ولما دخلوا على يوسف آوى إليه أخاه. قال: إني أنا أخوك، فلا تبتئس بما كانوا يعملون ..
ونجد السياق هنا يعجل بضم يوسف لأخيه في المأوى، وإطلاعه على أنه أخوه; ودعوته لأن يترك من خاطره ذكرى ما فعله إخوته به من قبل، وهي ذكرى لا بد كان يبتئس لها الصغير كلما علمها من البيت الذي كان يعيش فيه. فما كان يمكن أن تكون مكتومة عنه في وسطه في أرض كنعان .
يعجل السياق بهذا، بينما الطبيعي والمفهوم أن هذا لم يحدث فور دخولهم على يوسف . ولكن بعد أن اختلى يوسف بأخيه. ولكن هذا ولا شك كان أول خاطر ساور يوسف عند دخولهم عليه، وعند رؤيته لأخيه، بعد الفراق الطويل.
ومن ثم جعله السياق أول عمل لأنه كان أول خاطر. وهذه من دقائق التعبير في هذا الكتاب العجيب!
ويطوي السياق كذلك فترة الضيافة، وما دار فيها بين يوسف وإخوته، ليعرض مشهد الرحيل الأخير. فنطلع على تدبير يوسف ليحتفظ بأخيه، ريثما يتلقى إخوته درسا أو دروسا ضرورية لهم، وضرورية للناس في كل زمان ومكان:
فلما جهزهم بجهازهم جعل السقاية في رحل أخيه ثم أذن مؤذن أيتها العير إنكم لسارقون قالوا - وأقبلوا عليهم - ماذا تفقدون؟ قالوا: نفقد صواع الملك، ولمن جاء به حمل بعير، وأنا به زعيم. قالوا: تالله لقد علمتم ما جئنا لنفسد في الأرض، وما كنا سارقين. قالوا: فما جزاؤه إن كنتم كاذبين؟ قالوا: [ ص: 2019 ] جزاؤه من وجد في رحله فهو جزاؤه، كذلك نجزي الظالمين. فبدأ بأوعيتهم قبل وعاء أخيه ثم استخرجها من وعاء أخيه - كذلك كدنا ليوسف، ما كان ليأخذ أخاه في دين الملك، إلا أن يشاء الله، نرفع درجات من نشاء وفوق كل ذي علم عليم - قالوا: إن يسرق فقد سرق أخ له من قبل. فأسرها يوسف في نفسه ولم يبدها لهم. قال: أنتم شر مكانا. والله أعلم بما تصفون. قالوا: يا أيها العزيز إن له أبا شيخا كبيرا، فخذ أحدنا مكانه، إنا نراك من المحسنين. قال: معاذ الله أن نأخذ إلا من وجدنا متاعنا عنده. إنا إذا لظالمون ..
وهو مشهد مثير، حافل بالحركات والانفعالات والمفاجئات، كأشد ما تكون المشاهد حيوية وحركة وانفعالا، غير أن هذا صورة من الواقع يعرضها التعبير القرآني هذا العرض الحي الأخاذ.
فمن وراء الستار يدس يوسف كأس الملك - وهي عادة من الذهب - وقيل: إنها كانت تستخدم للشراب، ويستخدم قعرها الداخل المجوف من الناحية الأخرى في كيل القمح، لندرته وعزته في تلك المجاعة. يدسها في الرحل المخصص لأخيه، تنفيذا لتدبير خاص ألهمه الله له وسنعلمه بعد قليل.
ثم ينادي مناد بصوت مرتفع، في صيغة إعلان عام، وهم منصرفون:
أيتها العير إنكم لسارقون ..
ويرتاع إخوة يوسف لهذا النداء الذي يتهمهم بالسرقة - وهم أبناء يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم - فيعودون أدراجهم يتبينون الأمر المريب:
قالوا - وأقبلوا عليهم - ماذا تفقدون؟ .
قال الغلمان الذين يتولون تجهيز الرحال، أو الحراس ومنهم هذا الذي أذاع بالإعلان:
قالوا: نفقد صواع الملك ..
وأعلن المؤذن أن هناك مكافأة لمن يحضره متطوعا. وهي مكافأة ثمينة في هذه الظروف:
ولمن جاء به حمل بعير من القمح العزيز وأنا به زعيم .. أي كفيل.
ولكن القوم مستيقنون من براءتهم، فهم لم يسرقوا، وما جاءوا ليسرقوا وليجترحوا هذا الفساد الذي يخلخل الثقة والعلاقات في المجتمعات، فهم يقسمون واثقين:
قالوا: تالله لقد علمتم ما جئنا لنفسد في الأرض ..
فقد علمتم من حالنا ومظهرنا ونسبنا أننا لا نجترح هذا..
وما كنا سارقين .. أصلا فما يقع منا مثل هذا الفعل الشنيع.
قال الغلمان أو الحراس:
فما جزاؤه إن كنتم كاذبين؟ ..
وهنا ينكشف طرف التدبير الذي ألهمه الله يوسف . فقد كان المتبع في دين يعقوب : أن يؤخذ السارق رهينة أو أسيرا أو رقيقا في مقابل ما يسرق. ولما كان إخوة يوسف موقنين بالبراءة، فقد ارتضوا تحكيم شريعتهم فيمن يظهر أنه سارق. ذلك ليتم تدبير الله ليوسف وأخيه:
قالوا: جزاؤه من وجد في رحله فهو جزاؤه. كذلك نجزي الظالمين ..
وهذه هي شريعتنا نحكمها في السارق. والسارق من الظالمين.
[ ص: 2020 ] كل هذا الحوار كان على منظر ومسمع من يوسف. فأمر بالتفتيش. وأرشدته حصافته إلى أن يبدأ برحالهم قبل رحل أخيه، كي لا يثير شبهة في نتيجة التفتيش:
فبدأ بأوعيتهم قبل وعاء أخيه. ثم استخرجها من وعاء أخيه !
ويدعنا السياق نتصور الدهشة بالمفاجأة العنيفة لأبناء يعقوب الموقنين ببراءتهم، الحالفين، المتحدين.. فلا يذكر شيئا عن هذا، بل يتركه يتملاه الخيال على الصورة التي تكمل رسم المشهد بانفعالاته.. بينما يأخذ في التعقيب ببعض مرامي القصة، ريثما يفيق النظارة وأبناء يعقوب مما هم فيه:
كذلك كدنا ليوسف ..
أي كذلك دبرنا له هذا التدبير الدقيق.
ما كان ليأخذ أخاه في دين الملك ..
فلو حكم شريعة الملك ما تمكن من أخذ أخيه، إنما كان يعاقب السارق على سرقته، دون أن يستولي على أخيه كما استولى عليه بتحكيم إخوته لدينهم هم. وهذا هو تدبير الله الذي ألهم يوسف أسبابه. وهو كيد الله له. والكيد يطلق على التدبير في الخفاء للخير أو للشر سواء. وإن كان الشر قد غلب عليه. وظاهر الأمر هنا أنه شر يحل بأخيه وهو شر يحل بإخوته لإحراجهم أمام أبيه. وهو سوء - ولو مؤقتا - لأبيه. فلهذا اختار تسميته كيدا على إجمال اللفظ وبالإلماع إلى ظاهره. وهو من دقائق التعبير.
ما كان ليأخذ أخاه في دين الملك .. إلا أن يشاء الله ..
فيدبر مثل هذا التدبير الذي رأيناه.
ويتضمن التعقيب الإشارة إلى ما ناله يوسف من رفعة:
نرفع درجات من نشاء ..
وإلى ما ناله من علم، مع التنبيه إلى أن علم الله هو الأعلى:
وفوق كل ذي علم عليم ..
وهو احتراس لطيف دقيق.
ولا بد أن نقف أمام التعبير القرآني الدقيق العميق:
كذلك كدنا ليوسف.. ما كان ليأخذ أخاه في دين الملك ... ..
إن هذا النص يحدد مدلول كلمة "الدين" - في هذا الموضع - تحديدا دقيقا.. إنه يعني: نظام الملك وشرعه .. فإن نظام الملك وشرعه ما كان يجعل عقوبة السارق هو أخذه في جزاء سرقته. إنما هذا كان نظام يعقوب وشريعة دينه. وقد ارتضى إخوة يوسف تحكيم نظامهم هم وشريعتهم; فطبقها يوسف عليهم عند ما وجد صواع الملك في رحل أخيه.. وعبر القرآن الكريم عن النظام والشريعة بأنها "الدين" ..
هذا المدلول القرآني الواضح هو الذي يغيب في جاهلية القرن العشرين عن الناس جميعا. سواء منهم من يدعون أنفسهم مسلمين وغيرهم من الجاهليين!
إنهم يقصرون مدلول "الدين" على الاعتقاد والشعائر.. ويعدون كل من يعتقد في وحدانية الله وصدق رسوله ويؤمن بملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشره; ويؤدي الشعائر المكتوبة ... داخلا في "دين الله" مهما تكن دينونته بالطاعة والخضوع وإقراره بالحاكمية لغير الله من الأرباب المتفرقة في [ ص: 2021 ] الأرض.. بينما النص القرآني هنا يحدد مدلول "دين الملك" بأنه نظام الملك وشريعته. وكذلك "دين الله" فهو نظامه وشريعته..
إن مدلول "دين الله" قد هزل وانكمش حتى صار لا يعني في تصور الجماهير الجاهلية إلا الاعتقاد والشعائر.. ولكنه لم يكن كذلك يوم جاء هذا الدين منذ آدم ونوح إلى محمد عليهم صلوات الله وسلامه أجمعين.
لقد كان يعني دائما: الدينونة لله وحده; بالتزام ما شرعه، ورفض ما يشرعه غيره. وإفراده - سبحانه - بالألوهية في الأرض مثل إفراده بالألوهية في السماء; وتقرير ربوبيته وحده للناس: أي حاكميته وشرعه وسلطانه وأمره. وكان مفرق الطريق دائما بين من هم في دين "الله" ومن هم في "دين الملك" أن الأولين يدينون لنظام الله وشرعه وحده، وأن الآخرين يدينون لنظام الملك وشرعه. أو يشركون فيدينون لله في الاعتقاد والشعائر، ويدينون لغير الله في النظام والشرائع!
وهذا من المعلوم من الدين بالضرورة، ومن بديهيات العقيدة الإسلامية تماما.
وبعض المترفقين بالناس اليوم يتلمسون لهم عذرا في أنهم يجهلون مدلول كلمة "دين الله" وهم من ثم لا يصرون ولا يحاولون تحكيم شريعة الله وحدها بوصفها هي "الدين" . وأن جهلهم هذا بمدلول الدين يعفيهم من أن يكونوا جاهليين مشركين!
وأنا لا أتصور كيف أن جهل الناس ابتداء بحقيقة هذا الدين يجعلهم في دائرة هذا الدين!
إن الاعتقاد بحقيقة فرع عن معرفتها. فإذا جهل الناس حقيقة عقيدة فكيف يكونون معتنقين لها؟ وكيف يحسبون من أهلها وهم لا يعرفون ابتداء مدلولها؟
إن هذا الجهل قد يعفيهم من حساب الآخرة، أو يخفف عنهم العذاب فيها; ويلقي بتبعاتهم وأوزارهم على كاهل من لا يعلمونهم حقيقة هذا الدين وهم يعرفونها.. ولكن هذه مسألة غيبية متروك أمرها لله، والجدل في الجزاء الأخروي لأهل الجاهلية عامة ليس وراءه كبير طائل. وليس هو الذي يعنينا نحن البشر الذين ندعو إلى الإسلام في الأرض!
إن الذي يعنينا هو تقرير حقيقة الدين الذي فيه الناس اليوم.. إنه ليس دين الله قطعا. فدين الله هو نظامه وشرعه وفق النصوص القرآنية الصريحة. فمن كان في نظام الله وشرعه فهو في "دين الله" . ومن كان في نظام الملك وشرعه فهو في "دين الملك" . ولا جدال في هذا.
والذين يجهلون مدلول الدين لا يمكن أن يكونوا معتقدين بهذا الدين. لأن الجهل هنا وارد على أصل حقيقة الدين الأساسية. والجاهل بحقيقة هذا الدين الأساسية لا يمكن عقلا وواقعا أن يكون معتقدا به. إذ الاعتقاد فرع عن الإدراك والمعرفة.. وهذه بديهية..
وخير لنا من أن ندافع عن الناس - وهم في غير دين الله - ونتلمس لهم المعاذير، ونحاول أن نكون أرحم بهم من الله الذي يقرر مدلول دينه وحدوده! ..
خير لنا من هذا كله أن نشرع في تعريف الناس حقيقة مدلول "دين الله" ليدخلوا فيه.. أو يرفضوه..
هذا خير لنا وللناس أيضا.. خير لنا لأنه يعفينا من تبعة ضلال هؤلاء الجاهلين بهذا الدين، الذين ينشأ عن جهلهم به عدم اعتناقه في الحقيقة.. وخير للناس لأن مواجهتهم بحقيقة ما هم عليه - وأنهم في دين الملك [ ص: 2022 ] لا في دين الله - قد تهزهم هزة تخرجهم من الجاهلية إلى الإسلام، ومن دين الملك إلى دين الله!
كذلك فعل الرسل - عليهم صلوات الله وسلامه - وكذلك ينبغي أن يفعل الدعاة إلى الله في مواجهة الجاهلية في كل زمان ومكان..
ثم نعود إلى إخوة يوسف بعد هذا التعقيب القصير. نعود إليهم وقد حرك الحرج الذي يلاقونه كوامن حقدهم على أخي يوسف ، وعلى يوسف من قبله، فإذا هم يتنصلون من نقيصة السرقة، وينفونها عنهم، ويلقونها على هذا الفرع من أبناء يعقوب :
قالوا: إن يسرق فقد سرق أخ له من قبل ! إن يسرق فقد سرق أخ له من قبل.. وتنطلق الروايات والتفاسير تبحث عن مصداق قولهم هذا في تعلات وحكايات وأساطير. كأنهم لم يكذبوا قبل ذلك على أبيهم في يوسف ; وكأنهم لا يمكن أن يكذبوا على عزيز مصر دفعا للتهمة التي تحرجهم، وتبرؤا من يوسف وأخيه السارق، وإرواء لحقدهم القديم على يوسف وأخيه!
لقد قذفوا بها يوسف وأخاه!
فأسرها يوسف في نفسه ولم يبدها لهم ..
أسر هذه الفعلة وحفظها في نفسه، ولم يبد تأثره منها. وهو يعلم براءته وبراءة أخيه. إنما قال لهم:
أنتم شر مكانا ..
يعني أنكم بهذا القذف شر مكانا عند الله من المقذوف - وهي حقيقة لا شتمة.
والله أعلم بما تصفون .. وبحقيقة ما تقولون. وأراد بذلك قطع الجدل في الاتهام الذي أطلقوه، ولا دخل له بالموضوع! ..
وعندئذ عادوا إلى الموقف المحرج الذي وقعوا فيه. عادوا إلى الموثق الذي أخذه عليهم أبوهم: لتأتنني به إلا أن يحاط بكم .. فراحوا يسترحمون يوسف باسم والد الفتى، الشيخ الكبير، ويعرضون أن يأخذ بدله واحدا منهم إن لم يكن مطلقه لخاطر أبيه; ويستعينون في رجائه بتذكيره بإحسانه وصلاحه وبره لعله يلين:
قالوا: يا أيها العزيز إن له أبا شيخا كبيرا، فخذ أحدنا مكانه، إنا نراك من المحسنين :
ولكن يوسف كان يريد أن يلقي عليهم درسا. وكان يريد أن يشوقهم إلى المفاجأة التي يعدها لهم ولوالده وللجميع! ليكون وقعها أعمق وأشد أثرا في النفوس:
قال: معاذ الله أن نأخذ إلا من وجدنا متاعنا عنده. إنا إذا لظالمون ..
ولم يقل معاذ الله أن نأخذ بريئا بجريرة سارق. لأنه كان يعلم أن أخاه ليس بسارق. فعبر أدق تعبير يحكيه السياق هنا باللغة العربية بدقة :
[ ص: 2023 ] معاذ الله أن نأخذ إلا من وجدنا متاعنا عنده وهي الحقيقة الواقعة دون زيادة في اللفظ تحقق الاتهام أو تنفيه..
إنا إذا لظالمون ..
وما نريد أن نكون ظالمين..
وكانت هي الكلمة الأخيرة في الموقف. وعرفوا أن لا جدوى بعدها من الرجاء، فانسحبوا يفكرون في موقفهم المحرج، أمام أبيهم حين يرجعون.