وفي رواية أن قال: إنا خلفنا من قومنا قوما ما نحن بأشد حبا لك منهم، ولا أطوع لك منهم ولكن إنما ظنوا أنها العير. نبني لك عريشا فتكون فيه، ونعد عندك رواحلك، ثم نلقى عدونا، فإن أعزنا الله وأظهرنا على عدونا كان ذلك ما أحببناه، وإن تكن الأخرى جلست على رواحلك فلحقت من وراءنا.. سعد بن معاذ
فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم - خيرا. وقال: " أو يقضي الله خيرا من ذلك يا " . فلما فرغ سعد من المشورة قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " سيروا على بركة الله، فإن الله قد وعدني إحدى الطائفتين. سعد
والله لكأني أنظر إلى مصارع القوم " .. فعلم القوم أنهم إنما يلاقون القتال وأن العير تفلت ورجوا النصر لقول النبي - صلى الله عليه وسلم - ومن يومئذ عقد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الألوية. وهي ثلاثة، لواء يحمله ورايتان سوداوان. إحداهما مع مصعب بن عمير. والأخرى مع رجل من علي، الأنصار (هو وأظهر السلاح.. وكان خرج من سعد بن معاذ) المدينة على غير لواء معقود.
... ونزل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أدنى بدر عشاء ليلة الجمعة لسبع عشر مضت من رمضان، [ ص: 1457 ] فبعث عليا والزبير وسعد بن أبي وقاص وبسبس بن عمرو رضي الله عنهم يتحسسون على الماء. وأشار لهم إلى ظريب (تصغير ظرب وهو الجبل الصغير المنبسط في حجارة دقاق) وقال: أرجو أن تجدوا الخبر عند هذا القليب الذي يلي الظرب. فوجدوا على تلك القليب روايا قريش فيها سقاؤهم (الروايا من الإبل حوامل الماء، وسقاء جمع سقاء) فأفلت عامتهم - وفيهم عجير - فجاء قريشا، فقال: يا آل غالب، هذا ابن أبي كبشة (يعني النبي صلى الله عليه وسلم) وأصحابه قد أخذوا سقاءكم. فماج العسكر وكرهوا ذلك، والسماء تمطر عليهم. وأخذ تلك الليلة أبو يسار غلام عبيدة بن سعيد بن العاص، وأسلم غلام منبه بن الحجاج، وأبو رافع غلام أمية بن خلف، فأتي بهم النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو يصلي. فقالوا: نحن سقاء قريش بعثونا نسقيهم من الماء. فكره القوم خبرهم فضربوهم. فقالوا: نحن ونحن في العير! فأمسكوا عنهم! فسلم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقال: " إن صدقوكم ضربتموهم، وإن كذبوكم تركتموهم! " ثم أقبل عليهم يسألهم، فأخبروه أن لأبي سفيان، قريشا خلف هذا الكثيب، وأنهم ينحرون يوما عشرا ويوما تسعا، وأعلموه بمن خرج من مكة. فقال صلى الله عليه وسلم: القوم ما بين الألف والتسعمائة. وقال: " هذه مكة قد ألقت إليكم أفلاذ أكبادها " .
واستشار أصحابه في المنزل، فقال الحباب بن المنذر بن الجموح.. انطلق بنا إلى أدنى بئر إلى القوم.
فإني عالم بها وبقلبها. بها قليب (أي بئر قديمة لا يعلم من حفرها) قد عرفت عذوبة مائه، وماء كثير لا ينزح.
ثم نبني عليها حوضا، ونقذف فيه الآنية فنشرب ونقاتل ونعور ما سواها من القلب. فقال: يا حباب أشرت بالرأي (وفي رواية عن ابن هشام أن ابن إسحاق الحباب بن المنذر قال: يا رسول الله، هذا المنزل أمنزلا أنزلكه الله ليس لنا أن نتقدمه ولا نتأخر عنه؟ أم هو الرأي والحرب والمكيدة؟ قال: " بل هو الرأي والحرب والمكيدة " قال: يا رسول الله، هذا ليس بمنزل.. ثم أشار بما أشار) ونهض رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فنزل على القليب ببدر. وبات تلك الليلة يصلي إلى جذم شجرة (أي ما بقي من جذعها بعد قطع أعلاه) .
وكانت ليلة الجمعة السابع عشر من رمضان. وفعل ما أشار به الحباب.. وبعث الله السماء، فأصاب المسلمين ما لبد الأرض ولم يمنع من السير. وأصاب قريشا من ذلك ما لم يقدروا أن يرتحلوا منه. وإنما بينهم قوز من رمل. وكان مجيء المطر نعمة وقوة للمؤمنين، وبلاء ونقمة على المشركين. وأصاب المسلمين تلك الليلة نعاس ألقي عليهم. فناموا، حتى إن أحدهم تكون ذقنه بين ثدييه وما يشعر حتى يقع على جنبه. واحتلم رفاعة ابن رافع بن مالك حتى اغتسل آخر الليل.. وبعث - صلى الله عليه وسلم - عمار بن ياسر رضي الله عنهما - فأطافا بالقوم، ثم رجعا فأخبراه أن القوم مذعورون، وأن السماء تسح عليهم. وعبد الله بن مسعود -
وبني لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما نزل على القليب - عريش من جريد. وقام على بابه متوشح السيف. ومشى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على موضع الوقعة، وعرض على أصحابه مصارع رؤوس الكفر من سعد بن معاذ قريش مصرعا مصرعا، يقول: هذا مصرع فلان، وهذا مصرع فلان.. فما عدا واحد منهم مضجعه الذي حد له الرسول. وعدل صلى الله عليه وسلم الصفوف. ورجع إلى العريش فدخل - صلى الله عليه وسلم - رضي الله عنه. وأبو بكر
قال وقد ارتحلت ابن إسحاق: قريش حتى أصبحت فأقبلت. فلما رآها رسول الله صلى الله عليه وسلم - تصوب من العقنقل (وهو الكثيب الذي جاءوا منه) إلى الوادي، قال: " اللهم هذه قريش قد أقبلت بخيلائها وفخرها تحادك، وتكذب رسولك، اللهم فنصرك الذي وعدتني، اللهم أحنهم الغداة " . وقد قال رسول [ ص: 1458 ] الله - صلى الله عليه وسلم - وقد رأى عتبة بن ربيعة في القوم على جمل له أحمر، فقال: " إن يكن في أحد من القوم خير فعند صاحب الجمل الأحمر، إن يطيعوه يرشدوا " .
" وقد كان خفاف بن أيماء بن رحضة الغفاري - أو أبوه أيماء بن رحضة الغفاري - بعث إلى قريش - حين مروا به - ابنا له بجزائر (أي ذبائح) أهداها لهم. وقال: إن أحببتم أن نمدكم بسلاح ورجال فعلنا.
قال: فأرسلوا إليه مع ابنه أن وصلتك رحم. قد قضيت الذي عليك. فلعمري لئن كنا إنما نقاتل الناس فما بنا من ضعف عنهم، ولئن كنا إنما نقاتل الله، كما يزعم محمد، فما لأحد بالله من طاقة.
فلما نزل الناس أقبل نفر من قريش حتى وردوا حوض رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيهم فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " دعوهم " . فما شرب منه رجل يومئذ إلا قتل. إلا ما كان من حكيم ابن حزام. فإنه لم يقتل. ثم أسلم بعد ذلك فحسن إسلامه. فكان إذا اجتهد في يمينه قال: حكيم بن حزام
لا والذي نجاني من يوم بدر! قال وحدثني ابن إسحاق: أبي إسحاق بن يسار وغيره من أهل العلم، عن أشياخ من الأنصار قالوا:
لما اطمأن القوم بعثوا عمير بن وهب الجمحي، فقالوا: احزر لنا أصحاب محمد (صلى الله عليه وسلم) قال: فاستجال بفرسه حول العسكر! ثم رجع إليهم، فقال: ثلاث مائة رجل، يزيدون قليلا أو ينقصون.
ولكن أمهلوني حتى أنظر أللقوم كمين أو مدد. قال: فضرب في الوادي حتى أبعد فلم ير شيئا، فرجع إليهم، فقال: ما وجدت شيئا، ولكني قد رأيت يا معشر قريش، البلايا تحمل المنايا. نواضح يثرب تحمل الموت الناقع. قوم ليس معهم منعة ولا ملجأ إلا سيوفهم، والله ما أرى أن يقتل رجل منهم حتى يقتل رجلا منكم، فإذا أصابوا منكم أعدادهم، فما خير العيش بعد ذلك؟ فروا رأيكم ! فلما سمع ذلك مشى في الناس، فأتى حكيم بن حزام عتبة بن ربيعة، فقال: يا أبا الوليد إنك كبير قريش وسيدها والمطاع فيها، هل لك إلى ألا تزال تذكر فيها بخير إلى آخر الدهر؟ قال: وما ذاك يا حكيم؟ قال:
ترجع بالناس، وتحمل أمر حليفك عمرو بن الحضرمي. قال: قد فعلت، أنت علي بذلك، إنما هو حليفي فعلي عقله (أي دية أخيه الذي قتل في سرية عبد الله بن جحش كما سبق) وما أصيب من ماله. فأت ابن الحنظلية فإني لا أخشى أن يشجر أمر الناس غيره. يعني أبا جهل بن هشام. ثم قام عتبة بن ربيعة خطيبا فقال:
يا معشر قريش، إنكم والله ما تصنعون بأن تلقوا محمدا وأصحابه شيئا. والله لئن أصبتموه لا يزال الرجل ينظر في وجه رجل يكره النظر إليه، قتل ابن عمه أو ابن خاله أو رجلا من عشيرته. فارجعوا وخلوا بين محمد وسائر العرب، فإن أصابوه فذاك الذي أردتم، وإن كان غير ذلك ألفاكم ولم تعرضوا منه ما تريدون.
قال حكيم: فانطلقت حتى جئت أبا جهل، فوجدته قد نثل درعا له من جرابها فهو يهيئها. فقلت له:
يا أبا الحكم، إن عتبة أرسلني إليك بكذا وكذا، للذي قال، فقال: انتفخ والله سحره (يعني انتفخت رئته من الخوف!) حين رأى محمدا وأصحابه. كلا! والله لا نرجع حتى يحكم الله بيننا وبين محمد، وما بعتبة ما قال، ولكنه قد رأى أن محمدا وأصحابه أكلة جزور، وفيهم ابنه (يعني أبا حذيفة رضي الله عنه وكان مسلما مع المسلمين) فقد تخوفكم عليه! ثم بعث إلى عامر بن الحضرمي، فقال: هذا حليفك يريد أن يرجع بالناس. وقد رأيت ثأرك بعينك، فقم فانشد خفرتك (أي عهدك) ومقتل أخيك! فقام عامر بن الحضرمي فاكتشف، ثم صرخ: وا عمراه! فحميت الحرب، وحقب أمر الناس (أي اشتد) واستوسقوا على ما هم عليه من الشر. فأفسد على الناس [ ص: 1459 ] الرأي الذي دعاهم إليه عتبة. فلما بلغ عتبة قول أبي جهل: انتفخ والله سحره. قال: سيعلم مصفر استه (يريد أن يشبهه في الجبن كالرجل الذي يتأنث!) من انتفخ سحره؟ أنا أم هو! قال وقد خرج ابن إسحاق: الأسود بن عبد الأسد المخزومي، وكان رجلا شرسا سيئ الخلق، فقال:
أعاهد الله لأشربن من حوضهم أو لأهدمنه أو لأموتن دونه. فلما خرج خرج إليه رضي الله عنه - فلما التقيا ضربه حمزة بن عبد المطلب - فأطن قدمه (أي أطارها) بنصف ساقه. وهو دون الحوض. فوقع على ظهره تشخب رجله دما نحو أصحابه ثم حبا إلى الحوض حتى اقتحم فيه يريد - زعم - أن يبر يمينه، واتبعه حمزة فضربه حتى قتله في الحوض! ثم خرج بعده حمزة، عتبة بن ربيعة، بين أخيه شيبة بن ربيعة وابنه حتى إذا فصل من الصف دعا إلى المبارزة، فخرج إليه فتية من الوليد بن عتبة، الأنصار ثلاثة، وهم عوف ومعوذ ابنا الحارث وأمهما عفراء، ورجل آخر يقال: هو فقالوا من أنتم؟ فقالوا: رهط من عبد الله بن رواحة. الأنصار، قالوا: ما لنا بكم من حاجة (وقال إن ابن إسحاق: عتبة قال للفتية من الأنصار حين انتسبوا إليه: أكفاء كرام، إنما نريد قومنا) ثم نادى مناديهم: يا محمد أخرج إلينا أكفاءنا من قومنا. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - . " قم يا عبيدة ابن الحارث، قم يا قم يا حمزة، " . فلما قاموا ودنوا منهم قالوا: من أنتم؟ قال علي عبيدة: عبيدة؟
وقال حمزة: وقال حمزة! علي: قالوا. نعم أكفاء كرام! فبارز علي! عبيدة، وكان أسن القوم، عتبة ابن ربيعة، وبارز حمزة شيبة بن ربيعة، وبارز علي فأما الوليد بن عتبة. فلم يمهل حمزة شيبة أن قتله، وأما فلم يمهل علي الوليد أن قتله. واختلف عبيدة وعتبة بينهما ضربتين كلاهما أثبت صاحبه (أي جرحه جرحا لا يملك معه الحركة) وكر حمزة بأسيافهما على وعلي عتبة فذففا عليه (أي أجهزا عليه) واحتملا صاحبهما فحازاه إلى أصحابه.
قال ثم تزاحف الناس، ودنا بعضهم من بعض. وقد أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أصحابه ألا يحملوا حتى يأمرهم. قال: " إن اكتنفكم القوم فانضحوهم عنكم بالنبل " .. ثم عدل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الصفوف ورجع إلى العريش، فدخله ومعه فيه ابن إسحاق: ليس معه فيه غيره. ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - يناشد ربه ما وعده من النصر، ويقول فيما يقول: " اللهم إن تهلك هذه العصابة اليوم لا تعبد " أبو بكر يقول: يا نبي الله بعض مناشدتك ربك، فإن الله منجز لك ما وعدك. وأبو بكر
وفي إمتاع الأسماع للمقريزي: أن قال لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - يا رسول الله إني أشير عليك - ورسول الله أعظم وأعلم من أن يشار عليه - إن الله أجل وأعظم من أن ينشد وعده! فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يا عبد الله بن رواحة ألا أنشد الله وعده؟ إن الله لا يخلف الميعاد " . ابن رواحة،
قال ابن إسحاق: وقد خفق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خفقة وهو في العريش، ثم انتبه، فقال:
" أبشر يا أبابكر، أتاك نصر الله. هذا جبريل آخذا بعنان فرس يقوده، على ثناياه النقع " (يعني الغبار) .
وقد رمي مهجع مولى عمر بن الخطاب بسهم فقتل، فكان أول قتيل من المسلمين رحمه الله. ثم رمي حارثة بن سراقة أحد بني عدي بن النجار - وهو يشرب من الحوض - بسهم، فأصاب نحره، فقتل رحمه الله.
ثم خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى الناس فحرضهم وقال: " والذي نفس محمد بيده، لا يقاتلهم اليوم رجل، فيقتل، صابرا محتسبا مقبلا غير مدبر، إلا أدخله الله الجنة " . فقال عمير بن الحمام أخو بني سلمة، وفي يده تمرات يأكلهن: بخ بخ (كلمة تقال للإعجاب) أفما بيني وبين أن أدخل الجنة إلا أن [ ص: 1460 ] يقتلني هؤلاء؟ ثم قذف التمرات من يده، وأخذ سيفه، فقاتل القوم حتى قتل رحمه الله تعالى.
قال وحدثني ابن إسحاق: عاصم بن عمر بن قتادة، عوف بن الحارث - وهو ابن عفراء - قال:
يا رسول الله، ما يضحك الرب من عبده؟ قال: " غمسه يده في العدو حاسرا " فنزع درعا كانت عليه، فقذفها، ثم أخذ سيفه فقاتل القوم حتى قتل رحمه الله. أن