الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      وهنا كذلك ينتقل السياق إلى المشهد التالي تاركا فجوة بين المشهدين يكمل التصور ما تم فيها من حركة ، ويرفع الستار مرة أخرى على مجلس الملك. ويحذف السياق ما نقله الساقي من تأويل الرؤيا، وما تحدث به عن يوسف الذي أولها. وعن سجنه وأسبابه والحال التي هو فيها.. كل أولئك يحذفه السياق من المشهد، لنسمع نتيجته من رغبة الملك في رؤية يوسف ، وأمره أن يأتوه به:

                                                                                                                                                                                                                                      وقال الملك: ائتوني به ..

                                                                                                                                                                                                                                      ومرة ثالثة في المشهد يحذف السياق جزئيات تفصيلية في تنفيذ الأمر. ولكنا نجد يوسف يرد على رسول الملك الذي لا نعرف: إن كان هو الساقي الذي جاءه أول مرة ، أو رسولا تنفيذيا مكلفا بمثل هذا الشأن . نجديوسف السجين الذي طال عليه السجن لا يستعجل الخروج حتى تحقق قضيته، ويتبين الحق واضحا في موقفه، وتعلن براءته - على الأشهاد - من الوشايات والدسائس والغمز في الظلام.. لقد رباه ربه وأدبه. ولقد سكبت هذه التربية وهذا الأدب في قلبه السكينة والثقة والطمأنينة. فلم يعد معجلا ولا عجولا!

                                                                                                                                                                                                                                      إن أثر التربية الربانية شديد الوضوح في الفارق بين الموقفين: الموقف الذي يقول يوسف فيه للفتى: اذكرني عند ربك، والموقف الذي يقول له فيه: ارجع إلى ربك فاسأله ما بال النسوة اللاتي قطعن أيديهن، والفارق بين الموقفين بعيد..

                                                                                                                                                                                                                                      قال: ارجع إلى ربك فاسأله: ما بال النسوة اللاتي قطعن أيديهن؟ إن ربي بكيدهن عليم .

                                                                                                                                                                                                                                      لقد رد يوسف أمر الملك باستدعائه حتى يستوثق الملك من أمره، وحتى يتحقق من شأن النسوة اللاتي قطعن أيديهن.. بهذا القيد.. تذكيرا بالواقعة وملابساتها وكيد بعضهن لبعض فيها وكيدهن له بعدها.. وحتى يكون هذا التحقق في غيبته لتظهر الحقيقة خالصة ، دون أن يتدخل هو في مناقشتها.. كل أولئك لأنه واثق من نفسه، واثق من براءته، مطمئن إلى أن الحق لا يخفى طويلا، ولا يخذل طويلا.

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 1995 ] ولقد حكى القرآن عن يوسف استعمال كلمة "رب" بمدلولها الكامل، بالقياس إليه وبالقياس إلى رسول الملك إليه. فالملك رب هذا الرسول لأنه هو حاكمه الذي يدين لسلطانه. والله رب يوسف لأنه هو حاكمه الذي يدين لسلطانه..

                                                                                                                                                                                                                                      ورجع الرسول فأخبر الملك وأحضر الملك النسوة يستجوبهن - والسياق يحذف هذا لنعلمه مما يليه - :

                                                                                                                                                                                                                                      قال: ما خطبكن إذ راودتن يوسف عن نفسه؟ ..

                                                                                                                                                                                                                                      والخطب: الأمر الجلل والمصاب. فكأن الملك كان قد استقصى فعلم أمرهن قبل أن يواجههن، وهو المعتاد في مثل هذه الأحوال، ليكون الملك على بينة من الأمر وظروفه قبل الخوض فيه. فهو يواجههن مقررا الإتهام ، ومشيرا إلى أمر لهن جلل أو شأن لهن خطير:

                                                                                                                                                                                                                                      ما خطبكن إذ راودتن يوسف عن نفسه؟ .

                                                                                                                                                                                                                                      ومن هذا نعلم شيئا مما دار في حفل الاستقبال في بيت الوزير; ما قالته النسوة ليوسف وما لمحن به وأشرن إليه، من الإغراء الذي يبلغ درجة المراودة. ومن هذا نتخيل صورة لهذه الأوساط ونسائها حتى في ذلك العهد الموغل في التاريخ. فالجاهلية دائما هي الجاهلية. إنه حيثما كان الترف، وكانت القصور والحاشية، كان التخلل والتميع والفجور الناعم الذي يرتدي ثياب الأرستقراطية!

                                                                                                                                                                                                                                      وفي مثل هذه المواجهة بالاتهام في حضرة الملك، يبدو أنه لم يكن هنالك مجال للإنكار:

                                                                                                                                                                                                                                      قلن: حاش لله! ما علمنا عليه من سوء ! وهي الحقيقة التي يصعب إنكارها. ولو من مثل هؤلاء النسوة . فقد كان أمر يوسف إذن من النصاعة والوضوح بحيث لا يقوم فيه جدال.

                                                                                                                                                                                                                                      وهنا تتقدم المرأة المحبة ليوسف ، التي يئست منه، ولكنها لا تستطيع أن تتخلص من تعلقها به.. تتقدم لتقول كل شيء في صراحة:

                                                                                                                                                                                                                                      قالت امرأت العزيز: الآن حصحص الحق. أنا راودته عن نفسه. وإنه لمن الصادقين ..

                                                                                                                                                                                                                                      الآن حصحص الحق وظهر ظهورا واضحا لا يحتمل الخفاء:

                                                                                                                                                                                                                                      أنا راودته عن نفسه وإنه لمن الصادقين ..

                                                                                                                                                                                                                                      وزادت ما يكشف عن أن قلبها لم يخل من إيثاره ورجاء تقديره والتفاته بعد كل هذا الأمد; وما يشي كذلك بأن عقيدة يوسف قد أخذت طريقها إلى قلبها فآمن:

                                                                                                                                                                                                                                      ذلك ليعلم أني لم أخنه بالغيب، وأن الله لا يهدي كيد الخائنين ..

                                                                                                                                                                                                                                      وهذا الاعتراف وما بعده يصوره السياق هنا بألفاظ موحية، تشي بما وراءها من انفعالات ومشاعر. كما يشي الستار الرقيق بما وراءه في ترفع وتجمل في التعبير:

                                                                                                                                                                                                                                      أنا راودته عن نفسه، وإنه لمن الصادقين ..

                                                                                                                                                                                                                                      شهادة كاملة بنظافته وبراءته وصدقه. لا تبالي المرأة ما وراءها مما يلم بها هي ويلحق بأردانها.. فهل هو الحق وحده الذي يدفعها لهذا الإقرار الصريح في حضرة الملك والملإ؟

                                                                                                                                                                                                                                      يشي السياق بحافز آخر ، هو حرصها على أن يحترمها الرجل المؤمن الذي لم يعبأ بفتنتها الجسدية. أن يحترمها تقديرا لإيمانها ولصدقها وأمانتها في حقه عند غيبته:

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 1996 ] ذلك ليعلم أني لم أخنه بالغيب ..

                                                                                                                                                                                                                                      ثم تمضي في هذه المحاولة والعودة إلى الفضيلة التي يحبها يوسف ويقدرها:

                                                                                                                                                                                                                                      وأن الله لا يهدي كيد الخائنين ..

                                                                                                                                                                                                                                      وتمضي خطوة أخرى في هذه المشاعر الطيبة:

                                                                                                                                                                                                                                      وما أبرئ نفسي، إن النفس لأمارة بالسوء إلا ما رحم ربي، إن ربي غفور رحيم ..

                                                                                                                                                                                                                                      إنها امرأة أحبت امرأة تكبر الرجل الذي تعلقت به في جاهليتها وإسلامها، فهي لا تملك إلا أن تظل معلقة بكلمة منه، أو خاطرة ارتياح تحس أنها صدرت عنه!

                                                                                                                                                                                                                                      وهكذا يتجلى العنصر الإنساني في القصة، التي لم تسق لمجرد الفن، إنما سيقت للعبرة والعظة. وسيقت لتعالج قضية العقيدة والدعوة. ويرسم التعبير الفني فيها خفقات المشاعر وانتفاضات الوجدان رسما رشيقا رفيقا شفيفا. في واقعة كاملة تتناسق فيها جميع المؤثرات وجميع الواقعيات في مثل هذه النفوس، في ظل بيئتها ومؤثرات هذه البيئة كذلك.

                                                                                                                                                                                                                                      وإلى هنا تنتهي محنة السجن ومحنة الاتهام، وتسير الحياة بيوسف رخاء، الاختبار فيه بالنعمة لا بالشدة.

                                                                                                                                                                                                                                      وإلى هنا نقف في هذا الجزء من الظلال، وتتابع القصة سيرها في الجزء التالي إن شاء الله.

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 1997 ] انتهى الجزء الثاني عشر

                                                                                                                                                                                                                                      ويليه الجزء الثالث عشر

                                                                                                                                                                                                                                      مبدوءا بقوله تعالى:

                                                                                                                                                                                                                                      وما أبرئ نفسي إن النفس لأمارة بالسوء إلا ما رحم ربي ...

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية