وفي ظل هذا الحديث عن فضل الله ورحمته، المتمثلين فيما جاء للناس من موعظة وهدى وشفاء لما في الصدور، يتعرض السياق للجاهلية، وهي تزاول حياتها العملية، لا وفق ما جاء من عند الله، ولكن وفق أهواء البشر، واعتدائهم على خصائص الله سبحانه، ومزاولتهم أمر التحليل والتحريم فيما رزقهم الله:
قل: أرأيتم ما أنزل الله لكم من رزق فجعلتم منه حراما وحلالا! قل: آلله أذن لكم؟ أم على الله تفترون؟ وما ظن الذين يفترون على الله الكذب يوم القيامة؟ إن الله لذو فضل على الناس، ولكن أكثرهم لا يشكرون ..
قل: ماذا ترون في رزق الله الذي أنزله إليكم؟ - وكل ما جاء من عند الله في عليائه إلى البشر فهو منزل من ذلك المقام الأعلى - ماذا ترون في هذا الرزق الذي أعطاه لكم، لتتصرفوا فيه وفق إذنه وشرعه، فإذا أنتم - من عند أنفسكم ودون إذن من الله لكم - تحرمون منه أنواعا وتحلون منه أنواعا. والتحريم والتحليل تشريع. والتشريع حاكمية. والحاكمية ربوبية، وأنتم تزاولونها من عند أنفسكم:
قل: آلله أذن لكم؟ أم على الله تفترون؟ ..
إنها القضية التي يتكرر ذكرها في القرآن الكريم وتواجه بها الجاهلية بين الحين والحين.. ذلك أنها [ ص: 1802 ] القضية الكبرى التالية لشهادة أن لا إله إلا الله. بل إنها هي هي في حالة التطبيق الواقعي في الحياة.
إن الاعتراف بأن الله هو الخالق الرازق يستتبعه حتما أن يكون الله هو الرب المعبود، وأن يكون هو الذي يحكم في أمر الناس كله.. ومنه أمر هذه الأرزاق التي أعطاها الله للبشر، وهي تشمل كل ما يرزقهم من السماء والأرض.. والجاهليون العرب كانوا يعترفون بوجود الله - سبحانه - وبأنه الخالق الرازق - كما يعترف اليوم ناس يسمون أنفسهم "المسلمين!". ثم كانوا مع هذا الاعتراف يزاولون التحريم والتحليل لأنفسهم فيما رزقهم الله - كما يزاول ذلك اليوم ناس يسمون أنفسهم "المسلمين!" - وهذا القرآن يواجههم بهذا التناقض بين ما يعترفون به من وجود الله ومن أنه الخالق الرازق، وما يزاولونه في حياتهم من ربوبية لغير الله تتمثل في التشريع الذي يزاوله نفر منهم! وهو تناقض صارخ يدمغهم بالشرك; كما يدمغ كل من يزاول هذا التناقض اليوم وغدا وإلى آخر الزمان. مهما اختلفت الأسماء واللافتات. فالإسلام حقيقة واقعة لا مجرد عنوان!
ولقد كان الجاهليون العرب يزعمون - كما يزعم اليوم ناس ممن يسمون أنفسهم "المسلمين" - أن هذا الذي يزاولونه من التحريم والتحليل إنما أذن لهم به الله. أو كانوا يقولون عنه: شريعة الله!
وقد ورد في سورة الأنعام ادعاؤهم أن هذا الذي يحرمونه وهذا الذي يحلونه شرعة الله.. وذلك في قوله تعالى: وقالوا هذه أنعام وحرث حجر لا يطعمها إلا من نشاء - بزعمهم - وأنعام حرمت ظهورها، وأنعام لا يذكرون اسم الله عليها افتراء عليه. سيجزيهم بما كانوا يفترون .. فهم كانوا يقولون: إن الله يشاء هذا، ولا يشاء هذا.. افتراء على الله.. كما أن ناسا اليوم يدعون أنفسهم "مسلمين" يشرعون من عند أنفسهم ثم يقولون: شريعة الله!
والله يجبههم هنا بالافتراء، ثم يسألهم ماذا تظنون بربكم يوم القيامة وأنتم تفترون عليه:
وما ظن الذين يفترون على الله الكذب يوم القيامة؟ ..
وصيغة الغائب تشمل جنس الذين يفترون على الله الكذب وتنتظمهم جميعا.. فما ظنهم يا ترى؟ ما الذي يتصورون أن يكون في شأنهم يوم القيامة!! وهو سؤال تذوب أمامه حتى الجبلات الصلدة الجاسية!
إن الله لذو فضل على الناس، ولكن أكثرهم لا يشكرون ..
والله ذو فضل على الناس برزقه هذا المادي الذي أودعه هذا الكون من أجلهم; وأودع فيهم القدرة على معرفة مصادره، والنواميس التي تحكم هذه المصادر، وأقدرهم كذلك على التنويع في أشكاله، والتحليل والتركيب في مادته لتنويع هذه الأشكال.. وكله في الكون وفيهم من رزق الله..
والله ذو فضل على الناس بعد ذلك برزقه وفضله ورحمته التي أنزلها في منهجه هدى للناس وشفاء لما في الصدور; ليهدي الناس إلى منهج الحياة السليم القويم; الذي يزاولون به خير ما في إنسانيتهم من قوى وطاقات، ومشاعر واتجاهات، والذي ينسقون به بين خير الدنيا وخير الآخرة، كما ينسقون به بين فطرتهم وفطرة الكون الذي يعيشون فيه ويتعاملون معه.
ولكن أكثر الناس لا يشكرون على هذا الرزق وذاك.. فإذا هم يحيدون عن منهج الله وشرعه; وإذا [ ص: 1803 ] هم يشركون به غيره.. ثم يشقون في النهاية بهذا كله.. يشقون لأنهم لا ينتفعون بهذا الذي هو شفاء لما في الصدور!
وإنه لتعبير عجيب عن حقيقة عميقة.. إن هذا القرآن شفاء لما في الصدور بكل معنى من معاني الشفاء.. إنه يدب في القلوب فعلا دبيب الشفاء في الجسم المعلول! يدب فيها بإيقاعه ذي السلطان الخفي العجيب. ويدب فيها بتوجيهاته التي توقظ أجهزة التلقي الفطرية، فتهتز وتتفتح وتتلقى وتستجيب. ويدب فيها بتنظيماته وتشريعاته التي تضمن أقل احتكاك ممكن بين المجموعات البشرية في الحياة اليومية. ويدب فيها بإيحاءاته المطمئنة التي تسكب الطمأنينة في القلوب إلى الله، وإلى العدل في الجزاء، وإلى غلبة الخير، وإلى حسن المصير..
وإنها لعبارة تثير حشدا وراء حشد من المعاني والدلائل، تعجز عنها لغة البشر ويوحي بها هذا التعبير العجيب!
لا يشكرون.. والله هو المطلع على السرائر، المحيط بكل مضمر وظاهر، الذي لا يغيب عن علمه ولا يبعد عن متناوله مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء.. هذه هي اللمسة الجديدة للمشاعر والضمائر في السياق، ليخرج منها إلى طمأنة الرسول - صلى الله عليه وسلم - ومن معه بأنهم في رعايته وولايته، لا يضرهم المكذبون، الذين يتخذون مع الله شركاء وهم واهمون:
وما تكون في شأن، وما تتلو منه من قرآن، ولا تعملون من عمل، إلا كنا عليكم شهودا إذ تفيضون فيه وما يعزب عن ربك من مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء، ولا أصغر من ذلك ولا أكبر إلا في كتاب مبين. ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون. الذين آمنوا وكانوا يتقون. لهم البشرى في الحياة الدنيا وفي الآخرة، لا تبديل لكلمات الله، ذلك هو الفوز العظيم. ولا يحزنك قولهم، إن العزة لله جميعا، هو السميع العليم، ألا إن لله من في السماوات ومن في الأرض، وما يتبع الذين يدعون من دون الله شركاء، إن يتبعون إلا الظن، وإن هم إلا يخرصون. هو الذي جعل لكم الليل لتسكنوا فيه والنهار مبصرا، إن في ذلك لآيات لقوم يسمعون .
إن الشعور بالله على النحو الذي تصوره الآية الأولى من هذا السياق:
وما تكون في شأن وما تتلو منه من قرآن، ولا تعملون من عمل إلا كنا عليكم شهودا إذ تفيضون فيه..
شعور مطمئن ومخيف معا، مؤنس ومرهب معا.. وكيف بهذا المخلوق البشري وهو مشغول بشأن من شؤونه يحس أن الله معه، شاهد أمره وحاضر شأنه. الله بكل عظمته، وبكل هيبته، وبكل جبروته، وبكل قوته. الله خالق هذا الكون وهو عليه هين. ومدبر هذا الكون ما جل منه وما هان.. الله مع هذا المخلوق البشري. الذرة التائهة في الفضاء لولا عناية الله تمسك بها وترعاها! إنه شعور رهيب. ولكنه كذلك شعور مؤنس مطمئن. إن هذه الذرة التائهة ليست متروكة بلا رعاية ولا معونة ولا ولاية.. إن الله معها:
وما تكون في شأن، وما تتلو منه من قرآن، ولا تعملون من عمل إلا كنا عليكم شهودا إذ تفيضون فيه..
إنه ليس شمول العلم وحده، ولكن شمول الرعاية، ثم شمول الرقابة..
وما يعزب عن ربك من مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء ولا أصغر من ذلك ولا أكبر إلا في كتاب مبين ..
[ ص: 1804 ] ويسبح الخيال مع الذرات السابحة في الأرض أو في السماء - ومعها علم الله - ومع ما هو أصغر من الذرة وأكبر محصورا في علم الله.. ويرتعش الوجدان إشفاقا ورهبة، ويخشع القلب إجلالا وتقوى حتى يطامن الإيمان من الروعة والرهبة; ويهدهد القلب الواجف بأنس القرب من الله.
وفي ظل هذا الأنس، وفي طمأنينة هذا القرب.. يأتي الإعلان الجاهر:
ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون. الذين آمنوا وكانوا يتقون. لهم البشرى في الحياة الدنيا وفي الآخرة. لا تبديل لكلمات الله. ذلك هو الفوز العظيم ..
وكيف يخاف أولياء الله أو يحزنون والله معهم هكذا في كل شأن وفي كل عمل وفي كل حركة أو سكون؟ وهم أولياء الله، المؤمنون به الأتقياء المراقبون له في السر والعلن:
الذين آمنوا وكانوا يتقون ..
كيف يخافون وكيف يحزنون، وهم على اتصال بالله لأنهم أولياؤه؟ وعلام يحزنون ومم يخافون، والبشرى لهم في الحياة الدنيا وفي الآخرة؟ إنه الوعد الحق الذي لا يتبدل - لا تبديل لكلمات الله - :
ذلك هو الفوز العظيم
..
إن أولياء الله الذين يتحدث عنهم السياق هم المؤمنون حق الإيمان المتقون حق التقوى. والإيمان ما وقر في القلب وصدقه العمل. والعمل هو تنفيذ ما أمر الله به واجتناب ما نهى الله عنه.. هكذا يجب أن نفهم معنى الولاية لله. لا كما يفهمه العوام من أنهم المهبولون المخبولون الذين يدعونهم بالأولياء!
وفي ظل هذه الرعاية والحماية لأولياء الله يخاطب النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو أولى الأولياء، بما يطمئنه تجاه المكذبين والمفترين، وكانوا في ذلك الوقت هم أصحاب القوة والجاه:
ولا يحزنك قولهم. إن العزة لله جميعا. هو السميع العليم ..
ويفرد الله بالعزة هنا، ولا يضيفها إلى الرسول والمؤمنين - كما في الموضع الآخر - لأن السياق سياق حماية الله لأوليائه. فيفرده بالعزة جميعا - وهي أصلا لله وحده، والرسول والمؤمنون يستمدونها منه - ليجرد منها الناس جميعا، ومشركو قريش العتاة داخلون في الناس. أما الرسول - صلى الله عليه وسلم - فهو في الحماية الإلهية التي أضفاها على أوليائه. فلا يحزن لما يقولون. والله معه وهو السميع العليم. الذي يسمع قولهم ويعلم كيدهم ويحمي أولياءه مما يقال ومما يكاد. وفي ملك يده كل من في السماوات وكل من في الأرض من إنس وجن وملائكة، ومن عصاة وتقاة، فكل ذي قوة من خلقه داخل في سلطانه وملكه:
ألا إن لله من في السماوات ومن في الأرض ..
وهذه حكمة ذكر "من" هنا لا "ما" لأن المقصود إثبات أن الأقوياء كالضعفاء كلهم في ملك يده سواء. فالسياق جار فيها مجراه.
وما يتبع الذين يدعون من دون الله شركاء ..
فهؤلاء الشركاء الموهومون ليسوا في حقيقتهم شركاء لله في شيء، وعبادهم ليسوا على يقين مما يزعمون لهم من شركة:
إن يتبعون إلا الظن. وإن هم إلا يخرصون. ..
[ ص: 1805 ] ثم لفتة إلى بعض مجالي القدرة في المشاهد الكونية التي يغفل عنها الناس بالتكرار:
هو الذي جعل لكم الليل لتسكنوا فيه والنهار مبصرا. إن في ذلك لآيات لقوم يسمعون ..
والمالك للحركة وللسكون، الذي يجعل الليل ليسكن فيه الناس، ويجعل النهار مبصرا يقود الناس فيتحركون! ويبصرهم فيبصرون.. ممسك بمقاليد الحركة والسكون، قادر على الناس، قادر على حماية أوليائه من الناس. ورسوله - صلى الله عليه وسلم - في مقدمة أوليائه. ومن معه من المؤمنين..
إن في ذلك لآيات لقوم يسمعون ..
يسمعون فيتدبرون ما يسمعون.
والمنهج القرآني يستخدم المشاهد الكونية كثيرا في معرض الحديث عن قضية الألوهية والعبودية. ذلك أن هذا الكون بوجوده وبمشاهده شاهد ناطق للفطرة لا تملك لمنطقه ردا. كذلك يخاطب الناس بما في علاقتهم بهذا الكون من تناسق. وهم يجدون هذا في حياتهم فعلا.
فهذا الليل الذي يسكنون فيه، وهذا النهار الذي يبصرون به، هما ظاهرتان كونيتان شديدتا الاتصال بحياتهم. وتناسق هذه الظواهر الكونية مع حياة الناس يحسونه هم - ولو لم يتعمقوا في البحث و "العلم". ذلك أن فطرتهم الداخلية تفهم عن هذا الكون لغته الخفية!
وهكذا لم يكن البشر في عماية عن لغة الكون حتى جاءتهم "العلوم الحديثة!" لقد كانوا يفهمون هذه اللغة بكينونتهم كلها. ومن ثم خاطبهم بها العليم الخبير منذ تلك القرون. وهي لغة متجددة بتجدد المعرفة، وكلما ارتقى الناس في المعرفة كانوا أقدر على فهمها، متى تفتحت قلوبهم بالإيمان ونظرت بنور الله في هذه الآفاق!
والافتراء على الله بالشركاء يكون بنسبة ولد لله - سبحانه - وقد كان مشركو العرب يزعمون أن الملائكة بنات الله.
وختام هذا الدرس جولة مع هذا النوع من الشرك والافتراء تبدأ بالحجة في الدنيا وتنتهي بالعذاب في الآخرة على طريقة القرآن:
قالوا: اتخذ الله ولدا، سبحانه هو الغني، له ما في السماوات وما في الأرض، إن عندكم من سلطان بهذا، أتقولون على الله ما لا تعلمون؟ قل: إن الذين يفترون على الله الكذب لا يفلحون. متاع في الدنيا ثم إلينا مرجعهم، ثم نذيقهم العذاب الشديد بما كانوا يكفرون ..
وعقيدة أن لله - سبحانه - ولدا، عقيدة ساذجة، منشؤها قصور في التصور، يعجز عن إدراك الفارق الهائل بين الطبيعة الإلهية الأزلية الباقية، والطبيعة البشرية المخلوقة الفانية; والقصور كذلك عن إدراك حكمة السنة التي جرت بتوالد أبناء الفناء، وهو التكملة الطبيعية لما فيهم من نقص وقصور لا يكونان لله.
فالبشر يموتون، والحياة باقية إلى أجل معلوم، فإلى أن ينقضي هذا الأجل فحكمة الخالق تقتضي امتداد البشر، والولد وسيلة لهذا الامتداد.
والبشر يهرمون ويشيخون فيضعفون. والولد تعويض عن القوة الشائخة بقوة فتية، تؤدي دورها في عمارة الأرض - كما شاء الله - وتعين الضعفاء والشيوخ على بقية الحياة.
والبشر يكافحون فيما يحيط بهم، ويكافحون أعداءهم من الحيوان والناس. فهم في حاجة إلى التساند، [ ص: 1806 ] والولد أقرب من يكون إلى العون في هذه الأحوال.
والبشر يستكثرون من المال الذي يجلبونه لأنفسهم بالجهد الذي يبذلونه، والولد يعين على الجهد الذي يجلب المال...
وهكذا إلى سائر ما اقتضته حكمة الخالق لعمارة هذه الأرض حتى ينقضي الأجل، ويقضي الله أمرا كان مفعولا.
وليس شيء من ذلك كله متعلقا بالذات الإلهية، فلا الحاجة إلى الامتداد، ولا الحاجة إلى العون عند الشيخوخة، ولا الحاجة إلى النصير، ولا الحاجة إلى المال. ولا الحاجة إلى شيء ما مما يخطر أو لا يخطر على البال متعلقة بذات الله تعالى..
ومن ثم تنتفي حكمة الولد، لأن الطبيعة الإلهية لا يتعلق بها غرض خارج عن ذاتها، يتحقق بالولد. وما قضت حكمة الله أن يتوالد البشر إلا لأن طبيعتهم قاصرة تحتاج إلى هذا النوع من التكملة. فهي تقتضي الولد اقتضاء. وليست المسألة جزافا.
ومن ثم كان الرد على فرية: قالوا اتخذ الله ولدا .. هو:
سبحانه! هو الغني له ما في السماوات وما في الأرض .
"سبحانه!.." تنزيها لذاته العلية عن مستوى هذا الظن أو الفهم أو التصور. "هو الغني".. بكل معاني الغنى، عن الحاجات التي أسلفنا وعن سواها مما يخطر ومما لا يخطر على البال. مما يقتضي وجود الولد. والمقتضيات هي التي تسمح بوجود المقتضيات، فلا يوجد شيء عبثا بلا حاجة ولا حكمة ولا غاية. له ما في السماوات وما في الأرض . فكل شيء ملكه. ولا حاجة به - سبحانه - لأن يملك شيئا بمساعدة الولد. فالولد إذن عبث. تعالى الله سبحانه عن العبث!
ولا يدخل القرآن الكريم في جدل نظري حول الطبيعة الإلهية والطبيعة الناسوتية مما جد عند المتكلمين، وفي الفلسفات الأخرى. لأنه يلمس الموضوعات في واقعها القريب إلى الفطرة. ويتعامل مع الموضوع ذاته لا مع فروض جدلية قد تترك الموضوع الحاضر نهائيا وتصبح غرضا في ذاتها!
فيكتفي هنا بهذه اللمسة التي تمس واقعهم، وحاجتهم إلى الولد، وتصورهم لهذه الحاجة، وانتفاء وجودها بالقياس إلى الله الغني الذي يملك ما في السماوات وما في الأرض، ليبلغ من نفوسهم موضع الاقتناع أو موضع الإفحام، بلا جدل نظري يضعف أثر اللمسة النفسية التي تستجيب لها الفطرة في يسر وهوادة.
ثم يجبههم بالواقع، وهو أنهم لا يملكون برهانا على ما يدعون. ويسمي البرهان سلطانا؛ لأن البرهان قوة، وصاحب البرهان قوي ذو سلطان:
إن عندكم من سلطان بهذا ..
ما عندكم من حجة ولا برهان على ما تقولون.
أتقولون على الله ما لا تعلمون؟ ..
وقول الإنسان ما لا يعلم منقصة لا تليق. فكيف إذا كان هذا القول بلا علم على الله - سبحانه - ! إنه جريمة إذن أكبر من كل جريمة. فهو أولا ينافي ما يستحقه الله من عباده من تنزيه وتعظيم، لأنه وصف له بمقتضيات الحدوث والعجز والنقص والقصور. تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا. ولأنه ضلال في تصور العلاقة بين [ ص: 1807 ] الخالق والمخلوق، ينشأ عنه ضلال في تصور كل علاقات الحياة والناس والمعاملات. فكلها فرع من تصور هذه العلاقة. وكل ما ابتدعه الكهنة لأنفسهم في الوثنيات من سلطان; وكل ما ابتدعته الكنيسة لها من سلطان، إنما نشأ عن تصور العلاقة بين الله تعالى وبناته الملائكة! أو بين الله تعالى وعيسى بن مريم من صلة الأبوة والبنوة، وحكاية الخطيئة، ومنها نشأت مسألة الاعتراف، ومسألة قيام كنيسة المسيح بتوصيل الناس بأبي المسيح (بزعمهم).. إلى نهاية السلسلة التي متى بدأت الحلقة الأولى فيها بفساد تصور العلاقة بين الخالق والمخلوق فسدت الحلقات التالية كلها في كل ضروب الحياة.
فليست المسألة مجرد فساد في التصور الاعتقادي، ولكنه مسألة الحياة برمتها. وكل ما وقع بين الكنيسة وبين العلم والعقل من عداء، انتهى إلى تخلص المجتمع من سلطان الكنيسة بتخلصه من سلطان الدين نفسه! إنما نشأ من هذه الحلقة. حلقة فساد تصور العلاقة بين الله وخلقه. وجر في ذيوله شرا كثيرا تعاني البشرية كلها ويلاته في التيارات المادية وما وراءها من بلايا وأرزاء.
ومن ثم كان حرص العقيدة الإسلامية على تجلية هذه العلاقة تجلية كاملة لا لبس فيها ولا إبهام.. الله خالق أزلي باق، لا يحتاج إلى الولد. والعلاقة بينه وبين الناس جميعا هي علاقة الخالق بخلقه دون استثناء. وللكون والحياة والأحياء سنن ماضية لا تتخلف ولا تحابي. فمن اتبع هذه السنن أفلح وفاز، ومن حاد عنها ضل وخسر.. الناس في هذا كلهم سواء. وكلهم مرجعهم إلى الله. وليس هنالك من شفعاء ولا شركاء. وكلهم آتيه يوم القيامة فردا. ولكل نفس ما عملت. ولا يظلم ربك أحدا.
عقيدة بسيطة واضحة، لا تدع مجالا لتأويل فاسد، ولا تنحني أو تنحرف بالقلب في دروب ومنحنيات، ولا في سحب وضباب!
ومن ثم يقف الجميع سواء أمام الله وكلهم مخاطب بالشريعة، وكلهم مكلف بها، وكلهم حفيظ عليها.
وبذلك تستقيم العلاقات بين الناس بعضهم وبعض، نتيجة استقامة العلاقة بينهم وبين الله.
قل: إن الذين يفترون على الله الكذب لا يفلحون ..
لا يفلحون أي فلاح. لا يفلحون في شعب ولا طريق. لا يفلحون في الدنيا ولا في الأخرى. والفلاح الحقيقي هو الذي ينشأ من مسايرة سنن الله الصحيحة، المؤدية إلى الخير وارتقاء البشر وصلاح المجتمع، وتنمية الحياة، ودفعها إلى الأمام. وليس هو مجرد الإنتاج المادي مع تحطم القيم الإنسانية، ومع انتكاس البشر إلى مدارج الحيوانية. فذلك فلاح ظاهري موقوت، منحرف عن خط الرقي الذي يصل بالبشرية إلى أقصى ما تطيقه طبيعتها من الاكتمال.
متاع في الدنيا. ثم إلينا مرجعهم ثم نذيقهم العذاب الشديد بما كانوا يكفرون ..
مجرد متاع واط. وهو متاع قصير الأمد. وهو متاع مقطوع لأنه لا يتصل بالمتاع اللائق بالبشرية في الدار الآخرة. إنما يعقبه "العذاب الشديد" ثمرة للانحراف عن سنن الله الكونية المؤدية إلى المتاع العالي اللائق ببني الإنسان.