ونقف وقفة أخرى مع نوح.. نقف مع قصة نوح وابنه الذي ليس من أهله!
إنها وقفة على معلم واضح بارز في طبيعة هذه العقيدة وفي خطها الحركي أيضا.. وقفة على مفرق الطريق تكشف معالم الطريق..
وأوحي إلى نوح أنه لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن، فلا تبتئس بما كانوا يفعلون. واصنع الفلك بأعيننا ووحينا، ولا تخاطبني في الذين ظلموا إنهم مغرقون ...
[ ص: 1886 ] حتى إذا جاء أمرنا وفار التنور قلنا: احمل فيها من كل زوجين اثنين وأهلك - إلا من سبق عليه القول - ومن آمن، وما آمن معه إلا قليل ... وهي تجري بهم في موج كالجبال ونادى نوح ابنه وكان في معزل - : يا بني اركب معنا، ولا تكن مع الكافرين. قال: سآوي إلى جبل يعصمني من الماء، قال: لا عاصم اليوم من أمر الله إلا من رحم، وحال بينهما الموج فكان من المغرقين.. ونادى نوح ربه، فقال: رب إن ابني من أهلي، وإن وعدك الحق، وأنت أحكم الحاكمين. قال: يا نوح إنه ليس من أهلك، إنه عمل غير صالح، فلا تسألني ما ليس لك به علم، إني أعظك أن تكون من الجاهلين. قال: رب إني أعوذ بك أن أسألك ما ليس لي به علم، وإلا تغفر لي وترحمني أكن من الخاسرين ..
إن الوشيجة التي يتجمع عليها الناس في هذا الدين وشيجة فريدة تتميز بها طبيعة هذا الدين، وتتعلق بآفاق وآماد وأبعاد وأهداف يختص بها ذلك المنهج الرباني الكريم.
إن هذه الوشيجة ليست وشيجة الدم والنسب; وليست وشيجة الأرض والوطن، وليست وشيجة القوم والعشيرة، وليست وشيجة اللون واللغة، وليست وشيجة الجنس والعنصر، وليست وشيجة الحرفة والطبقة.
إن هذه الوشائج جميعها قد توجد ثم تنقطع العلاقة بين الفرد والفرد; كما قال الله سبحانه وتعالى لعبده نوح - عليه السلام - وهو يقول: رب إن ابني من أهلي .. يا نوح إنه ليس من أهلك ثم بين له لماذا يكون ابنه.. ليس من أهله.. إنه عمل غير صالح ، إن وشيجة الإيمان قد انقطعت بينكما يا نوح : فلا تسألني ما ليس لك به علم فأنت تحسب أنه من أهلك، ولكن هذا الحسبان خاطئ. أما المعلوم المستيقن فهو أنه ليس من أهلك، ولو كان هو ابنك من صلبك!
وهذا هو المعلم الواضح البارز على مفرق الطريق بين نظرة هذا الدين إلى الوشائج والروابط، وبين نظرات الجاهلية المتفرقة. إن الجاهليات تجعل الرابطة آنا هي الدم والنسب; وآنا هي الأرض والوطن، وآنا هي القوم والعشيرة، وآنا هي اللون واللغة، وآنا هي الجنس والعنصر، وآنا هي الحرفة والطبقة! تجعلها آنا هي المصالح المشتركة، أو التاريخ المشترك. أو المصير المشترك، وكلها تصورات جاهلية - على تفرقها أو تجمعها - تخالف مخالفة أصيلة عميقة عن أصل التصور الإسلامي!
والمنهج الرباني القويم - ممثلا في هذا القرآن الذي يهدي للتي هي أقوم وفي توجيهات الرسول - صلى الله عليه وسلم - وهي من هذا القرآن وعلى نسقه واتجاهه - قد أخذ الأمة المسلمة بالتربية على ذلك الأصل الكبير، والمعلم الواضح البارز في مفرق الطريق.
وهذا المثل الذي يضربه في هذه السورة من نوح وابنه فيما يكون بين الوالد والولد ضرب أمثاله لشتى الوشائج والروابط الجاهلية الأخرى، ليقرر من وراء هذه الأمثال حقيقة الوشيجة الوحيدة التي يعتبرها.
ضرب لها المثل فيما يكون بين الولد والوالد وذلك فيما كان بين إبراهيم - عليه السلام - وأبيه وقومه كذلك:
واذكر في الكتاب إبراهيم، إنه كان صديقا نبيا. إذ قال لأبيه: يا أبت لم تعبد ما لا يسمع ولا يبصر ولا يغني عنك شيئا؟ يا أبت إني قد جاءني من العلم ما لم يأتك، فاتبعني أهدك صراطا سويا. يا أبت لا تعبد الشيطان، إن الشيطان كان للرحمن عصيا. يا أبت إني أخاف أن يمسك عذاب من الرحمن فتكون للشيطان [ ص: 1887 ] وليا.. قال: أراغب أنت عن آلهتي يا إبراهيم؟ لئن لم تنته لأرجمنك! واهجرني مليا. قال: سلام عليك سأستغفر لك ربي، إنه كان بي حفيا، وأعتزلكم وما تدعون من دون الله وأدعو ربي، عسى ألا أكون بدعاء ربي شقيا. فلما اعتزلهم وما يعبدون من دون الله وهبنا له إسحاق ويعقوب وكلا جعلنا نبيا ووهبنا لهم من رحمتنا، وجعلنا لهم لسان صدق عليا ... (مريم: 41 - 50) .
وضرب لها المثل فيما كان بين إبراهيم وذريته كما علمه الله سبحانه ولقنه، وهو يعطيه عهده وميثاقه. ويبشره ببقاء ذكره وامتداد الرسالة في عقبه:
وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات، فأتمهن، قال: إني جاعلك للناس إماما، قال: ومن ذريتي؟ قال: لا ينال عهدي الظالمين..
وإذ قال إبراهيم: رب اجعل هذا بلدا آمنا وارزق أهله من الثمرات - من آمن منهم بالله واليوم الآخر. قال: ومن كفر فأمتعه قليلا ثم أضطره إلى عذاب النار وبئس المصير .. (البقرة: 124 - 126) وضرب لها المثل فيما يكون بين الزوج وزوجه، وذلك فيما كان بين نوح وامرأته، ولوط وامرأته. وفي الجانب الآخر ما كان بين امرأة فرعون وفرعون:
ضرب الله مثلا للذين كفروا امرأت نوح وامرأت لوط، كانتا تحت عبدين من عبادنا صالحين، فخانتاهما، فلم يغنيا عنهما من الله شيئا، وقيل: ادخلا النار مع الداخلين ...
وضرب الله مثلا للذين آمنوا امرأت فرعون، إذ قالت: رب ابن لي عندك بيتا في الجنة، ونجني من فرعون وعمله، ونجني من القوم الظالمين ... (التحريم: 10 - 11) وضرب لها المثل فيما يكون بين المؤمنين وأهلهم وقومهم ووطنهم وأرضهم وديارهم وأموالهم، ومصالحهم وماضيهم ومصيرهم. وذلك فيما كان بين إبراهيم والمؤمنين به مع قومهم. وما كان من الفتية أصحاب الكهف مع أهلهم وقومهم ودورهم وأرضهم ...
قد كانت لكم أسوة حسنة في إبراهيم والذين معه، إذ قالوا لقومهم: إنا برآء منكم ومما تعبدون من دون الله، كفرنا بكم وبدا بيننا وبينكم العداوة والبغضاء أبدا حتى تؤمنوا بالله وحده ... .. (الممتحنة: 4) .
أم حسبت أن أصحاب الكهف والرقيم كانوا من آياتنا عجبا؟ إذ أوى الفتية إلى الكهف فقالوا: ربنا آتنا من لدنك رحمة وهيئ لنا من أمرنا رشدا، فضربنا على آذانهم في الكهف سنين عددا. ثم بعثناهم لنعلم أي الحزبين أحصى لما لبثوا أمدا. نحن نقص عليك نبأهم بالحق، إنهم فتية آمنوا بربهم وزدناهم هدى، وربطنا على قلوبهم إذ قاموا فقالوا: ربنا رب السماوات والأرض لن ندعو من دونه إلها لقد قلنا إذا شططا. هؤلاء قومنا اتخذوا من دونه آلهة. لولا يأتون عليهم بسلطان بين! فمن أظلم ممن افترى على الله كذبا؟ وإذ اعتزلتموهم وما يعبدون - إلا الله - فأووا إلى الكهف ينشر لكم ربكم من رحمته، ويهيئ لكم من أمركم مرفقا ... (الكهف: 9 - 16) .
وبهذه الأمثلة التي ضربها الله للأمة المسلمة من سيرة الرهط الكريم من الأنبياء والمؤمنين. الذين سبقوها في موكب الإيمان الضارب في شعاب الزمان، وضحت معالم الطريق لهذه الأمة وقام هذا المعلم البارز أمامها عن حقيقة الوشيجة التي يجب أن يقوم عليها المجتمع المسلم، ولا يقوم على سواها. وطالبها ربها بالاستقامة على الطريق في حسم ووضوح يتمثلان في مواقف كثيرة، وفي توجيهات من القرآن كثيرة، هذه نماذج منها.. [ ص: 1888 ] لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله - ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم - أولئك كتب في قلوبهم الإيمان وأيدهم بروح منه، ويدخلهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها، رضي الله عنهم ورضوا عنه، أولئك حزب الله، ألا إن حزب الله هم المفلحون ...
(المجادلة: 22) يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء تلقون إليهم بالمودة، وقد كفروا بما جاءكم من الحق، يخرجون الرسول وإياكم أن تؤمنوا بالله ربكم، إن كنتم خرجتم جهادا في سبيلي وابتغاء مرضاتي، تسرون إليهم بالمودة وأنا أعلم بما أخفيتم وما أعلنتم، ومن يفعله منكم فقد ضل سواء السبيل ... (الممتحنة: 1) لن تنفعكم أرحامكم ولا أولادكم، يوم القيامة يفصل بينكم، والله بما تعملون بصير. قد كانت لكم أسوة حسنة في إبراهيم والذين معه ... الخ .. (الممتحنة: 3 - 4) يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا آباءكم وإخوانكم أولياء إن استحبوا الكفر على الإيمان، ومن يتولهم منكم فأولئك هم الظالمون ... (التوبة: 23) .
يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء، بعضهم أولياء بعض، ومن يتولهم منكم فإنه منهم، إن الله لا يهدي القوم الظالمين ... (المائدة: 51) .
وهكذا تقررت تلك القاعدة الأصيلة الحاسمة في علاقات المجتمع الإسلامي; وفي طبيعة بنائه وتكوينه العضوي الذي يتميز به عن سائر المجتمعات الجاهلية قديما وحديثا إلى آخر الزمان. ولم يعد هناك مجال للجمع بين "الإسلام" وبين إقامة المجتمع على أية قاعدة أخرى غير القاعدة التي اختارها الله للأمة المختارة. والذين يدعون صفة الإسلام، ثم يقيمون مجتمعاتهم على قاعدة أو أكثر من تلك العلاقات الجاهلية التي أحل الإسلام محلها قاعدة العقيدة، إما أنهم لا يعرفون الإسلام; وإما أنهم يرفضونه. والإسلام في كلتا الحالتين لا يعترف لهم بتلك الصفة التي يدعونها لأنفسهم وهم لا يطبقونها، بل يختارون غيرها من مقومات الجاهلية فعلا!
وندع هذه القاعدة - وقد صارت واضحة تماما - لننظر في جوانب من حكمة الله في إقامة المجتمع الإسلامي على هذه القاعدة..
إن العقيدة تمثل أعلى خصائص "الإنسان" التي تفرقه من عالم البهيمة; لأنها تتعلق بالعنصر الزائد في تركيبه وكينونته عن تركيب البهيمة وكينونتها - وهو العنصر الروحي الذي به صار هذا المخلوق إنسانا في هذه الصورة - وحتى أشد الملحدين إلحادا وأكثر الماديين مادية، قد انتبهوا أخيرا إلى أن العقيدة خاصة من خواص الإنسان تفرقه فرقا أساسيا عن الحيوان .
ومن ثم ينبغي أن تكون العقيدة - في المجتمع الإنساني الذي يبلغ ذروة الحضارة الإنسانية - هي آصرة التجمع. لأنها العنصر الذي يتعلق بأخص خصائص الإنسان المميزة له عن البهائم. ولا تكون آصرة التجمع عنصرا يتعلق بشيء يشترك فيه الإنسان مع البهائم! من مثل الأرض والمرعى والمصالح والحدود التي تمثل خواص الحظيرة، وسياج الحظيرة! ولا تكون كذلك هي الدم والنسب والعشيرة والقوم والجنس والعنصر [ ص: 1889 ] واللون واللغة.. فكلها مما يشترك فيه الإنسان مع البهيمة. وليس هناك إلا شؤون العقل والقلب التي يختص بها الإنسان دون البهيمة!
كذلك تتعلق العقيدة بعنصر آخر يتميز به الإنسان عن البهائم.. هو عنصر الاختيار والإرادة، فكل فرد على حدة يملك أن يختار عقيدته بمجرد أن يبلغ سن الرشد; وبذلك يقرر نوع المجتمع الذي يريد أن يعيش فيه مختارا; ونوع المنهج الاعتقادي والاجتماعي والسياسي والاقتصادي والخلقي الذي يريد - بكامل حريته - أن يتمذهب به ويعيش.
ولكن هذا الفرد لا يملك أن يقرر دمه ونسبه ولونه وقومه وجنسه. كما لا يملك أن يقرر الأرض التي يحب أن يولد فيها، ولغة الأم التي يريد أن ينشأ عليها.. إلى آخر تلك المقومات التي تقام عليها مجتمعات الجاهلية! .. إن هذه الأمور كلها يقضى فيها قبل مجيئه إلى هذه الأرض، ولا يؤخذ له فيها مشورة ولا رأي; إنما هي تفرض عليه فرضا سواء أحب أم كره! فإذا تعلق مصيره في الدنيا والآخرة معا - أو حتى في الدنيا وحدها - بمثل هذه المقومات التي تفرض عليه فرضا لم يكن مختارا ولا مريدا; وبذلك تسلب إنسانيته مقوما من أخص مقوماتها; وتهدر قاعدة أساسية من قواعد تكريم الإنسان; بل من قواعد تركيبه وتكوينه الإنساني المميز له من سائر الخلائق!
ومن أجل المحافظة على خصائص الإنسان الذاتية، والمحافظة على الكرامة التي وهبها الله له متمشية مع تلك الخصائص; يجعل الإسلام العقيدة - التي يملك كل فرد اختيارها بشخصه منذ أن يبلغ سن الرشد - هي الآصرة التي يقوم عليها التجمع الإنساني في المجتمع الإسلامي; والتي يتقرر على أساسها مصير كل فرد بإرادته الذاتية. وينفى أن تكون تلك العوامل الاضطرارية، والتي لا يدله، ولا يملك كذلك تغييرها باختباره، وهي آصرة التجمع التي تقرر مصيره طول حياته.
ومن شأن قيام المجتمع على آصرة العقيدة - وعدم قيامه على العوامل الاضطرارية الأخرى - أن ينشئ مجتمعا إنسانيا عالميا مفتوحا; يجيء إليه الأفراد من شتى الأجناس والألوان واللغات والأقوام والدماء والأنساب والديار والأوطان بكامل حريتهم واختيارهم الذاتي; لا يصدهم عنه صاد، ولا يقوم في وجوههم حاجز، ولا تقف دونه حدود مصطنعة، خارجة عن خصائص الإنسان العليا. وأن تصب في هذا المجتمع كل الطاقات والخواص البشرية، وتجتمع في صعيد واحد، لتنشئ "حضارة إنسانية" تنتفع بكل خصائص الأجناس البشرية; ولا تغلق دون كفاية واحدة، بسبب من اللون أو العنصر أو النسب والأرض.
ولقد كان من النتائج الواقعية الباهرة للمنهج الإسلامي في هذه القضية; ولإقامة التجمع الإسلامي على آصرة العقيدة وحدها، دون أواصر الجنس والأرض واللون واللغة والمصالح الأرضية القريبة، والحدود الإقليمية السخيفة! ولإبراز "خصائص الإنسان" في هذا التجمع وتنميتها وإعلائها، دون الصفات المشتركة بينه وبين الحيوان.. كان من النتائج الواقعية الباهرة لهذا المنهج أن أصبح المجتمع المسلم مجتمعا مفتوحا لجميع الأجناس والألوان واللغات، بلا عائق من هذه العوائق الحيوانية السخيفة! وأن صبت في بوتقة المجتمع الإسلامي خصائص الأجناس البشرية وكفاياتها، وانصهرت في هذه البوتقة وتمازجت، وأنشأت مركبا عضويا فائقا في فترة تعد نسبيا قصيرة. وصنعت هذه الكتلة العجيبة المتجانسة المتناسقة حضارة رائعة ضخمة، تحوي خلاصة الطاقة البشرية في زمانها مجتمعة، على بعد المسافات وبطء طرق الاتصال في ذلك الزمان.
لقد اجتمع في المجتمع الإسلامي المتفوق: العربي والفارسي والشامي والمصري والمغربي والتركي والصيني [ ص: 1890 ] والهندي والروماني والإغريقي والأندونيسي والإفريقي ... إلى آخر الأقوام والأجناس.. وتجمعت خصائصهم كلها لتعمل متمازجة متعاونة متناسقة في بناء المجتمع الإسلامي والحضارة الإسلامية. ولم تكن هذه الحضارة الضخمة يوما ما "عربية" إنما كانت دائما "إسلامية" ولم تكن يوما ما "قومية" إنما كانت دائما "عقيدية" .
ولقد اجتمعوا كلهم على قدم المساواة، وبآصرة الحب. وبشعور التطلع إلى وجهة واحدة. فبذلوا جميعا أقصى كفاياتهم، وأبرزوا أعمق خصائص أجناسهم، وصبوا خلاصة تجاربهم الشخصية والقومية والتاريخية في بناء هذا المجتمع الواحد الذي ينتسبون إليه جميعا على قدم المساواة، وتجمع فيه بينهم آصرة تتعلق بربهم الواحد، وتبرز فيها إنسانيتهم وحدها بلا عائق. وهذا ما لم يجتمع قط لأي تجمع آخر على مدار التاريخ!
لقد كان أشهر تجمع بشري في التاريخ القديم هو تجمع الإمبراطورية الرومانية مثلا. فقد جمعت بالفعل أجناسا متعددة، ولغات متعددة، وألوانا متعددة، وأمزجة متعددة. ولكن هذا كله لم يقم على "آصرة إنسانية" ولم يتمثل في قيمة عليا كالعقيدة.. لقد كان هناك تجمع طبقي على أساس طبقة الأشراف وطبقة العبيد في الإمبراطورية كلها من ناحية; وتجمع عنصري على أساس سيادة الجنس الروماني - بصفة عامة - وعبودية سائر الأجناس الأخرى. ومن ثم لم يرتفع قط إلى أفق التجمع الإسلامي; ولم يؤت الثمار التي آتاها التجمع الإسلامي.
كذلك قامت في التاريخ الحديث تجمعات أخرى.. تجمع الإمبراطورية البريطانية مثلا.. ولكنه كان كالتجمع الروماني، الذي هو وريثه! تجمعا قوميا استغلاليا، يقوم على أساس سيادة القومية الإنجليزية، واستغلال المستعمرات التي تضمها الإمبراطورية.. ومثله الإمبراطوريات الأوربية كلها.. الإمبراطورية الأسبانية والبرتغالية في وقت ما، والإمبراطورية الفرنسية.. كلها في ذلك المستوى الهابط البشع المقيت! وأرادت الشيوعية أن تقيم تجمعا من نوع آخر، يتخطى حواجز الجنس والقوم والأرض واللغة واللون. ولكنها لم تقمه على قاعدة "إنسانية" عامة، إنما أقامته على القاعدة "الطبقية" . فكان هذا التجمع هو الوجه الآخر للتجمع الروماني القديم.. هذا تجمع على قاعدة طبقة "الأشراف" وذلك تجمع على قاعدة طبقة "الصعاليك" (البروليتريا) ; والعاطفة التي تسوده هي عاطفة الحقد الأسود على سائر الطبقات الأخرى! وما كان لمثل هذا التجمع الصغير البغيض أن يثمر إلا أسوأ ما في الكائن الإنساني.. فهو ابتداء قائم على أساس إبراز الصفات الحيوانية وحدها وتنميتها وتمكينها. باعتبار أن "المطالب الأساسية" للإنسان هي "الطعام والمسكن والجنس" - وهي مطالب الحيوان الأولية - وباعتبار أن تاريخ الإنسان هو تاريخ البحث عن الطعام!!
"لقد تفرد الإسلام بمنهجه الرباني في إبراز أخص خصائص الإنسان وتنميتها وإعلائها في بناء المجتمع الإنساني.. وما يزال متفردا.. والذين يعدلون عنه إلى أي منهج آخر، يقوم على أية قاعدة أخرى، من القوم أو الجنس أو الأرض أو الطبقة.. إلى آخر هذا النتن السخيف، هم أعداء "الإنسان" حقا! هم الذين لا يريدون لهذا الإنسان أن يتفرد في هذا الكون بخصائصه العليا كما فطره الله; ولا يريدون لمجتمعه أن ينتفع بأقصى كفايات أجناسه وخصائصها وتجاربها في امتزاج وتناسق "..
[ ص: 1891 ] الجزء الثاني عشر
ويحسن أن نذكر أن أعداء هذا الدين، الذين يعرفون مواضع القوة في طبيعته وحركته; وهم الذين يقول الله تعالى فيهم: الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم .. لم يفتهم أن يدركوا أن التجمع على أساس العقيدة سر من أسرار قوة هذا الدين، وقوة المجتمع الإسلامي الذي يقوم على هذا الأساس.. ولما كانوا بصدد هدم ذلك المجتمع أو إضعافه إلى الحد الذي يسهل عليهم السيطرة عليه; وشفاء ما في صدورهم من هذا الدين وأهله; ولاستغلالهم كذلك واستغلال مقدراتهم وديارهم وأموالهم.. لما كانوا بصدد تلك المعركة مع هذا المجتمع لم يفتهم أن يوهنوا من القاعدة التي يقوم عليها; وأن يقيموا لأهله المجتمعين على إله واحد، أصناما تعبد من دون الله، اسمها تارة "الوطن" واسمها تارة "القوم" واسمها تارة "الجنس".
وظهرت هذه الأصنام على مراحل التاريخ تارة باسم "الشعوبية" وتارة باسم "الجنسية الطورانية" وتارة باسم "القومية العربية" وتارة بأسماء شتى، تحملها جبهات شتى، تتصارع فيما بينها في داخل المجتمع الإسلامي الواحد القائم على أساس العقيدة، المنظم بأحكام الشريعة ... إلى أن وهنت القاعدة الأساسية تحت المطارق المتوالية، وتحت الإيحاءات الخبيثة المسمومة; وإلى أن أصبحت تلك "الأصنام" مقدسات يعتبر المنكر لها خارجا على دين قومه! أو خائنا لمصالح بلده!!!
وأخبث المعسكرات التي عملت وما زالت تعمل في تخريب القاعدة الصلبة التي كان يقوم عليها التجمع الإسلامي الفريد في التاريخ.. كان هو المعسكر اليهودي الخبيث، الذي جرب سلاح "القومية" في تحطيم التجمع المسيحي، وتحويله إلى قوميات سياسية ذات كنائس قومية.. وبذلك حطموا الحصار المسيحي حول الجنس اليهودي; ثم ثنوا بتحطيم الحصار الإسلامي حول ذلك الجنس الكنود!
وكذلك فعل الصليبيون مع المجتمع الإسلامي - بعد جهد قرون كثيرة في إثارة النعرات الجنسية والقومية والوطنية بين الأجناس الملتحمة في المجتمع الإسلامي.. ومن ثم استطاعوا أن يرضوا أحقادهم الصليبية القديمة على هذا الدين وأهله. كما استطاعوا أن يمزقوهم ويروضوهم على الاستعمار الأوربي الصليبي. وما يزالون.. حتى يأذن الله بتحطيم تلك الأصنام الخبيثة الملعونة; ليقوم التجمع الإسلامي من جديد، على أساسه المتين الفريد..
وأخيرا فإن الناس ما كانوا ليخرجوا من الجاهلية الوثنية بكلياتهم حتى تكون العقيدة وحدها هي قاعدة تجمعهم. ذلك أن الدينونة لله وحده لا تتم تمامها إلا بقيام هذه القاعدة في تصورهم وفي تجمعهم.
يجب أن تكون هناك قداسة واحدة لمقدس واحد، وألا تتعدد "المقدسات" ! ويجب أن يكون هناك شعار واحد، وألا تتعدد "الشعارات" ويجب أن تكون هناك قبلة واحدة يتجه إليها الناس بكلياتهم وألا تتعدد القبلات والمتجهات..
إن الوثنية ليست صورة واحدة هي وثنية الأصنام الحجرية والآلهة الأسطورية! إن الوثنية يمكن أن تتمثل في صور شتى; كما أن الأصنام يمكن أن تتخذ صورا متعددة; وآلهة الأساطير يمكن أن تتمثل مرة أخرى في المقدسات والمعبودات من دون الله أيا كانت أسماؤها. وأيا كانت مراسمها.
وما كان الإسلام ليخلص الناس من الأصنام الحجرية والأرباب الأسطورية، ثم يرضى لهم بعد ذلك أصنام الجنسيات والقوميات والأوطان.. وما إليها.. يتقاتل الناس تحت راياتها وشعاراتها. وهو يدعوهم إلى الله وحده، وإلى الدينونة له دون شيء من خلقه!
لذلك قسم الإسلام الناس إلى أمتين اثنتين على مدار التاريخ البشري.. أمة المسلمين من أتباع الرسل - [ ص: 1892 ] كل في زمانه حتى يأتي الرسول الأخير إلى الناس كافة - وأمة غير المسلمين من عبدة الطواغيت والأصنام في شتى الصور والأشكال على مدار القرون..
وعندما أراد الله أن يعرف المسلمين بأمتهم التي تجمعهم على مدار القرون، عرفها لهم في صورة أتباع الرسل - كل في زمانه - وقال لهم في نهاية استعراض أجيال هذه الأمة: إن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاعبدون .. ولم يقل للعرب : إن أمتكم هي الأمة العربية في جاهليتها وإسلامها سواء! ولا قال لليهود: إن أمتكم هي بنو إسرائيل أو العبرانيون في جاهليتهم وإسلامهم سواء! ولا قال : إن أمتك هي لسلمان الفارسي فارس ! ولا : إن أمتك هي لصهيب الرومي الرومان ! ولا لبلال الحبشي : إن أمتك هي الحبشة ! إنما قال للمسلمين من العرب والفرس والروم والحبش: إن أمتكم هي المسلمون الذين أسلموا حقا على أيام موسى وهارون، وإبراهيم، ولوط، ونوح، وداود وسليمان، وأيوب، وإسماعيل وإدريس وذي الكفل وذي النون، وزكريا ويحيى ، ومريم .. كما جاء في سورة الأنبياء: (آيات: 48 - 91) .
هذه هي أمة "المسلمين" في تعريف الله سبحانه.. فمن شاء له طريقا غير طريق الله فليسلكه. ولكن ليقل: إنه ليس من المسلمين! أما نحن الذين أسلمنا لله، فلا نعرف لنا أمة إلا الأمة التي عرفها لنا الله. والله يقص الحق وهو خير الفاصلين..
وحسبنا هذا القدر مع إلهامات قصة نوح في هذه القضية الأساسية في هذا الدين.