ومن بيان ينتقل السياق إلى الحملة على الذين يكتمون ما أنزل الله من البينات والهدى ، وهم اليهود الذين سبق الحديث عنهم طويلا في سياق السورة. مما يوحي بأن دسائسهم لم تنقطع حول مسألة الاتجاه إلى مشروعية الطواف بالصفا والمروة المسجد الحرام وفرض الحج إليه أيضا:
إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى من بعد ما بيناه للناس في الكتاب أولئك يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون إلا الذين تابوا وأصلحوا وبينوا فأولئك أتوب عليهم، وأنا التواب الرحيم إن الذين كفروا وماتوا وهم كفار، أولئك عليهم لعنة الله والملائكة والناس أجمعين خالدين فيها لا يخفف عنهم العذاب ولا هم ينظرون ..
ولقد كان أهل الكتاب يعرفون مما بين أيديهم من الكتاب مدى ما في رسالة محمد - صلى الله عليه وسلم - من حق، ومدى ما في الأوامر التي يبلغها من صدق، ومع هذا يكتمون هذا الذي بينه الله لهم في الكتاب.
فهم وأمثالهم في أي زمان، ممن يكتمون الحق الذي أنزله الله، لسبب من أسباب الكتمان الكثيرة، ممن يراهم الناس في شتى الأزمنة وشتى الأمكنة، يسكتون عن الحق وهم يعرفونه، ويكتمون الأقوال التي تقرره وهم على يقين منها، ويجتنبون آيات في كتاب الله لا يبرزونها بل يسكتون عنها ويخفونها لينحوا الحقيقة التي تحملها هذه الآيات ويخفوها بعيدا عن سمع الناس وحسهم، لغرض من أغراض هذه الدنيا.. الأمر الذي نشهده في مواقف كثيرة، وبصدد حقائق من حقائق هذا الدين كثيرة.. أولئك يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون .
كأنما تحولوا إلى ملعنة، ينصب عليها اللعن من كل مصدر، ويتوجه إليها - بعد الله - من كل لاعن
واللعن: الطرد في غضب وزجر ، وأولئك الخلق يلعنهم الله فيطردهم من رحمته، ويطاردهم اللاعنون من كل صوب. فهم هكذا مطاردون من الله ومن عباده في كل مكان..
إلا الذين تابوا وأصلحوا وبينوا. فأولئك أتوب عليهم، وأنا التواب الرحيم ..
هؤلاء يفتح القرآن لهم هذه النافذة المضيئة - نافذة التوبة - يفتحها فتنسم نسمة الأمل في الصدور، وتقود [ ص: 151 ] القلوب إلى مصدر النور، فلا تيئس من رحمة الله، ولا تقنط من عفوه. فمن شاء فليرجع إلى الحمى الآمن، صادق النية. وآية صدق التوبة الإصلاح في العمل، والتبيين في القول، وإعلان الحق والاعتراف به والعمل بمقتضاه. ثم ليثق برحمة الله وقبوله للتوبة، وهو يقول: وأنا التواب الرحيم وهو أصدق القائلين.
فأما الذين يصرون ولا يتوبون حتى تفلت الفرصة وتنتهي المهلة، فأولئك ملاقون ما أوعد الله من قبل به، بزيادة وتفصيل وتوكيد:
إن الذين كفروا وماتوا وهم كفار. أولئك عليهم لعنة الله والملائكة والناس أجمعين. خالدين فيها لا يخفف عنهم العذاب ولا هم ينظرون .
ذلك أنهم أغلقوا على أنفسهم ذلك الباب المفتوح، وتركوا الفرصة تفلت، والمهلة تنقضي، وأصروا على الكتمان والكفر والضلال: أولئك عليهم لعنة الله والملائكة والناس أجمعين .. فهي لعنة مطبقة لا ملجأ منها ولا صدر حنون
ولم يذكر السياق لهم عذابا آخر غير هذه اللعنة المطبقة; بل عدها عذابا لا يخفف عنهم، ولا يؤجل موعده ولا يمهلون فيه. وإنه لعذاب دونه كل عذاب. عذاب المطاردة والنبذ والجفوة. فلا يتلقاهم صدر فيه حنان، ولا عين فيها قبول، ولا لسان فيه تحية. إنهم ملعونون مطرودون منبوذون من العباد ومن رب العباد في الأرض وفي الملأ الأعلى على السواء.. وهذا هو العذاب الأليم المهين..