قد أفلح المؤمنون، الذين هم في صلاتهم خاشعون، والذين هم عن اللغو معرضون، والذين هم للزكاة فاعلون، والذين هم لفروجهم حافظون. إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين، فمن ابتغى وراء ذلك فأولئك هم العادون. والذين هم لأماناتهم وعهدهم راعون، والذين هم على صلواتهم يحافظون.. أولئك هم الوارثون. الذين يرثون الفردوس هم فيها خالدون .
إنه الوعد الصادق، بل القرار الأكيد بفلاح المؤمنين. وعد الله لا يخلف الله وعده; وقرار الله لا يملك أحد رده. الفلاح في الدنيا والفلاح في الآخرة. فلاح الفرد المؤمن وفلاح الجماعة المؤمنة. الفلاح الذي يحسه المؤمن بقلبه ويجد مصداقه في واقع حياته; والذي يشمل ما يعرفه الناس من معاني الفلاح، وما لا يعرفونه مما يدخره الله لعباده المؤمنين.
فمن هم المؤمنون الذين كتب الله لهم هذه الوثيقة، ووعدهم هذا الوعد، وأعلن عن فلاحهم هذا الإعلان؟ من هم المؤمنون المكتوب لهم الخير والنصر والسعادة والتوفيق والمتاع الطيب في الأرض؟ والمكتوب لهم الفوز والنجاة، والثواب والرضوان في الآخرة؟ ثم ما شاء الله غير هذا وذلك في الدارين مما لا يعلمه إلا الله؟
[ ص: 2454 ] من هم المؤمنون. الوارثون. الذين يرثون الفردوس هم فيها خالدون؟
إنهم هؤلاء الذين يفصل السياق صفاتهم بعد آية الافتتاح:
الذين هم في صلاتهم خاشعون .
والذين هم عن اللغو معرضون .
والذين هم للزكاة فاعلون .
والذين هم لفروجهم حافظون إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم ... إلخ.
والذين هم لأماناتهم وعهدهم راعون .
والذين هم على صلواتهم يحافظون .
فما قيمة هذه الصفات؟
قيمتها أنها ترسم شخصية المسلم في أفقها الأعلى. أفق محمد - صلى الله عليه وسلم - رسول الله، وخير خلق الله، الذي أدبه ربه فأحسن تأديبه، والذي شهد له في كتابه بعظمة خلقه: وإنك لعلى خلق عظيم .. فلقد رضي الله عنها عن خلق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالت: كان خلقه القرآن. ثم قرأت. عائشة قد أفلح المؤمنون حتى والذين هم على صلواتهم يحافظون . وقالت. هكذا كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - . سئلت
ومرة أخرى.. ما قيمة هذه الصفات في ذاتها؟ ما قيمتها في حياة الفرد، وفي حياة الجماعة، وفي حياة النوع الإنساني؟
الذين هم في صلاتهم خاشعون .. تستشعر قلوبهم رهبة الموقف في الصلاة بين يدي الله، فتسكن وتخشع، فيسري الخشوع منها إلى الجوارح والملامح والحركات. ويغشى أرواحهم جلال الله في حضرته، فتختفي من أذهانهم جميع الشواغل، ولا تشتغل بسواه وهم مستغرقون في الشعور به مشغولون بنجواه. ويتوارى عن حسهم في تلك الحضرة القدسية كل ما حولهم وكل ما بهم، فلا يشهدون إلا الله، ولا يحسون إلا إياه، ولا يتذوقون إلا معناه. ويتطهر وجدانهم من كل دنس، وينفضون عنهم كل شائبة; فما يضمون جوانحهم على شيء من هذا مع جلال الله.. عندئذ تتصل الذرة التائهة بمصدرها، وتجد الروح الحائرة طريقها، ويعرف القلب الموحش مثواه. وعندئذ تتضاءل القيم والأشياء والأشخاص إلا ما يتصل منها بالله.
والذين هم عن اللغو معرضون .. لغو القول، ولغو الفعل، ولغو الاهتمام والشعور. إن للقلب المؤمن ما يشغله عن اللغو واللهو والهذر.. له ما يشغله من ذكر الله، وتصور جلاله وتدبر آياته في الأنفس والآفاق. وكل مشهد من مشاهد الكون يستغرق اللب، ويشغل الفكر، ويحرك الوجدان.. وله ما يشغله من تكاليف العقيدة: تكاليفها في تطهير القلب، وتزكية النفس وتنقية الضمير. وتكاليفها في السلوك، ومحاولة الثبات على المرتقى العالي الذي يتطلبه الإيمان. وتكاليفها في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وصيانة حياة الجماعة من الفساد والانحراف. وتكاليفها في الجهاد لحمايتها ونصرتها وعزتها، والسهر عليها من كيد الأعداء.. وهي تكاليف لا تنتهي، ولا يغفل عنها المؤمن، ولا يعفي نفسه منها، وهي مفروضة عليه فرض عين أو [ ص: 2455 ] فرض كفاية. وفيها الكفاية لاستغراق الجهد البشري والعمر البشري. والطاقة البشرية محدودة. وهي إما أن تنفق في هذا الذي يصلح الحياة وينميها ويرقيها; وإما أن تنفق في الهذر واللغو واللهو. والمؤمن مدفوع بحكم عقيدته إلى إنفاقها في البناء والتعمير والإصلاح.
ولا ينفي هذا أن يروح المؤمن عن نفسه في الحين بعد الحين. ولكن هذا شيء آخر غير الهذر واللغو والفراغ..
والذين هم للزكاة فاعلون .. بعد إقبالهم على الله، وانصرافهم عن اللغو في الحياة.. والزكاة طهارة للقلب والمال: طهارة للقلب من الشح، واستعلاء على حب الذات، وانتصار على وسوسة الشيطان بالفقر، وثقة بما عند الله من العوض والجزاء. وطهارة للمال تجعل ما بقي منه بعدها طيبا حلالا، لا يتعلق به حق - إلا في حالات الضرورة - ولا تحوم حوله شبهة. وهي صيانة للجماعة من الخلل الذي ينشئه العوز في جانب والترف في جانب، فهي تأمين اجتماعي للأفراد جميعا، وهي ضمان اجتماعي للعاجزين، وهي وقاية للجماعة كلها من التفكك والانحلال.
والذين هم لفروجهم حافظون . وهذه طهارة الروح والبيت والجماعة. ووقاية النفس والأسرة والمجتمع. بحفظ الفروج من دنس المباشرة في غير حلال، وحفظ القلوب من التطلع إلى غير حلال; وحفظ الجماعة من انطلاق الشهوات فيها بغير حساب، ومن فساد البيوت فيها والأنساب.
والجماعة التي تنطلق فيها الشهوات بغير حساب جماعة معرضة للخلل والفساد. لأنه لا أمن فيها للبيت، ولا حرمة فيها للأسرة. والبيت هو الوحدة الأولى في بناء الجماعة، إذ هو المحضن الذي تنشأ فيه الطفولة وتدرج; ولا بد له من الأمن والاستقرار والطهارة، ليصلح محضنا ومدرجا، وليعيش فيه الوالدان مطمئنا كلاهما للآخر، وهما يرعيان ذلك المحضن. ومن فيه من فراخ!
والجماعة التي تنطلق فيها الشهوات بغير حساب جماعة قذرة هابطة في سلم البشرية، فالمقياس الذي لا يخطئ للارتقاء البشري هو تحكم الإرادة الإنسانية وغلبتها. وتنظيم الدوافع الفطرية في صورة مثمرة نظيفة، لا يخجل الأطفال معها من الطريقة التي جاءوا بها إلى هذا العالم، لأنها طريقة نظيفة معروفة، يعرف فيها كل طفل أباه. لا كالحيوان الهابط الذي تلقى الأنثى فيه الذكر للقاح، وبدافع اللقاح، ثم لا يعرف الفصيل كيف جاء ولا من أين جاء!.
والقرآن هنا يحدد المواضع النظيفة التي يحل للرجل أن يودعها بذور الحياة: إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين .. ومسألة الأزواج لا تثير شبهة ولا تستدعي جدلا. فهي النظام المشروع المعروف. أما مسألة ملك اليمين فقد تستدعي شيئا من البيان.
ولقد فصلت القول في مسألة الرق في الجزء الثاني من الظلال، وبينت هناك أن الإسلام قد جاء والرق نظام عالمي. واسترقاق أسرى الحرب نظام دولي. فما كان يمكن والإسلام مشتبك في حروب مع أعدائه الواقفين بالقوة المادية في طريقه أن يلغي هذا النظام من جانب واحد، فيصبح أسارى المسلمين رقيقا عند أعدائه، بينما هو يحرر أسارى الأعداء.. فجفف الإسلام كل منابع الرق - عدا أسرى الحرب - إلى أن يتاح للبشرية وضع نظام دولي للتعامل بالمثل في مسألة الأسرى.
[ ص: 2456 ] ومن هنا كان يجيء إلى المعسكر الإسلامي أسيرات. تقضي قاعدة التعامل بالمثل باسترقاقهن ومن مقضيات هذا الاسترقاق ألا يرتفعن إلى مستوى الزوجات بالنكاح. فأباح الإسلام حينئذ الاستمتاع بهن بالتسري لمن يملكهن خاصة إلا أن يتحررن لسبب من الأسباب الكثيرة التي جعلها الإسلام سبلا لتحرير الرقيق.
ولعل هذا الاستمتاع ملحوظ فيه تلبية الحاجة الفطرية للأسيرات أنفسهن، كي لا يشبعنها عن طريق الفوضى القذرة في المخالطة الجنسية كما يقع في زماننا هذا مع أسيرات الحرب بعد معاهدات هذه الفوضى التي لا يحبها الإسلام! وذلك حتى يأذن الله فيرتفعن إلى مرتبة الحرية. والأمة تصل إلى مرتبة الحرية بوسائل كثيرة.. إذا ولدت لسيدها ثم مات عنها. وإذا أعتقها هو تطوعا أو في كفارة. وإذا طلبت أن تكاتبه على مبلغ من المال فافتدت به رقبتها. وإذا ضربها على وجهها فكفارتها عتقها.. إلخ . تحريم الرقيق -
وعلى أية حال فقد كان الاسترقاق في الحرب ضرورة وقتية، هي ضرورة المعاملة بالمثل في عالم كله يسترق الأسرى، ولم يكن جزءا من النظام الاجتماعي في الإسلام.
فمن ابتغى وراء ذلك فأولئك هم العادون .. وراء الزوجات وملك اليمين، ولا زيادة بطريقة من الطرق. فمن ابتغى وراء ذلك فقد عدا الدائرة المباحة، ووقع في الحرمات، واعتدى على الأعراض التي لم يستحلها بنكاح ولا بجهاد. وهنا تفسد النفس لشعورها بأنها ترعى في كلأ غير مباح، ويفسد البيت لأنه لا ضمان له ولا اطمئنان; وتفسد الجماعة لأن ذئابها تنطلق فتنهش من هنا ومن هناك: وهذا كله هو الذي يتوقاه الإسلام.
والذين هم لأماناتهم وعهدهم راعون راعون لأماناتهم وعهدهم أفرادا وراعون لأماناتهم وعهدهم جماعة..
والأمانات كثيرة في عنق الفرد وفي عنق الجماعة; وفي أولها أمانة الفطرة; وقد فطرها الله مستقيمة متناسقة مع ناموس الوجود الذي هي منه وإليه شاهدة بوجود الخالق ووحدانيته، بحكم إحساسها الداخلي بوحدة الناموس الذي يحكمها ويحكم الوجود، ووحدة الإرادة المختارة لهذا الناموس المدبرة لهذا الوجود.. والمؤمنون يرعون تلك الأمانة الكبرى فلا يدعون فطرتهم تنحرف عن استقامتها، فتظل قائمة بأمانتها شاهدة بوجود الخالق ووحدانيته. ثم تأتي سائر الأمانات تبعا لتلك الأمانة الكبرى.
والعهد الأول هو عهد الفطرة كذلك. هو العهد الذي قطعه الله على فطرة البشر بالإيمان بوجوده وبتوحيده. وعلى هذا العهد الأول تقوم جميع العهود والمواثيق. فكل عهد يقطعه المؤمن يجعل الله شهيدا عليه فيه، ويرجع في الوفاء به إلى تقوى الله وخشيته.
والجماعة المسلمة مسؤولة عن أماناتها العامة، مسؤولة عن عهدها مع الله تعالى، وما يترتب على هذا العهد من تبعات. والنص يجمل التعبير ويدعه يشمل كل أمانة وكل عهد. ويصف المؤمنين بأنهم لأماناتهم وعهدهم راعون. فهي صفة دائمة لهم في كل حين. وما تستقيم حياة الجماعة إلا أن تؤدى فيها الأمانات; وترعى فيها العهود; ويطمئن كل من فيها إلى هذه القاعدة الأساسية للحياة المشتركة، الضرورية لتوفير الثقة والأمن والاطمئنان.
والذين هم على صلواتهم يحافظون .. فلا يفوتونها كسلا، ولا يضيعونها إهمالا; ولا يقصرون في [ ص: 2457 ] إقامتها كما ينبغي أن تقام; إنما يؤدونها في أوقاتها كاملة الفرائض والسنن، مستوفية الأركان والآداب، حية يستغرق فيها القلب، وينفعل بها الوجدان. والصلاة صلة ما بين القلب والرب، فالذي لا يحافظ عليها لا ينتظر أن يحافظ على صلة ما بينه وبين الناس محافظة حقيقية مبعثها صدق الضمير.. ولقد بدأت صفات المؤمنين بالصلاة وختمت بالصلاة للدلالة على عظيم مكانتها في بناء الإيمان، بوصفها أكمل صورة من صور العبادة والتوجه إلى الله.
تلك الخصائص تحدد شخصية المؤمنين المكتوب لهم الفلاح. وهي خصائص ذات أثر حاسم في تحديد خصائص الجماعة المؤمنة ونوع الحياة التي تحياها. الحياة الفاضلة اللائقة بالإنسان الذي كرمه الله; وأراد له التدرج في مدارج الكمال. ولم يرد له أن يحيا حياة الحيوان، يستمتع فيها ويأكل كما تأكل الأنعام.
ولما كانت الحياة في هذه الأرض لا تحقق الكمال المقدر لبني الإنسان، فقد شاء الله أن يصل المؤمنون الذين ساروا في الطريق، إلى الغاية المقدرة لهم، هنالك في الفردوس، دار الخلود بلا فناء، والأمن بلا خوف، والاستقرار بلا زوال:
أولئك هم الوارثون، الذين يرثون الفردوس هم فيها خالدون ..
وتلك غاية الفلاح الذي كتبه الله للمؤمنين. وليس بعدها من غاية تمتد إليها عين أو خيال..