ألم تر إلى الذين بدلوا نعمت الله كفرا وأحلوا قومهم دار البوار، جهنم يصلونها، وبئس القرار؟! وجعلوا لله أندادا ليضلوا عن سبيله. قل: تمتعوا فإن مصيركم إلى النار ..
ألم تر إلى هذا الحال العجيب. حال الذين وهبوا نعمة الله، ممثلة في رسول وفي دعوة إلى الإيمان، وفي قيادة إلى المغفرة، وإلى مصير في الجنة.. فإذا هم يتركون هذا كله ويأخذون بدله "كفرا" ! أولئك هم السادة القادة من كبراء قومك - مثلهم مثل السادة القادة من كل قوم - وبهذا الاستبدال العجيب قادوا قومهم إلى جهنم، وأنزلوهم بها - كما شاهدنا منذ قليل في الأقوام من قبل! - وبئس ما أحلوهم من مستقر، وبئس القرار فيها من قرار!
ألم تر إلى تصرف القوم العجيب، بعد ما رأوا ما حل بمن قبلهم - وقد عرضه القرآن عليهم عرض رؤية في مشاهد تلك القصة التي مضى بها الشوط الأول من السورة. عرضه كأنه وقع فعلا. وإنه لواقع. وما يزيد النسق القرآني على أن يعرض ما تقرر وقوعه في صورة الواقع المشهود.
لقد استبدلوا بنعمة الرسول ودعوته كفرا. وكانت دعوته إلى التوحيد، فتركوها:
وجعلوا لله أندادا ليضلوا عن سبيله ..
جعلوا لله أقرانا مماثلين يعبدونهم كعبادته، ويدينون لسلطانهم كما يدينون لسلطانه، ويعترفون لهم بما هو من خصائص ألوهيته سبحانه!
جعلوا لله هذه الأنداد ليضلوا الناس عن سبيل الله الواحد الذي لا يتعدد ولا تتفرق به السبل.
والنص يشير إلى أن كبراء القوم عمدوا عمدا إلى تضليل قومهم عن سبيل الله، باتخاذ هذه الأنداد من دون الله. فعقيدة التوحيد خطر على سلطان الطواغيت ومصالحهم في كل زمان. لا في زمن الجاهلية الأولى، ولكن في زمن كل جاهلية ينحرف الناس فيها عن التوحيد المطلق، في أية صورة من صور الانحراف، فيسلمون قيادهم إلى كبرائهم، وينزلون لهم عن حرياتهم وشخصياتهم، ويخضعون لأهوائهم ونزواتهم، ويتلقون شريعتهم من أهواء هؤلاء الكبراء لا من وحي الله.. عندئذ تصبح الدعوة إلى توحيد الله خطرا على الكبراء يتقونه بكل وسيلة. ومنها كان اتخاذ الآلهة أندادا لله في زمن الجاهلية الأولى. ومنها اليوم اتخاذ شرائع من عمل البشر، تأمر بما لم يأمر الله به، وتنهى عما لم ينه عنه الله. فإذا واضعوها في مكان الند لله في النفوس المضللة عن سبيل الله، وفي واقع الحياة!
فيا أيها الرسول "قل" للقوم: "تمتعوا" .. تمتعوا قليلا في هذه الحياة إلى الأجل الذي قدره الله. والعاقبة معروفة: فإن مصيركم إلى النار ..
[ ص: 2106 ] ودعهم. وانصرف عنهم إلى لعبادي الذين آمنوا . انصرف عنهم إلى موعظة الذين تجدي فيهم الموعظة. الذين يتقبلون نعمة الله ولا يردونها، ولا يستبدلون بها الكفر. انصرف إليهم تعلمهم كيف يشكرون النعمة بالعبادة والطاعة والبر بعباد الله:
قل لعبادي الذين آمنوا: يقيموا الصلاة، وينفقوا مما رزقناهم سرا وعلانية، من قبل أن يأتي يوم لا بيع فيه ولا خلال ..
قل لعبادي الذين آمنوا: يشكروا ربهم بإقامة الصلاة. فالصلاة أخص مظاهر الشكر لله. وينفقوا مما أنعمنا عليهم به من الرزق سرا وعلانية. سرا حيث تصان كرامة الآخذين ومروءة المعطين، فلا يكون الإنفاق تفاخرا وتظاهرا ومباهاة. وعلانية حيث تعلن الطاعة بالإنفاق وتؤدى الفريضة، وتكون القدوة الطيبة في المجتمع. وهذا وذلك متروك لحساسية الضمير المؤمن وتقديره للأحوال.
قل لهم: ينفقوا ليربو رصيدهم المدخر من قبل أن يأتي يوم لا تنمو فيه الأموال بتجارة، ولا تنفع كذلك فيه صداقة، إنما ينفع المدخر من الأعمال:
من قبل أن يأتي يوم لا بيع فيه ولا خلال ..
وهنا يفتح كتاب الكون على مصراعيه فتنطق سطوره الهائلة بنعم الله التي لا تحصى. وتتوالى صفحاته الضخمة الفسيحة بألوان هذه النعم على مد البصر: السماوات والأرض. الشمس والقمر. الليل والنهار. الماء النازل من السماء والثمار النابتة من الأرض. البحر تجري فيه الفلك، والأنهار تجري بالأرزاق.. هذه الصفحات الكونية المعروضة على الأنظار، ولكن البشر في جاهليتهم لا ينظرون ولا يقرأون ولا يتدبرون ولا يشكرون: إن الإنسان لظلوم كفار. يبدل نعمة الله كفرا، ويجعل لله أندادا، وهو الخالق الرازق المسخر الكون كله لهذا الإنسان:
الله الذي خلق السماوات والأرض، وأنزل من السماء ماء، فأخرج به من الثمرات رزقا لكم، وسخر لكم الفلك لتجري في البحر بأمره، وسخر لكم الأنهار. وسخر لكم الشمس والقمر دائبين، وسخر لكم الليل والنهار. وآتاكم من كل ما سألتموه، وإن تعدوا نعمت الله لا تحصوها، إن الإنسان لظلوم كفار ..
إنها حملة. إنها سياط تلذع الوجدان ... حملة أدواتها الهائلة السماوات والأرض والشمس والقمر والليل والنهار والبحار والأنهار والأمطار والثمار.. وسياط ذات إيقاع، وذات رنين، وذات لذع لهذا الإنسان الظلوم الكفار!
إن من معجزات هذا الكتاب أنه يربط كل مشاهد الكون وكل خلجات النفس إلى عقيدة التوحيد. ويحول كل ومضة في صفحة الكون أو في ضمير الإنسان إلى دليل أو إيحاء.. وهكذا يستحيل الكون بكل ما فيه وبكل من فيه معرضا لآيات الله، تبدع فيه يد القدرة، وتتجلى آثارها في كل مشهد فيه ومنظر، وفي كل صورة فيه وظل.. إنه لا يعرض قضية الألوهية والعبودية في جدل ذهني ولا في لاهوت تجريدي ولا في فلسفة "ميتافيزيقية" ذلك العرض الميت الجاف الذي لا يمس القلب البشري ولا يؤثر فيه ولا يوحي إليه.. إنما هو يعرض هذه القضية في مجال المؤثرات والموحيات الواقعية من مشاهد الكون، ومجالي الخلق، ولمسات الفطرة، وبديهيات الإدراك. في جمال وروعة واتساق.
والمشهد الهائل الحافل المعروض هنا لأيادي الله وآلائه، تسير فيه خطوط الريشة المبدعة وفق اتجاه الآلاء [ ص: 2107 ] بالقياس إلى الإنسان: خط السماوات والأرض. يتبعه خط الماء النازل من السماء والثمرات النابتة من الأرض بهذا الماء. فخط البحر تجري فيه الفلك والأنهار تجري بالأرزاق.. ثم تعود الريشة إلى لوحة السماء بخط جديد. خط الشمس والقمر. فخط آخر في لوحة الأرض متصل بالشمس والقمر: خط الليل والنهار.. ثم الخط الشامل الأخير الذي يلون الصفحة كلها ويظللها:
وآتاكم من كل ما سألتموه وإن تعدوا نعمت الله لا تحصوها ..
إنه الإعجاز الذي تتناسق فيه كل لمسة وكل خط وكل لون وكل ظل. في مشهد الكون ومعرض الآلاء.
أفكل هذا مسخر للإنسان؟ أفكل هذا الكون الهائل مسخر لذلك المخلوق الصغير؟ السماوات ينزل منها الماء، والأرض تتلقاه، والثمرات تخرج من بينهما. والبحر تجري فيه الفلك بأمر الله مسخرة. والأنهار تجري بالحياة والأرزاق في مصلحة الإنسان. والشمس والقمر مسخران دائبان لا يفتران. والليل والنهار يتعاقبان.. أفكل أولئك للإنسان؟ ثم لا يشكر ولا يذكر؟
إن الإنسان لظلوم كفار !
الله الذي خلق السماوات والأرض ..
وبعد ذلك يجعلون لله أندادا، فكيف يكون الظلم في التقدير، والظلم في عبادة خلق من خلقه في السماوات أو في الأرض؟
وأنزل من السماء ماء فأخرج به من الثمرات رزقا لكم ..
والزرع مورد الرزق الأول، ومصدر النعمة الظاهر. والمطر والإنبات كلاهما يتبع السنة التي فطر الله عليها هذا الكون، ويتبع الناموس الذي يسمح بنزول المطر وإنبات الزرع وخروج الثمر، وموافقة هذا كله للإنسان. وإنبات حبة واحدة يحتاج إلى القوة المهيمنة على هذا الكون كله لتسخر أجرامه وظواهره في إنبات هذه الحبة وإمدادها بعوامل الحياة من تربة وماء وأشعة وهواء. والناس يسمعون كلمة "الرزق" فلا يتبادر إلى أذهانهم إلا صورة الكسب للمال. ولكن مدلول "الرزق" أوسع من ذلك كثيرا، وأعمق من ذلك كثيرا.. إن أقل "رزق" يرزقه الكائن الإنساني في هذا الكون يقتضي تحريك أجرام هذا الكون وفق ناموس يوفر مئات الآلاف من الموافقات المتواكبة المتناسقة التي لولاها لم يكن لهذا الكائن ابتداء وجود; ولم تكن له بعد وجوده حياة وامتداد. ويكفي ما ذكر في هذه الآيات من تسخير الأجرام والظواهر ليدرك الإنسان كيف هو مكفول محمول بيد الله..
وسخر لكم الفلك لتجري في البحر بأمره ..
بما أودع في العناصر من خصائص تجري الفلك على سطح الماء; وبما أودع في الإنسان من خصائص يدرك بها ناموس الأشياء; وكلها مسخرة بأمر الله للإنسان.
وسخر لكم الأنهار ..
تجري فتجري الحياة، وتفيض فيفيض الخير، وتحمل ما تحمل في جوفها من أسماك وأعشاب وخيرات.. كلها للإنسان ولما يستخدمه الإنسان من طير وحيوان..
وسخر لكم الشمس والقمر دائبين ..
لا يستخدمهما الإنسان مباشرة كما يستخدم الماء والثمار والبحار والفلك والأنهار.. ولكنه ينتفع بآثارهما، [ ص: 2108 ] ويستمد منهما مواد الحياة وطاقاتها. فهما مسخران بالناموس الكوني ليصدر عنهما ما يستخدمه هذا الإنسان في حياته ومعاشه بل في تركيب خلاياه وتجديدها.
وسخر لكم الليل والنهار ..
سخرهما كذلك وفق حاجة الإنسان وتركيبه، وما يناسب نشاطه وراحته. ولو كان نهار دائم أو ليل دائم لفسد جهاز هذا الإنسان; فضلا على فساد ما حوله كله، وتعذر حياته ونشاطه وإنتاجه.
وليست هذه سوى الخطوط العريضة في صفحة الآلاء المديدة. ففي كل خط من النقط ما لا يحصى. ومن ثم يضم إليها على وجه الإجمال المناسب للوحة المعروضة وللجو الشامل:
وآتاكم من كل ما سألتموه ..
من مال وذرية وصحة وزينة ومتاع ...
وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها ..
فهي أكبر وأكثر من أن يحصيها فريق من البشر، أو كل البشر. وكلهم محدودون بين حدين من الزمان: بدء ونهاية. وبين حدود من العلم تابعة لحدود الزمان والمكان. ونعم الله مطلقة - فوق كثرتها - فلا يحيط بها إدراك إنسان..
وبعد ذلك كله تجعلون لله أندادا، وبعد ذلك كله لا تشكرون نعمة الله بل تبدلونها كفرا..
إن الإنسان لظلوم كفار !!!