ثم يأخذ السياق في عرض نماذج منهم ومن معاذيرهم المفتراة; ثم يكشف عما تنطوي عليه صدورهم من التربص بالرسول - صلى الله عليه وسلم - والمسلمين:
ومنهم من يقول: ائذن لي ولا تفتني. ألا في الفتنة سقطوا، وإن جهنم لمحيطة بالكافرين. إن تصبك حسنة تسؤهم وإن تصبك مصيبة يقولوا: قد أخذنا أمرنا من قبل، ويتولوا وهم فرحون. قل: لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا هو مولانا وعلى الله فليتوكل المؤمنون. قل: هل تربصون بنا إلا إحدى الحسنيين؟ ونحن نتربص بكم أن يصيبكم الله بعذاب من عنده أو بأيدينا. فتربصوا إنا معكم متربصون . [ ص: 1664 ] روى عن محمد بن إسحاق الزهري ويزيد بن رومان وعبد الله بن أبي بكر وعاصم بن قتادة قالوا:
تبوك) للجد بن قيس أخي بني سلمة: "هل لك يا جد في جلاد بني الأصفر؟" (يعني الروم) فقال: يا رسول الله أوتأذن لي ولا تفتني؟ فوالله لقد عرف قومي ما رجل أشد عجبا بالنساء مني، وإني أخشى إن رأيت نساء بني الأصفر ألا أصبر عنهن. فأعرض عنه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقال: "قد أذنت لك" ففي الجد بن قيس نزلت هذه الآية. قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذات يوم، وهو في جهازه (أي: لغزوة
بمثل هذه المعاذير كان المنافقون يعتذرون. والرد عليهم:
ألا في الفتنة سقطوا وإن جهنم لمحيطة بالكافرين ..
والتعبير يرسم مشهدا كأن الفتنة فيه هاوية يسقط فيها المفتونون وكأن جهنم من ورائهم تحيط بهم، وتأخذ عليهم المنافذ والمتجهات فلا يفلتون. كناية عن مقارفتهم للخطيئة كاملة وعن انتظار العقاب عليها حتما، جزاء الكذب والتخلف والهبوط إلى هذا المستوى المنحط من المعاذير. وتقريرا لكفرهم وإن كانوا يتظاهرون بالإسلام وهم فيه منافقون.
إنهم لا يريدون بالرسول خيرا ولا بالمسلمين; وإنهم ليسوؤهم أن يجد الرسول والمسلمون خيرا:
إن تصبك حسنة تسؤهم ..
وإنهم ليفرحون لما يحل بالمسلمين من مصائب وما ينزل بهم من مشقة:
وإن تصبك مصيبة يقولوا: قد أخذنا أمرنا من قبل ..
واحتطنا ألا نصاب مع المسلمين بشر، وتخلفنا عن الكفاح والغزو!
ويتولوا وهم فرحون ..
بالنجاة وبما أصاب المسلمين من بلاء.
ذلك أنهم يأخذون بظواهر الأمور، ويحسبون البلاء شرا في كل حال، ويظنون أنهم يحققون لأنفسهم الخير بالتخلف والقعود. وقد خلت قلوبهم من التسليم لله، والرضى بقدره، واعتقاد الخير فيه. والمسلم الصادق يبذل جهده ويقدم لا يخشى اعتقادا بأن ما يصيبه من خير أو شر معقود بإرادة الله، وأن الله ناصر له ومعين:
قل: لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا هو مولانا وعلى الله فليتوكل المؤمنون ..
والله قد كتب للمؤمنين النصر، ووعدهم به في النهاية، فمهما يصيبهم من شدة، ومهما يلاقوا من ابتلاء، فهو إعداد للنصر الموعود، ليناله المؤمنون عن بينة، وبعد تمحيص، وبوسائله التي اقتضتها سنة الله، نصرا عزيزا لا رخيصا، وعزة تحميها نفوس عزيزة مستعدة لكل ابتلاء، صابرة على كل تضحية. والله هو الناصر وهو المعين:
وعلى الله فليتوكل المؤمنون ..
والاعتقاد بقدر الله، والتوكل الكامل على الله، لا ينفيان اتخاذ العدة بما في الطوق. فذلك أمر الله الصريح:
[ ص: 1665 ] وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة... وما يتكل على الله حق الاتكال من لا ينفذ أمر الله، ومن لا يأخذ بالأسباب، ومن لا يدرك سنة الله الجارية التي لا تحابي أحدا، ولا تراعي خاطر إنسان!
على أن المؤمن أمره كله خير. سواء نال النصر أو نال الشهادة. والكافر أمره كله شر سواء أصابه عذاب الله المباشر أو على أيدي المؤمنين:
قل: هل تربصون بنا إلا إحدى الحسنيين، ونحن نتربص بكم أن يصيبكم الله بعذاب من عنده أو بأيدينا. فتربصوا إنا معكم متربصون ..
فماذا يتربص المنافقون بالمؤمنين؟ إنها الحسنى على كل حال. النصر الذي تعلو به كلمة الله، فهو جزاؤهم في هذه الأرض، أو الشهادة في سبيل الحق عليا الدرجات عند الله. ولماذا يتربص المؤمنون بالمنافقين؟ إنه عذاب الله يأخذهم كما أخذ من قبلهم من المكذبين; أو ببطش المؤمنين بهم كما وقع من قبل للمشركين.. فتربصوا إنا معكم متربصون والعاقبة معروفة.. والعاقبة للمؤمنين.
ولقد كان بعض هؤلاء المعتذرين المتخلفين المتربصين، قد عرض ماله وهو يعتذر عن الجهاد، ذلك ليمسك العصا من الوسط على طريقة المنافقين في كل زمان ومكان. فرد الله عليهم مناورتهم، وكلف رسوله أن يعلن أن إنفاقهم غير مقبول عند الله، لأنهم إنما ينفقونه عن رياء وخوف، لا عن إيمان وثقة، وسواء بذلوه عن رضا منهم بوصفه ذريعة يخدعون بها المسلمين، أو عن كره خوفا من انكشاف أمرهم، فهو في الحالتين مردود، لا ثواب له ولا يحسب لهم عند الله:
قل: أنفقوا طوعا أو كرها لن يتقبل منكم، إنكم كنتم قوما فاسقين. وما منعهم أن تقبل منهم نفقاتهم إلا أنهم كفروا بالله وبرسوله، ولا يأتون الصلاة إلا وهم كسالى، ولا ينفقون إلا وهم كارهون .
إنها صورة المنافقين في كل آن. خوف ومداراة، وقلب منحرف وضمير مدخول. ومظاهر خالية من الروح، وتظاهر بغير ما يكنه الضمير.
والتعبير القرآني الدقيق:
ولا يأتون الصلاة إلا وهم كسالى ..
فهم يأتونها مظهرا بلا حقيقة، ولا يقيمونها إقامة واستقامة. يأتونها كسالى لأن الباعث عليها لا ينبثق من أعماق الضمير، إنما يدفعون إليها دفعا، فيحسون أنهم عليها مسخرون! وكذلك ينفقون ما ينفقون كارهين مكرهين.
وما كان الله ليقبل هذه الحركات الظاهرة التي لا تحدو إليها عقيدة، ولا يصاحبها شعور دافع. فالباعث هو عمدة العمل والنية هي مقياسه الصحيح.
ولقد كان هؤلاء المنفقون وهم كارهون ذوي مال وذوي أولاد، وذوي جاه في قومهم وشرف. ولكن هذا كله ليس بشيء عند الله وكذلك يجب ألا يكون شيئا عند الرسول والمؤمنين. فما هي بنعمة يسبغها الله عليهم ليهنؤوا بها، إنما هي الفتنة يسوقها الله إليهم ويعذبهم بها:
فلا تعجبك أموالهم ولا أولادهم، إنما يريد الله ليعذبهم بها في الحياة الدنيا، وتزهق أنفسهم وهم كافرون .
[ ص: 1666 ] إن الأموال والأولاد قد تكون نعمة يسبغها الله على عبد من عباده، حين يوفقه إلى الشكر على النعمة، والإصلاح بها في الأرض، والتوجه بها إلى الله، فإذا هو مطمئن الضمير، ساكن النفس، واثق من المصير. كلما أنفق احتسب وشعر أنه قدم لنفسه ذخرا، وكلما أصيب في ماله أو بنيه احتسب، فإذا السكينة النفسية تغمره. والأمل في الله يسري عنه.. وقد تكون نقمة يصيب الله بها عبدا من عباده، لأنه يعلم من أمره الفساد والدخل، فإذا القلق على الأموال والأولاد يحول حياته جحيما، وإذا الحرص عليها يؤرقه ويتلف أعصابه، وإذا هو ينفق المال حين ينفقه فيما يتلفه ويعود عليه بالأذى، وإذا هو يشقى بأبنائه إذا مرضوا ويشقى بهم إذا صحوا. وكم من الناس يعذبون بأبنائهم لسبب من الأسباب!
وهؤلاء الذين كانوا على عهد الرسول - صلى الله عليه وسلم - وأمثالهم في كل زمان، يملكون الأموال ويرزقون الأولاد، يعجب الناس ظاهرها، وهي لهم عذاب على نحو من الأنحاء. عذاب في الحياة الدنيا، وهم - بما علم الله من دخيلتهم - صائرون إلى الهاوية. هاوية الموت على الكفر والعياذ بالله من هذا المصير.
والتعبير "وتزهق أنفسهم" يلقي ظل الفرار لهذه النفوس أو الهلاك. ظلا مزعجا لا هدوء فيه ولا اطمئنان، فيتسق هذا الظل مع ظل العذاب في الحياة الدنيا بالأموال والأولاد. فهو القلق والكرب في الدنيا والآخرة. وما يحسد أحد على هذه المظاهر التي تحمل في طياتها البلاء!
ولقد كان أولئك المنافقون يدسون أنفسهم في الصف، لا عن إيمان واعتقاد، ولكن عن خوف وتقية، وعن طمع ورهب. ثم يحلفون أنهم من المسلمين، أسلموا اقتناعا، وآمنوا اعتقادا.. فهذه السورة تفضحهم وتكشفهم على حقيقتهم، فهي الفاضحة التي تكشف رداء المداورة وتمزق ثوب النفاق:
ويحلفون بالله إنهم لمنكم وما هم منكم ولكنهم قوم يفرقون. لو يجدون ملجأ أو مغارات أو مدخلا لولوا إليه وهم يجمحون ..
إنهم جبناء. والتعبير يرسم لهذا الجبن مشهدا ويجسمه في حركة. حركة النفس والقلب، يبرزها في حركة جسد وعيان:
لو يجدون ملجأ أو مغارات أو مدخلا لولوا إليه وهم يجمحون ..
فهم متطلعون أبدا إلى مخبأ يحتمون به، ويأمنون فيه. حصنا أو مغارة أو نفقا. إنهم مذعورون مطاردون. يطاردهم الفزع الداخلي والجبن الروحي. ومن هنا:
ويحلفون بالله إنهم لمنكم ..
بكل أدوات التوكيد، ليداروا ما في نفوسهم، وليتقوا انكشاف طويتهم، وليأمنوا على ذواتهم.. وإنها لصورة زرية للجبن والخوف والملق والرياء. لا يرسمها إلا هذا الأسلوب القرآني العجيب. الذي يبرز حركات النفس شاخصة للحس على طريقة التصوير الفني الموحي العميق.
ثم يستمر سياق السورة في الحديث عن المنافقين، وما يند منهم من أقوال وأعمال، تكشف عن نواياهم [ ص: 1667 ] التي يحاولون سترها، فلا يستطيعون. فمنهم من يلمز النبي - صلى الله عليه وسلم - في توزيع الصدقات، ويتهم عدالته في التوزيع، وهو ومنهم من يقول: هو أذن يستمع لكل قائل، ويصدق كل ما يقال، وهو النبي الفطن البصير، المفكر المدبر الحكيم. ومنهم من يتخفى بالقولة الفاجرة الكافرة، حتى إذا انكشف أمره استعان بالكذب والحلف ليبرئ نفسه من تبعة ما قال. ومنهم من يخشى أن ينزل الله على رسوله سورة تفضح نفاقهم وتكشفهم للمسلمين. المعصوم ذو الخلق العظيم،
ويعقب على استعراض هذه الصنوف من المنافقين، ببيان طبيعة النفاق والمنافقين، ويربط بينهم وبين الكفار الذين خلوا من قبل، فأهلكهم الله بعد ما استمتعوا بنصيبهم إلى أجل معلوم. ذلك ليكشف عن الفوارق بين طبيعتهم هذه وطبيعة المؤمنين الصادقين، الذين يخلصون العقيدة ولا ينافقون.