ثم يمضي السياق يواجه الذين يكفرون به; ويزعمون أنه مفترى من دون الله، ويكذبون على الله سبحانه وعلى رسوله - صلى الله عليه وسلم - وذلك في مشهد من مشاهد القيامة يعرض فيه الذين يفترون على الله الكذب. سواء بقولهم: إن الله لم ينزل هذا الكتاب، أو بادعائهم شركاء لله. أو بدعواهم في الربوبية الأرضية وهي من خصائص الألوهية.. يجمل النص هنا الإشارة لتشمل كل ما يوصف بأنه كذب على الله.
هؤلاء يعرضون في مشهد يوم القيامة للتشهير بهم وفضيحتهم على رؤوس الأشهاد. وفي الجانب الآخر المؤمنون المطمئنون إلى ربهم وما ينتظرهم من نعيم. ويضرب للفريقين مثلا: الأعمى والأصم والبصير والسميع:
ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا؟ أولئك يعرضون على ربهم، ويقول الأشهاد: هؤلاء الذين كذبوا على ربهم. ألا لعنة الله على الظالمين. الذين يصدون عن سبيل الله ويبغونها عوجا، وهم بالآخرة هم كافرون. أولئك لم يكونوا معجزين في الأرض، وما كان لهم من دون الله من أولياء، يضاعف لهم العذاب، ما كانوا [ ص: 1867 ] يستطيعون السمع وما كانوا يبصرون. أولئك الذين خسروا أنفسهم وضل عنهم ما كانوا يفترون، لا جرم أنهم في الآخرة هم الأخسرون. إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات وأخبتوا إلى ربهم، أولئك أصحاب الجنة هم فيها خالدون. مثل الفريقين كالأعمى والأصم والبصير والسميع. هل يستويان مثلا؟ أفلا تذكرون؟ .
إن افتراء الكذب في ذاته جريمة نكراء، وظلم للحقيقة ولمن يفترى عليه الكذب. فما بالك حين يكون هذا الافتراء على الله؟
أولئك يعرضون على ربهم، ويقول الأشهاد: هؤلاء الذين كذبوا على ربهم .
إنه التشهير والتشنيع. بالإشارة: "هؤلاء" .. هؤلاء الذين كذبوا .. وعلى من؟ على ربهم لا على أحد آخر! إن جو الفضيحة هو الذي يرتسم في هذا المشهد، تعقبها اللعنة المناسبة لشناعة الجريمة:
ألا لعنة الله على الظالمين ..
يقولها الأشهاد كذلك. والأشهاد هم الملائكة والرسل والمؤمنون، أو هم الناس أجمعون. فهو الخزي والتشهير - إذن - في ساحة العرض الحاشدة! أو هو قرار الله سبحانه في شأنهم إلى جانب ذلك الخزي والتشهير على رؤوس الأشهاد:
ألا لعنة الله على الظالمين ..
والظالمون هم المشركون. وهم الذين يفترون الكذب على ربهم ليصدوا عن سبيل الله.
ويبغونها عوجا ..
فلا يريدون الاستقامة ولا الخطة المستقيمة، إنما يريدونها عوجا والتواء وانحرافا. يريدون الطريق أو يريدون الحياة أو يريدون الأمور.. كلها بمعنى.. وهم بالآخرة هم كافرون ويكرر "هم" مرتين للتوكيد وتثبيت الجريمة وإبرازها في مقام التشهير.
والذين يشركون بالله - سبحانه - وهم الظالمون - إنما يريدون الحياة كلها عوجا حين يعدلون عن استقامة الإسلام. وما تنتج الدينونة لغير الله - سبحانه - إلا العوج في كل جانب من جوانب النفس، وفي كل جانب من جوانب الحياة.
إن عبودية الناس لغير الله سبحانه تنشئ في نفوسهم الذلة وقد أراد الله أن يقيمها على الكرامة. وتنشئ في الحياة الظلم والبغي وقد أراد الله أن يقيمها على القسط والعدل. وتحول جهود الناس إلى عبث في تأليه الأرباب الأرضية والطبل حولها والزمر، والنفخ فيها دائما لتكبر حتى تملأ مكان الرب الحقيقي. ولما كانت هذه الأرباب في ذاتها صغيرة هزيلة لا يمكن أن تملأ فراغ الرب الحقيقي، فإن عبادها المساكين يظلون في نصب دائب، وهم مقعد مقيم ينفخون فيها ليل نهار، ويسلطون عليها الأضواء والأنظار، ويضربون حولها بالدفوف والمزامير والترانيم والتسابيح، حتى يستحيل الجهد البشري كله من الإنتاج المثمر للحياة إلى هذا الكد البائس النكد وإلى هذا الهم المقعد المقيم.. فهل وراء ذلك عوج وهل وراء ذلك التواء؟!
أولئك ..
البعداء المبعدون الملعونون.
لم يكونوا معجزين في الأرض ..
فلم يكن أمرهم معجزا لله، ولو شاء لأخذهم بالعذاب في الدنيا..
[ ص: 1868 ] وما كان لهم من دون الله من أولياء ..
ينصرونهم أو يمنعونهم من الله. إنما تركهم لعذاب الآخرة، ليستوفوا عذاب الدنيا وعذاب الآخرة:
يضاعف لهم العذاب ..
فقد عاشوا معطلي المدارك مغلقي البصائر; كأن لم يكن لهم سمع ولا بصر:
ما كانوا يستطيعون السمع وما كانوا يبصرون ..
أولئك الذين خسروا أنفسهم
.. وهي أفدح الخسارة، فالذي يخسر نفسه لا يفيد شيئا مما كسب غيرها وأولئك خسروا أنفسهم فأضاعوها في الدنيا، لم يحسوا بكرامتهم الآدمية التي تتمثل في الارتفاع عن الدينونة لغير الله من العبيد. كما تتمثل في الارتفاع عن الحياة الدنيا والتطلع - مع المتاع بها - إلى ما هو أرقى وأسمى. وذلك حين كفروا بالآخرة، وحين كذبوا على ربهم غير متوقعين لقاءه. وخسروا أنفسهم في الآخرة بهذا الخزي الذي ينالهم، وبهذا العذاب الذي ينتظرهم..
وضل عنهم ما كانوا يفترون
..
غاب عنهم فلم يهتد إليهم ولم يجتمع عليهم ما كانوا يفترونه من الكذب على الله. فقد تبدد وذهب وضاع.
لا جرم أنهم في الآخرة هم الأخسرون ..
الذين لا تعادل خسارتهم خسارة. وقد أضاعوا أنفسهم دنيا وأخرى.
وفي الجانب الآخر أهل الإيمان والعمل الصالح، المطمئنون إلى ربهم الواثقون به الساكنون إليه لا يشكون ولا يقلقون:
إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات. وأخبتوا إلى ربهم، أولئك أصحاب الجنة هم فيها خالدون ..
والإخبات الطمأنينة والاستقرار والثقة والتسليم.. وهي تصور حال المؤمن مع ربه، وركونه إليه واطمئنانه لكل ما يأتي به، وهدوء نفسه وسكون قلبه، وأمنه واستقراره ورضاه:
مثل الفريقين كالأعمى والأصم والبصير والسميع. هل يستويان مثلا؟ ..
صورة حسية تتجسم فيها حالة الفريقين. والفريق الأول كالأعمى لا يرى وكالأصم لا يسمع - والذي يعطل حواسه وجوارحه عن الغاية الكبرى منها، وهي أن تكون أدوات موصلة للقلب والعقل، ليدرك ويتدبر فكأنما هو محروم من تلك الجوارح والحواس - والفريق الثاني كالمبصر يرى وكالسامع يسمع، فيهديه بصره وسمعه.
هل يستويان مثلا؟ ...
سؤال بعد الصورة المجسمة لا يحتاج إلى إجابة لأنها إجابة مقررة.
أفلا تذكرون ..
فالقضية في وضعها هذا لا تحتاج إلى أكثر من التذكر. فهي بديهية لا تقتضي التفكير..
وتلك وظيفة التصوير الذي يغلب في الأسلوب القرآني في التعبير.. أن ينقل القضايا التي تحتاج لجدل فكري إلى بديهيات مقررة لا تحتاج إلى أكثر من توجيه النظر والتذكير..