ويقول الإنسان: أإذا ما مت لسوف أخرج حيا؟ أولا يذكر الإنسان أنا خلقناه من قبل ولم يك شيئا؟ فوربك لنحشرنهم والشياطين، ثم لنحضرنهم حول جهنم جثيا. ثم لننزعن من كل شيعة أيهم أشد على الرحمن عتيا. ثم لنحن أعلم بالذين هم أولى بها صليا. وإن منكم إلا واردها كان على ربك حتما مقضيا. ثم ننجي الذين اتقوا ونذر الظالمين فيها جثيا .
يبدأ المشهد بذكر ما يقوله الإنسان عن البعث. ذلك أن هذه المقولة قالتها صنوف كثيرة من البشر في عصور مختلفة; فكأنما هي شبهة الإنسان واعتراضه المتكرر في جميع الأجيال:
ويقول الإنسان: أإذا ما مت لسوف أخرج حيا؟ ..
وهو اعتراض منشؤه غفلة الإنسان عن نشأته الأولى. فأين كان؟ وكيف كان؟ إنه لم يكن ثم كان; والبعث أقرب إلى التصور من النشأة الأولى لو أنه تذكر:
أولا يذكر الإنسان أنا خلقناه من قبل ولم يك شيئا؟ .
ثم يعقب على هذا الإنكار والاستنكار بقسم تهديدي. يقسم الله تعالى بنفسه وهو أعظم قسم وأجله; أنهم سيحشرون - بعد البعث فهذا أمر مفروغ منه:
فوربك لنحشرنهم .. ولن يكونوا وحدهم. فلنحشرنهم والشياطين فهم والشياطين سواء. والشياطين هم الذين يوسوسون بالإنكار، وبينهما صلة التابع والمتبوع، والقائد والمقود..
وهنا يرسم لهم صورة حسية وهم جاثون حول جهنم جثو الخزي والمهانة: ثم لنحضرنهم حول جهنم جثيا ..
وهي صورة رهيبة وهذه الجموع التي لا يحصيها العد محشورة محضرة إلى جهنم جاثية حولها، تشهد هولها ويلفحها حرها، وتنتظر في كل لحظة أن تؤخذ فتلقى فيها. وهم جاثون على ركبهم في ذلة وفزع..
وهو مشهد ذليل للمتجبرين المتكبرين، يليه مشهد النزع والجذب لمن كانوا أشد عتوا وتجبرا:
[ ص: 2318 ] ثم لننزعن من كل شيعة أيهم أشد على الرحمن عتيا .. وفي اللفظ تشديد، ليرسم بظله وجرسه صورة لهذا الانتزاع; تتبعها صورة القذف في النار، وهي الحركة التي يكملها الخيال!
وإن الله ليعلم من هم أولى بأن يصلوها، فلا يؤخذ أحد جزافا من هذه الجموع التي لا تحصى. والتي أحصاها الله فردا فردا:
ثم لنحن أعلم بالذين هم أولى بها صليا .. فهم المختارون ليكونوا طليعة المقذوفين!
وإن المؤمنين ليشهدون العرض الرهيب: وإن منكم إلا واردها كان على ربك حتما مقضيا فهم يردون فيدنون ويمرون بها وهي تتأجج وتتميز وتتلمظ; ويرون العتاة ينزعون ويقذفون. ثم ننجي الذين اتقوا فتزحزح عنهم وينجون منها لا يكادون! ونذر الظالمين فيها جثيا ..
ومن هذا المشهد المفزع الذي يجثو فيه العتاة جثو الخزي والمهانة، ويروح فيه المتقون ناجين. ويبقى الظالمون فيه جاثين.. من هذا المشهد إلى مشهد في الدنيا يتعالى فيه الكفار على المؤمنين، ويعيرونهم بفقرهم، ويعتزون بثرائهم ومظاهرهم وقيمهم في عالم الفناء:
وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات. قال الذين كفروا للذين آمنوا: أي الفريقين خير مقاما وأحسن نديا؟ ..
إنها النوادي الفخمة والمجامع المترفة; والقيم التي يتعامل بها الكبراء والمترفون في عصور الفساد. وإلى جانبها تلك المجتمعات المتواضعة المظهر والمنتديات الفقيرة إلا من الإيمان. لا أبهة ولا زينة، ولا زخرف، ولا فخامة.. هذه وتلك تتقابلان في هذه الأرض وتجتمعان!
وتقف الأولى بمغرياتها الفخمة الضخمة: تقف بمالها وجمالها. بسلطانها وجاهها. بالمصالح تحققها، والمغانم توفرها، وباللذائذ والمتاع. وتقف الثانية بمظهرها الفقير المتواضع، تهزأ بالمال والمتاع، وتسخر من الجاه والسلطان; وتدعو الناس إليها، لا باسم لذة تحققها، ولا مصلحة توفرها، ولا قربى من حاكم ولا اعتزاز بذي سلطان. ولكن باسم العقيدة تقدمها إليهم مجردة من كل زخرف، عاطلة من كل زينة، معتزة بعزة الله دون سواه.. لا بل تقدمها إليهم ومعها المشقة والجهد والجهاد والاستهتار، لا تملك أن تأجرهم على ذلك كله شيئا في هذه الأرض، إنما هو القرب من الله، وجزاؤه الأوفى يوم الحساب.
وهؤلاء هم سادة قريش تتلى عليهم آيات الله - على عهد الرسول صلى الله عليه وسلم - فيقولون للمؤمنين الفقراء: أي الفريقين خير مقاما وأحسن نديا؟ الكبراء الذين لا يؤمنون بمحمد ، أم الفقراء الذين يلتفون حوله. أيهم خير مقاما وأحسن ناديا؟ النضير بن الحارث وعمرو بن هشام والوليد بن المغيرة وإخوانهم من السادة، أم بلال وعمار وإخوانهم من المعدمين؟ أفلو كان ما يدعو إليه وخباب محمد خيرا أفكان أتباعه يكونون هم هؤلاء النفر الذين لا قيمة لهم في مجتمع قريش ولا خطر؟ وهم يجتمعون في بيت فقير عاطل كبيت خباب؟ ويكون معارضوه هم أولئك أصحاب النوادي الفخمة الضخمة والمكانة الاجتماعية البارزة؟.
إنه منطق الأرض. منطق المحجوبين عن الآفاق العليا في كل زمان ومكان. وإنها لحكمة الله أن تقف العقيدة مجردة من الزينة والطلاء، عاطلة من عوامل الإغراء. ليقبل عليها من يريدها لذاتها خالصة لله من دون الناس، ومن دون ما تواضعوا عليه من قيم ومغريات; وينصرف عنها من يبتغي المطامع والمنافع، ومن يشتهي الزينة والزخرف، ومن يطلب المال والمتاع.
[ ص: 2319 ] ويعقب السياق على قولة الكفار التياهين، المتباهين بما هم فيه من مقام وزينة بلمسة وجدانية ترجع القلب إلى مصارع الغابرين، على ما كانوا فيه من مقام كريم ونعمة كانوا فيها فاكهين:
وكم أهلكنا قبلهم من قرن هم أحسن أثاثا ورئيا ..
فلم ينفعهم أثاثهم ورياشهم وزينتهم ومظهرهم. ولم يعصمهم شيء من الله حين كتب عليهم الهلاك.
ألا إن هذا الإنسان لينسى. ولو تذكر وتفكر ما أخذه الغرور بمظهر; ومصارع الغابرين من حوله تلفته بعنف وتنذره وتحذره، وهو سادر فيما هو فيه، غافل عما ينتظره مما لقيه من كانوا قبله وكانوا أشد قوة وأكثر أموالا وأولادا.
يعقب السياق بتلك اللفتة ثم يأمر الرسول - صلى الله عليه وسلم - أن يدعو عليهم في صورة مباهلة - بأن من كان من الفريقين في الضلالة فليزده الله مما هو فيه; حتى يأتي وعده في الدنيا أو في الآخرة:
قل: من كان في الضلالة فليمدد له الرحمن مدا، حتى إذا رأوا ما يوعدون إما العذاب وإما الساعة فسيعلمون من هو شر مكانا وأضعف جندا، ويزيد الله الذين اهتدوا هدى والباقيات الصالحات خير عند ربك ثوابا وخير مردا ..
فهم يزعمون أنهم أهدى من أتباع محمد - صلى الله عليه وسلم - لأنهم أغنى وأبهى. فليكن! وليدع محمد ربه أن يزيد الضالين من الفريقين ضلالا، وأن يزيد المهتدين منهما اهتداء.. حتى إذا وقع ما يعدهم; وهو لا يعدو أن يكون عذاب الضالين في الدنيا بأيدي المؤمنين، أو عذابهم الأكبر يوم الدين - فعندئذ سيعرفون: أي الفريقين شر مكانا وأضعف جندا. ويومئذ يفرح المؤمنون ويعتزون والباقيات الصالحات خير عند ربك ثوابا وخير مردا خير من كل ما يتباهى به أهل الأرض ويتيهون.