وعندما يبلغ السياق إلى هذا المقطع، ويلمس وجدان المسلمين بالذكرى القريبة من التاريخ، ينهي القول في شأن المشركين. ويلقي الكلمة الباقية فيهم إلى يوم الدين:
يا أيها الذين آمنوا إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا وإن خفتم عيلة فسوف يغنيكم الله من فضله إن شاء. إن الله عليم حكيم ..
إنما المشركون نجس. يجسم التعبير نجاسة أرواحهم فيجعلها ماهيتهم وكيانهم. فهم بكليتهم وبحقيقتهم نجس، يستقذره الحس، ويتطهر منه المتطهرون! وهو النجس المعنوي لا الحسي في الحقيقة، فأجسامهم ليست نجسة بذاتها. إنما هي طريقة التعبير القرآنية بالتجسيم.
نجس. فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا ..
وتلك غاية في تحريم وجودهم بالمسجد الحرام، حتى لينصب النهي على مجرد القرب منه، ويعلل بأنهم نجس وهو الطهور!
ولكن الموسم الاقتصادي الذي ينتظره أهل مكة; والتجارة التي يعيش عليها معظم الظاهرين في الجزيرة; ورحلة الشتاء والصيف التي تكاد تقوم عليها الحياة... إنها كلها ستتعرض للضياع بمنع المشركين من الحج; وبإعلان الجهاد العام على المشركين كافة..
نعم! ولكنها العقيدة. والله يريد أن تخلص القلوب كلها للعقيدة!
وبعد ذلك، فالله هو المتكفل بأمر الرزق من وراء الأسباب المعهودة المألوفة:
وإن خفتم عيلة فسوف يغنيكم الله من فضله إن شاء .. [ ص: 1619 ] وحين يشاء الله يستبدل أسبابا بأسباب; وحين يشاء يغلق بابا ويفتح الأبواب..
إن الله عليم حكيم ..
يدبر الأمر كله عن علم وعن حكمة، وعن تقدير وحساب..
لقد كان المنهج القرآني يعمل في المجتمع المسلم الذي نشأ من الفتح; والذي لم تكن مستوياته الإيمانية قد تناسقت بعد..
وكما أننا نلمح من خلال السياق في هذا المقطع ما كان يعتور هذا المجتمع من ثغرات. فكذلك نلمح عمل المنهج القرآني في سد هذه الثغرات. ونلمح الجهد الطويل المبذول لتربية هذه الأمة بهذا المنهج القرآني الفريد.
إن القمة التي كان المنهج القرآني ينقل خطى هذه الأمة لتبلغ إليها، هي قمة التجرد لله، والخلوص لدينه. وقمة المفاصلة على أساس العقيدة مع كل أواصر القربى وكل لذائذ الحياة. وكان هذا يتم من خلال ما يبثه المنهج القرآني من وعي لحقيقة الفوارق والفواصل بين منهج الله الذي يجعل الناس كلهم عبيدا لله وحده، ومنهج الجاهلية الذي يجعل الناس أربابا بعضهم لبعض.. وهما منهجان لا يلتقيان.. ولا يتعايشان..
وبدون هذا الفقه الضروري لطبيعة هذا الدين وحقيقته، وطبيعة الجاهلية وحقيقتها لا يملك إنسان أن يقوم الأحكام الإسلامية، التي تقرر قواعد المعاملات والعلاقات بين المعسكر المسلم وسائر المعسكرات.