وفي معرض الخبرة المطلقة والقدرة على الجزاء يذكر خلق الله للسماوات والأرض، واستعلاءه على العرش :
الذي خلق السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام ثم استوى على العرش، الرحمن، فاسأل به خبيرا ..
وأيام الله التي خلق فيها السماوات والأرض غير أيامنا الأرضية قطعا؛ فإنما أيامنا هذه ظل للنظام الشمسي، ومقياس لدورة فلكية وجدت بعد خلق السماوات والأرض، وهي مقيسة بقدر دورة الأرض حول نفسها أمام الشمس، والخلق لا يقتضي إلا توجه المرموز له بلفظة: " كن " فتتم الكينونة " فيكون " . ولعل هذه الأيام الستة من أيام الله التي لا يعلم مقدارها إلا هو - إنما تمت فيها أطوار متباعدة في السماوات والأرض حتى انتهت إلى وضعها الحالي، أما الاستواء على العرش فهو معنى الاستعلاء والسيطرة ولفظ " ثم " لا يدل على الترتيب الزمني إنما يدل على بعد الرتبة؛ رتبة الاستواء والاستعلاء. الإرادة الإلهية
ومع الاستعلاء والسيطرة الرحمة الكبيرة الدائمة: الرحمن .. ومع الرحمة الخبرة: فاسأل به خبيرا الخبرة المطلقة التي لا يخفى عليها شيء؛ فإذا سألت الله، فإنما تسأل خبيرا، لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء.
ومع هذا فإن أولئك المتبجحين المتطاولين، يقابلون الدعوة إلى عبادة الرحمن باستخفاف واستنكار
وإذا قيل لهم اسجدوا للرحمن قالوا وما الرحمن؟ أنسجد لما تأمرنا؟ وزادهم نفورا !
وهي صورة كريهة من صور الاستهتار والتطاول; تذكر هنا للتهوين من وقع تطاولهم على الرسول - صلى الله عليه وسلم - فهم لا يوقرون ربهم، فيتحدثون بهذه اللهجة عن ذاته العلية، فهل يستغرب من هؤلاء أن يقولوا عن الرسول ما قالوا؟ وهم ينفرون من اسم الله الكريم، ويزعمون أنهم لا يعرفون اسم " الرحمن " ويسألون عنه بما، زيادة في الاستهتار. قالوا وما الرحمن . ولقد بلغ من تطاولهم واستخفافهم أن يقولوا: ما نعرف الرحمن إلا ذاك باليمامة، يعنون به مسيلمة الكذاب!.
[ ص: 2576 ] ويرد على تطاولهم هذا بتمجيد الله –سبحانه - وتكبيره والتحدث ببركته وعظمته، وعظمة خلقه، وآياته المذكرة به في هذا الخلق العظيم.
تبارك الذي جعل في السماء بروجا. وجعل فيها سراجا، وقمرا منيرا. وهو الذي جعل الليل والنهار خلفة لمن أراد أن يذكر، أو أراد شكورا ..
والبروج - على الأرجح - منازل الكواكب السيارة ومداراتها الفلكية الهائلة، والفخامة هنا تقابل في الحس ذلك الاستخفاف في قولة المشركين: وما الرحمن فهذا شيء من خلقه ضخم هائل عظيم في الحس وف الحقيقة; وفي هذه البروج تنزل الشمس ويسميها سراجا لما تبعث به من ضوء إلى أرضنا وغيرها، وفيها القمر المنير الذي يبعث بنوره الهادئ اللطيف.
ويعرض كذلك مشهد الليل والنهار وتعاقبهما، وهما آيتان مكرورتان ينساهما الناس، وفيهما الكفاية: لمن أراد أن يذكر أو أراد شكورا . ولولا أن جعلهما كذلك يتعاوران الناس، ويخلف أحدهما أخاه، ما أمكنت الحياة على ظهر هذا الكوكب لإنسان ولا لحيوان ولا لنبات، بل لو أن طولهما تغير لتعذرت كذلك الحياة.
جاء في كتاب: "الإنسان لا يقوم وحده " (العلم يدعو إلى الإيمان) .
" تدور الكرة الأرضية حول محورها مرة في كل أربع وعشرين ساعة، أو بمعدل نحو ألف ميل في الساعة، والآن أفرض أنها تدور بمعدل مائة فقط في الساعة، ولم لا؟ عندئذ يكون ليلنا ونهارنا أطول مما هما الآن عشر مرات، وفي هذه الحالة قد تحرق شمس الصيف الحارة نباتاتنا في كل نهار، وفي الليل يتجمد كل نبت في الأرض! "
فتبارك الذي خلق السماوات والأرض، وخلق كل شيء فقدره تقديرا، وتبارك الذي جعل في السماء بروجا وجعل فيها سراجا وقمرا منيرا. وهو الذي جعل الليل والنهار خلفة لمن أراد أن يذكر أو أراد شكورا ..