الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      ومن الأنعام والأشجار والثمار والنحل والعسل إلى لمسة أقرب إلى أعماق النفس البشرية، لأنها في صميم ذواتهم: في أعمارهم وأرزاقهم وأزواجهم وبنيهم وأحفادهم. فهم أشد حساسية بها، وأعمق تأثرا واستجابة لها:

                                                                                                                                                                                                                                      والله خلقكم ثم يتوفاكم، ومنكم من يرد إلى أرذل العمر لكي لا يعلم بعد علم شيئا، إن الله عليم قدير. والله فضل بعضكم على بعض في الرزق، فما الذين فضلوا برادي رزقهم على ما ملكت أيمانهم فهم فيه سواء. أفبنعمة الله يجحدون؟ والله جعل لكم من أنفسكم أزواجا، وجعل لكم من أزواجكم بنين وحفدة، ورزقكم من الطيبات أفبالباطل يؤمنون وبنعمت الله هم يكفرون؟ ويعبدون من دون الله ما لا يملك لهم رزقا من السماوات والأرض شيئا ولا يستطيعون؟

                                                                                                                                                                                                                                      ..

                                                                                                                                                                                                                                      واللمسة الأولى في الحياة والوفاة، وهي متصلة بكل فرد وبكل نفس; والحياة حبيبة، والتفكر في أمرها قد يرد القلب الصلد إلى شيء من اللين، وإلى شيء من الحساسية بيد الله ونعمته وقدرته. والخوف عليها قد يستجيش وجدان التقوى والحذر والالتجاء إلى واهب الحياة. وصورة الشيخوخة حين يرد الإنسان إلى أرذل العمر، فينسى ما كان قد تعلم، ويرتد إلى مثل الطفولة من العجز والنسيان والسذاجة. هذه الصورة قد ترد النفس إلى شيء من التأمل في أطوار الحياة، وقد تغض من كبرياء المرء واعتزازه بقوته وعلمه ومقدرته. ويجيء التعقيب: إن الله عليم قدير ليرد النفس إلى هذه الحقيقة الكبيرة. أن العلم الشامل الأزلي الدائم لله، وأن القدرة الكاملة التي لا تتأثر بالزمن هي قدرة الله. وأن علم الإنسان إلى حين، وقدرته إلى أجل، وهما بعد جزئيان ناقصان محدودان.

                                                                                                                                                                                                                                      واللمسة الثانية في الرزق. والتفاوت فيه ملحوظ. والنص يرد هذا التفاوت إلى تفضيل الله لبعضهم على بعض في الرزق. ولهذا التفضيل في الرزق أسبابه الخاضعة لسنة الله. فليس شيء من ذلك جزافا ولا عبثا. وقد يكون الإنسان مفكرا عالما عاقلا، ولكن موهبته في الحصول على الرزق وتنميته محدودة، لأن له مواهب في ميادين أخرى. وقد يبدو غبيا جاهلا ساذجا، ولكن له موهبة في الحصول على المال وتنميته.

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 2183 ] والناس مواهب وطاقات. فيحسب من لا يدقق أن لا علاقة للرزق بالمقدرة، وإنما هي مقدرة خاصة في جانب من جوانب الحياة. وقد تكون بسطة الرزق ابتلاء من الله، كما يكون التضييق فيه لحكمة يريدها ويحققها بالابتلاء.. وعلى أية حال فإن التفاوت في الرزق ظاهرة ملحوظة تابعة لاختلاف في المواهب - وذلك حين تمتنع الأسباب المصطنعة الظالمة التي توجد في المجتمعات المختلة - والنص يشير إلى هذه الظاهرة التي كانت واقعة في المجتمع العربي; ويستخدمها في تصحيح بعض أوهام الجاهلية الوثنية التي يزاولونها، والتي سبقت الإشارة إليها. ذلك حين كانوا يعزلون جزءا من رزق الله الذي أعطاهم ويجعلونه لآلهتهم المدعاة. فهو يقول عنهم هنا: إنهم لا يردون جزءا من أموالهم على ما ملكت أيمانهم من الرقيق. (وكان هذا أمرا واقعا قبل الإسلام) ليصبحوا سواء في الرزق. فما بالهم يردون جزءا من مال الله الذي رزقهم إياه على آلهتهم المدعاة؟ أفبنعمة الله يجحدون؟ فيجازون النعمة بالشرك، بدل الشكر للمنعم المتفضل الوهاب؟.

                                                                                                                                                                                                                                      واللمسة الثالثة في الأنفس والأزواج والأبناء والأحفاد وتبدأ بتقرير الصلة الحية بين الجنسين: جعل لكم من أنفسكم أزواجا فهن من أنفسكم، شطر منكم، لا جنس أحط يتوارى من يبشر به ويحزن! وجعل لكم من أزواجكم بنين وحفدة والإنسان الفاني يحس الامتداد في الأبناء والحفدة. ولمس هذا الجانب في النفس يثير أشد الحساسية.. ويضم إلى هبة الأبناء والأحفاد هبة الطيبات من الرزق للمشاكلة بين الرزقين ليعقب عليها بسؤال استنكاري: أفبالباطل يؤمنون وبنعمت الله هم يكفرون؟ فيشركون به ويخالفون عن أمره.

                                                                                                                                                                                                                                      وهذه النعم كلها من عطائه. وهي آيات على ألوهيته وهي واقعة في حياتهم، تلابسهم في كل آن..

                                                                                                                                                                                                                                      أفبالباطل يؤمنون؟ وما عدا الله باطل، وهذه الآلهة المدعاة، والأوهام المدعاة كلها باطل لا وجود له، ولا حق فيه. وبنعمة الله هم يكفرون، وهي حق يلمسونه ويحسونه ويتمتعون به ثم يجحدونه.

                                                                                                                                                                                                                                      ويعبدون من دون الله ما لا يملك لهم رزقا من السماوات والأرض شيئا ولا يستطيعون ..

                                                                                                                                                                                                                                      وإنه لعجيب أن تنحرف الفطرة إلى هذا الحد، فيتجه الناس بالعبادة إلى ما لا يملك لهم رزقا، وما هو بقادر في يوم من الأيام، ولا في حال من الأحوال. ويدعون الله الخالق الرازق، وآلاؤه بين أيديهم لا يملكون إنكارها، ثم يجعلون لله الأشباه والأمثال!

                                                                                                                                                                                                                                      فلا تضربوا لله الأمثال. إن الله يعلم وأنتم لا تعلمون ..

                                                                                                                                                                                                                                      إنه ليس لله مثال، حتى تضربوا له الأمثال.

                                                                                                                                                                                                                                      ثم يضرب لهم مثلين للسيد المالك الرازق وللمملوك العاجز الذي لا يملك ولا يكسب؛ لتقريب الحقيقة الكبرى التي غفلوا عنها. حقيقة أن ليس لله مثال، وما يجوز أن يسووا في العبادة بين الله وأحد من خلقه، وكلهم لهم عبيد:

                                                                                                                                                                                                                                      ضرب الله مثلا عبدا مملوكا لا يقدر على شيء، ومن رزقناه منا رزقا حسنا فهو ينفق منه سرا وجهرا. هل يستوون؟ الحمد لله. بل أكثرهم لا يعلمون.

                                                                                                                                                                                                                                      وضرب الله مثلا رجلين: أحدهما أبكم لا يقدر على شيء وهو كل على مولاه أينما يوجهه لا يأت بخير. هل يستوي هو ومن يأمر بالعدل وهو على صراط مستقيم؟

                                                                                                                                                                                                                                      والمثل الأول مأخوذ من واقعهم، فقد كان لهم عبيد مملوكون، لا يملكون شيئا ولا يقدرون على شيء. وهم لا يسوون بين العبد المملوك العاجز والسيد المالك المتصرف. فكيف يسوون بين سيد العباد ومالكهم وبين أحد أو شيء مما خلق. وكل مخلوقاته له عبيد؟

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 2184 ] والمثل الثاني يصور الرجل الأبكم الضعيف البليد الذي لا يدري شيئا ولا يعود بخير. والرجل القوي المتكلم الآمر بالعدل، العامل المستقيم على طريق الخير.. ولا يسوي عاقل بين هذا وذاك. فكيف تمكن التسوية بين صنم أو حجر، وبين الله سبحانه وهو القادر العليم الآمر بالمعروف، الهادي إلى الصراط المستقيم؟

                                                                                                                                                                                                                                      وبهذين المثلين يختم الشوط الذي بدأ بأمر الله للناس ألا يتخذوا إلهين اثنين، وختم بالتعجيب من أمر قوم يتخذون إلهين اثنين!

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية