الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجا. قيما. لينذر بأسا شديدا من لدنه، ويبشر المؤمنين الذين يعملون الصالحات أن لهم أجرا حسنا ماكثين فيه أبدا، وينذر الذين قالوا اتخذ الله ولدا، ما لهم به من علم ولا لآبائهم. كبرت كلمة تخرج من أفواههم. إن يقولون إلا كذبا. فلعلك باخع نفسك على آثارهم إن لم يؤمنوا بهذا الحديث أسفا.. إنا جعلنا ما على الأرض زينة لها لنبلوهم أيهم أحسن عملا، وإنا لجاعلون ما عليها صعيدا جرزا ...
بدء فيه استقامة، وفيه صرامة. وفيه حمد لله على إنزاله الكتاب على عبده بهذه الاستقامة، لا عوج فيه ولا التواء، ولا مداراة ولا مداورة: لينذر بأسا شديدا من لدنه .
ومنذ الآية الأولى تتضح المعالم، فلا لبس في العقيدة ولا غموض: الله هو الذي أنزل الكتاب، والحمد له على تنزيله. ومحمد هو عبد لله. فالكل إذن عبيد، وليس لله من ولد ولا شريك.
والكتاب لا عوج له.. قيما .. يتكرر معنى الاستقامة مرة عن طريق نفي العوج، ومرة عن طريق إثبات الاستقامة. توكيدا لهذا المعنى وتشديدا فيه.
والغرض من إنزال الكتاب واضح صريح: لينذر بأسا شديدا من لدنه، ويبشر المؤمنين الذين يعملون الصالحات أن لهم أجرا حسنا .
ويغلب ظل الإنذار الصارم في التعبير كله. فهو يبدأ به على وجه الإجمال: لينذر بأسا شديدا من لدنه . ثم يعود إليه على وجه التخصيص: وينذر الذين قالوا اتخذ الله ولدا .. وبينهما تبشير للمؤمنين الذين يعملون الصالحات بهذا القيد الذي يجعل للإيمان دليله العملي الظاهر المستند إلى الواقع الأكيد.
[ ص: 2260 ] ثم يأخذ في كشف المنهج الفاسد الذي يتخذونه للحكم على أكبر القضايا وأخطرها. قضية العقيدة:
ما لهم به من علم ولا لآبائهم ..
فما أشنع وما أفظع أن يفضوا بهذا القول بغير علم، هكذا جزافا:
كبرت كلمة تخرج من أفواههم إن يقولون إلا كذبا ..
وتشترك الألفاظ بنظمها في العبرة وجرسها في النطق في تفظيع هذه الكلمة التي يقولونها. فهو يبدأ بكلمة كبرت لتجبه السامع بالضخامة والفظاعة وتملأ الجو بهما. ويجعل الكلمة الكبيرة تمييزا لضميرها في الجملة: كبرت كلمة زيادة في توجيه الانتباه إليها. ويجعل هذه الكلمة تخرج من أفواههم خروجا كأنما تنطلق منها جزافا وتندفع منها اندفاعا تخرج من أفواههم . وتشارك لفظة أفواههم بجرسها الخاص في تكبير هذه الكلمة وتفظيعها، فالناطق بها يفتح فاه في مقطعها الأول بما فيه من مد: "أفوا ... " ثم تتوالى الهاءان فيمتلئ الفم بهما قبل أن يطبق على الميم في نهاية اللفظة: أفواههم . وبذلك يشترك نظم الجملة وجرس اللفظة في تصوير المعنى ورسم الظل. ويعقب على ذلك بالتوكيد عن طريق النفي والاستثناء: إن يقولون إلا كذبا :
ويختار للنفي كلمة: " إن " لا كلمة "ما" لأن في الأولى صرامة بالسكون الواضح، وفي لفظ "ما" شيء من الليونة بالمد.. وذلك لزيادة التشديد في الاستنكار، ولزيادة التوكيد لكذب هذه الكلمة الكبيرة..
وفيما يشبه الإنكار يخاطب الرسول - صلى الله عليه وسلم - الذي كان يحزنه أن يكذب قومه بالقرآن ويعرضوا عن الهدى، ويذهبوا في الطريق الذي يعلم - صلى الله عليه وسلم - أنه مود بهم إلى الهلاك.. فيما يشبه الإنكار يقول للرسول - صلى الله عليه وسلم - :
فلعلك باخع نفسك على آثارهم. إن لم يؤمنوا بهذا الحديث. أسفا !
أي فلعلك قاتل نفسك أسفا وحزنا عليهم، إن لم يؤمنوا بهذا القرآن. وما يستحق هؤلاء أن تحزن عليهم وتأسف. فدعهم فقد جعلنا ما على الأرض من زخرف ومتاع، وأموال وأولاد.. جعلناه اختبارا وامتحانا لأهلها، ليتبين من يحسن منهم العمل في الدنيا، ويستحق نعمتها، كما يستحق نعيم الآخرة:
إنا جعلنا ما على الأرض زينة لها لنبلوهم أيهم أحسن عملا .
والله يعلم. ولكنه يجزي على ما يصدر من العباد فعلا، وما يتحقق منهم في الحياة عملا. ويسكت عمن لا يحسنون العمل فلا يذكرهم لأن مفهوم التعبير واضح.
ونهاية هذه الزينة محتومة. فستعود الأرض مجردة منها، وسيهلك كل ما عليها، فتصبح قبل يوم القيامة سطحا أجرد خشنا جدبا:
وإنا لجاعلون ما عليها صعيدا جرزا ..
وفي التعبير صرامة، وفي المشهد الذي يرسمه كذلك. وكلمة جرزا تصور معنى الجدب بجرسها اللفظي. كما أن كلمة صعيدا ترسم مشهد الاستواء والصلادة!
ثم تجيء قصة أصحاب الكهف، فتعرض نموذجا للإيمان في النفوس المؤمنة. كيف تطمئن به، وتؤثره على زينة الأرض ومتاعها، وتلجأ به إلى الكهف حين يعز عليها أن تعيش به مع الناس. وكيف يرعى الله هذه [ ص: 2261 ] النفوس المؤمنة، ويقيها الفتنة، ويشملها بالرحمة.
وفي القصة روايات شتى، وأقاويل كثيرة. فقد وردت في بعض الكتب القديمة وفي الأساطير بصور شتى. ونحن نقف فيها عند حد ما جاء في القرآن، فهو المصدر الوحيد المستيقن. ونطرح سائر الروايات والأساطير التي اندست في التفاسير بلا سند صحيح. وبخاصة أن القرآن الكريم قد نهى عن استفتاء غير القرآن فيها، وعن المراء فيها والجدل رجما بالغيب.
وقد ورد في سبب نزولها ونزول قصة ذي القرنين أن اليهود أغروا أهل مكة بسؤال الرسول - صلى الله عليه وسلم - عنهما وعن الروح. أو أن أهل مكة طلبوا إلى اليهود أن يصوغوا لهم أسئلة يختبرون بها الرسول - صلى الله عليه وسلم - وقد يكون هذا كله أو بعضه صحيحا. فقد جاء في أول قصة ذي القرنين : ويسألونك عن ذي القرنين. قل: سأتلو عليكم منه ذكرا ولكن لم تجئ عن قصة أصحاب الكهف مثل هذه الإشارة. فنحن نمضي في القصة لذاتها وهي واضحة الارتباط بمحور السورة كما بينا.
إن الطريقة التي اتبعت في عرض هذه القصة من الناحية الفنية هي طريقة التلخيص الإجمالي أولا، ثم العرض التفصيلي أخيرا. وهي تعرض في مشاهد وتترك بين المشاهد فجوات يعرف ما فيها من السياق . وهي تبدأ هكذا:
أم حسبت أن أصحاب الكهف والرقيم كانوا من آياتنا عجبا. إذ أوى الفتية إلى الكهف، فقالوا: ربنا آتنا من لدنك رحمة، وهيئ لنا من أمرنا رشدا. فضربنا على آذانهم في الكهف سنين عددا، ثم بعثناهم لنعلم أي الحزبين أحصى لما لبثوا أمدا .
وهو تلخيص يجمل القصة، ويرسم خطوطها الرئيسية العريضة. فنعرف أن أصحاب الكهف فتية - لا نعلم عددهم - أووا إلى الكهف وهم مؤمنون. وأنه ضرب على آذانهم في الكهف - أي ناموا - سنين معدودة - لا نعلم عددها - وأنهم بعثوا من رقدتهم الطويلة. وأنه كان هناك فريقان يتجادلان في شأنهم ثم لبثوا في الكهف فبعثوا ليتبين أي الفريقين أدق إحصاء. وأن قصتهم على غرابتها ليست بأعجب آيات الله. وفي صفحات هذا الكون من العجائب وفي ثناياه من الغرائب ما يفوق قصة أصحاب الكهف والرقيم .
وبعد هذا التلخيص المشوق للقصة يأخذ السياق في التفصيل. ويبدأ هذا التفصيل بأن ما سيقصه الله منها هو فصل الخطاب في الروايات المتضاربة، وهو الحق اليقين:
نحن نقص عليك نبأهم بالحق. إنهم فتية آمنوا بربهم وزدناهم هدى. وربطنا على قلوبهم إذ قاموا فقالوا: ربنا رب السماوات والأرض، لن ندعو من دونه إلها. لقد قلنا إذا شططا. هؤلاء قومنا اتخذوا من دونه آلهة. لولا يأتون عليهم بسلطان بين. فمن أظلم ممن افترى على الله كذبا؟ وإذ اعتزلتموهم وما يعبدون - إلا الله - فأووا إلى الكهف، ينشر لكم ربكم من رحمته، ويهيئ لكم من أمركم مرفقا .
هذا هو المشهد الأول من مشاهد القصة. إنهم فتية آمنوا بربهم .. وزدناهم هدى بإلهامهم كيف [ ص: 2262 ] يدبرون أمرهم. وربطنا على قلوبهم فإذا هي ثابتة راسخة، مطمئنة إلى الحق الذي عرفت. معتزة بالإيمان الذي اختارت إذ قاموا .. والقيام حركة تدل على العزم والثبات. فقالوا: ربنا رب السماوات والأرض .. فهو رب هذا الكون كله لن ندعو من دونه إلها .. فهو واحد بلا شريك. لقد قلنا إذا شططا .. وتجاوزنا الحق وحدنا عن الصواب.
ثم يلتفتون إلى ما عليه قومهم فيستنكرونه، ويستنكرون المنهج الذي يسلكونه في تكوين العقيدة:
هؤلاء قومنا اتخذوا من دونه آلهة. لولا يأتون عليهم بسلطان بين؟ ..
فهذا هو طريق الاعتقاد: أن يكون للإنسان دليل قوي يستند إليه، وبرهان له سلطان على النفوس والعقول. وإلا فهو الكذب الشنيع، لأنه الكذب على الله: " فمن أظلم ممن افترى على الله كذبا؟ " ..
وإلى هنا يبدو موقف الفتية واضحا صريحا حاسما، لا تردد فيه ولا تلعثم.. إنهم فتية، أشداء في أجسامهم، أشداء في إيمانهم. أشداء في استنكار ما عليه قومهم..
ولقد تبين الطريقان، واختلف المنهجان، فلا سبيل إلى الالتقاء، ولا للمشاركة في الحياة. ولا بد من الفرار بالعقيدة. إنهم ليسوا رسلا إلى قومهم فيواجهوهم بالعقيدة الصحيحة ويدعوهم إليها، ويتلقوا ما يتلقاه الرسل. إنما هم فتية تبين لهم الهدى في وسط ظالم كافر، ولا حياة لهم في هذا الوسط إن هم أعلنوا عقيدتهم وجاهروا بها، وهم لا يطيقون كذلك أن يداروا القوم ويداروهم، ويعبدوا ما يعبدون من الآلهة على سبيل التقية ويخفوا عبادتهم لله. والأرجح أن أمرهم قد كشف. فلا سبيل لهم إلا أن يفروا بدينهم إلى الله، وأن يختاروا الكهف على زينة الحياة. وقد أجمعوا أمرهم فهم يتناجون بينهم:
وإذ اعتزلتموهم وما يعبدون - إلا الله - فأووا إلى الكهف ينشر لكم ربكم من رحمته، ويهيئ لكم من أمركم مرفقا ..
وهنا ينكشف العجب في شأن القلوب المؤمنة. فهؤلاء الفتية الذين يعتزلون قومهم، ويهجرون ديارهم، ويفارقون أهلهم. ويتجردون من زينة الأرض ومتاع الحياة. هؤلاء الذين يأوون إلى الكهف الضيق الخشن المظلم. هؤلاء يستروحون رحمة الله. ويحسون هذه الرحمة ظليلة فسيحة ممتدة. ينشر لكم ربكم من رحمته ولفظة ينشر تلقي ظلال السعة والبحبوحة والانفساح. فإذا الكهف فضاء فسيح رحيب وسيع تنتشر فيه الرحمة وتتسع خيوطها وتمتد ظلالها، وتشملهم بالرفق واللين والرخاء.. إن الحدود الضيقة لتنزاح، وإن الجدران الصلدة لترق، وإن الوحشة الموغلة لتشف، فإذا الرحمة والرفق والراحة والارتفاق.
إنه الإيمان..
وما قيمة الظواهر؟ وما قيمة القيم والأوضاع والمدلولات التي تعارف عليها الناس في حياتهم الأرضية؟ إن هنالك عالما آخر في جنبات القلب المغمور بالإيمان، المأنوس بالرحمن. عالما تظلله الرحمة والرفق والاطمئنان والرضوان.
ويسدل الستار على هذا المشهد. ليرفع على مشهد آخر والفتية في الكهف وقد ضرب الله عليهم النعاس.