنعه أهل الكتاب وكالذي يصنعه أهل كل كتاب، حين تفتر القلوب عن العبادة فتفتر عن تقوى الله.. [ ص: 1389 ] إنه منهج متكامل. يقيم الحكم على أساس الكتاب ويقيم القلب على أساس العبادة.. ومن ثم تتوافى القلوب مع الكتاب فتصلح القلوب، وتصلح الحياة.
إنه منهج الله، لا يعدل عنه ولا يستبدل به منهجا آخر، إلا الذين كتبت عليهم الشقوة وحق عليهم العذاب!
وفي ختام حلقات القصة في هذه السورة يذكر كيف كان الله قد أخذ على بني إسرائيل الميثاق:
وإذ نتقنا الجبل فوقهم كأنه ظلة، وظنوا أنه واقع بهم. خذوا ما آتيناكم بقوة، واذكروا ما فيه لعلكم تتقون .
إنه ميثاق لا ينسى.. فقد أخذ في ظرف لا ينسى! أخذ وقد نتق الله الجبل فوقهم كأنه ظلة، وظنوا أنه واقع بهم! ولقد كانوا متقاعسين يومها عن إعطاء الميثاق فأعطوه في ظل خارقة هائلة كانت جديرة بأن تعصمهم بعد ذلك من الانتكاس. ولقد أمروا في ظل تلك الخارقة القوية أن يأخذوا ميثاقهم بقوة وجدية، وأن يستمسكوا به في شدة وصرامة، وألا يتخاذلوا ولا يتهاونوا ولا يتراجعوا في ميثاقهم الوثيق. وأن يظلوا ذاكرين لما فيه، لعل قلوبهم تخشع وتتقي. وتظل موصولة بالله لا تنساه! ولكن إسرائيل هي إسرائيل! نقضت الميثاق، ونسيت الله، ولجت في المعصية، حتى استحقت غضب الله ولعنته. وحق عليها القول، بعد ما اختارها الله على العالمين في زمانها، وأفاء عليها من عطاياه. فلم تشكر النعمة، ولم ترع العهد، ولم تذكرالميثاق.. وما ربك بظلام للعبيد..