الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      إنا رسول رب العالمين. أن أرسل معنا بني إسرائيل . وواضح من هذا ومن أمثاله في قصة موسى - عليه السلام - في القرآن، أنه لم يكن رسولا إلى فرعون وقومه ليدعوهم إلى دينه ويأخذهم بمنهج رسالته؛ إنما كان رسولا إليهم ليطلب إطلاق بني إسرائيل ليعبدوا ربهم كما يريدون، وقد كانوا أهل دين منذ أبيهم إسرائيل - وهو يعقوب أبو يوسف عليهما السلام - فبهت هذا الدين في نفوسهم، وفسدت عقائدهم فأرسل الله إليهم موسى لينقذهم من ظلم فرعون ويعيد تربيتهم على دين التوحيد.

                                                                                                                                                                                                                                      وإلى هنا نحن أمام مشهد البعثة والوحي والتكليف؛ ولكن الستار يسدل؛ لنجدنا أمام مشهد المواجهة؛ وقد اختصر ما هو مفهوم بين المشهدين على طريقة العرض القرآنية الفنية :

                                                                                                                                                                                                                                      قال ألم نربك فينا وليدا، ولبثت فينا من عمرك سنين؟ وفعلت فعلتك التي فعلت وأنت من الكافرين؟ [ ص: 2591 ] قال : فعلتها إذا وأنا من الضالين. ففررت منكم لما خفتكم، فوهب لي ربي حكما وجعلني من المرسلين. وتلك نعمة تمنها علي أن عبدت بني إسرائيل .

                                                                                                                                                                                                                                      ويعجب فرعون وهو يرى موسى يواجهه بهذه الدعوى الضخمة: إنا رسول رب العالمين ويطلب إليه ذلك الطلب الضخم! أن أرسل معنا بني إسرائيل . فإن آخر عهده بموسى أنه كان ربيبا في قصره منذ أن التقطوا تابوته. وأنه هرب بعد قتله للقبطي الذي وجده يتعارك مع الإسرائيلي، وقيل: إن هذا القبطي كان من حاشية فرعون، فم أبعد المسافة بين آخر عهد فرعون بموسى إذن وهذه الدعوى الضخمة التي يواجهه بها بعد عشر سنين! ومن ثم بدأ فرعون متهكما مستهزءا مستعجبا :

                                                                                                                                                                                                                                      قال : ألم نربك فينا وليدا، ولبثت فينا من عمرك سنين؟ وفعلت فعلتك التي فعلت، وأنت من الكافرين ..

                                                                                                                                                                                                                                      فهل هذا جزاء التربية والكرامة التي لقيتها عندنا وأنت وليد؟ أن تأتي اليوم لتخالف ما نحن عليه من ديانة؟ ولتخرج على الملك الذي نشأت في بيته، وتدعو إلى إله غيره؟!

                                                                                                                                                                                                                                      وما بالك - وقد لبثت فينا من عمرك سنين - لم تتحدث بشيء عن هذه الدعوى التي تدعيها اليوم; ولم تخطرنا بمقدمات هذا الأمر العظيم؟!

                                                                                                                                                                                                                                      ويذكره بحادث مقتل القبطي في تهويل وتجسيم: وفعلت فعلتك التي فعلت .. فعلتك البشعة الشنيعة التي لا يليق الحديث عنها بالألفاظ المفتوحة! فعلتها وأنت من الكافرين برب العالمين الذي تقول به اليوم، فإنك لم تكن وقتها تتحدث عن رب العالمين!

                                                                                                                                                                                                                                      وهكذا جمع فرعون كل ما حسبه ردا قاتلا لا يملك موسى - عليه السلام - معه جوابا، ولا يستطيع مقاومة، وبخاصة حكاية القتل، وما يمكن أن يعقبها من قصاص، يتهدده به من وراء لكلمات!

                                                                                                                                                                                                                                      ولكن موسى وقد استجاب الله دعاءه فأزال حبسة لسانه - انطلق - يجيب :

                                                                                                                                                                                                                                      قال : فعلتها إذا وأنا من الضالين. ففررت منكم لما خفتكم، فوهب لي ربي حكما وجعلني من المرسلين. وتلك نعمة تمنها علي أن عبدت بني إسرائيل ! ..

                                                                                                                                                                                                                                      فعلت تلك الفعلة وأنا بعد جاهل، أندفع اندفاع العصبية لقومي، لا اندفاع العقيدة التي عرفتها اليوم بما أعطاني ربي من الحكمة. ففررت منكم لما خفتكم على نفسي. فقسم الله لي الخير: ووهب لي الحكمة وجعلني من المرسلين فلست بدعا من الأمر، إنما أنا واحد من الرعيل من المرسلين .

                                                                                                                                                                                                                                      ثم يجيبه تهكما بتهكم، ولكن بالحق وتلك نعمة تمنها علي أن عبدت بني إسرائيل .. فما كانت تربيتي في بيتك وليدا إلا من جراء استعبادك لبني إسرائيل، وقتلك أبناءهم، مما اضطر أمي أن تلقيني في التابوت، فتقذف بالتابوت في الماء، فتلتقطونني، فأربى في بيتك، لا في بيت أبوي؛ فهل هذا هو ما تمنه علي، وهل هذا هو فضلك العظيم؟!

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 2592 ] عندئذ عدل فرعون عن هذه المسألة، وراح يسأله عن صميم دعواه؛ ولكن في تجاهل وهزء وسوء أدب في حق الله الكريم :

                                                                                                                                                                                                                                      قال فرعون : وما رب العالمين؟ ..

                                                                                                                                                                                                                                      إنه - قبحه الله - يسأل: أي شيء يكون رب العالمين الذي تقول: إنك من عنده رسول؟ وهو سؤال المتنكر للقول من أساسه، المتهكم على القول والقائل، المستغرب للمسألة كلها حتى ليراها غير ممكنة التصور، غير قابلة لأن تكون موضوع حديث!

                                                                                                                                                                                                                                      فيجيبه موسى - عليه السلام - بالصفة المشتملة على ربوبيته - تعالى - للكون المنظور كله وما فيه:

                                                                                                                                                                                                                                      قال : رب السماوات والأرض وما بينهما. إن كنتم موقنين ..

                                                                                                                                                                                                                                      وهو جواب يكافئ ذلك التجاهل ويغطيه؛ إنه رب هذا الكون الهائل الذي لا يبلغ إليه سلطانك - يا فرعون - ولا علمك؛ وقصارى ما ادعاه فرعون أنه إله هذا الشعب وهذا الجزء من وادي النيل، وهو ملك صغير ضئيل، كالذرة أو الهباءة في ملكوت السماوات والأرض وما بينهما؛ وكذلك كان جواب موسى - عليه السلام - يحمل استصغار ما يدعيه فرعون مع بطلانه، وتوجيه نظره إلى هذا الكون الهائل، والتفكير فيمن يكون ربه؛ فهو رب العالمين. ثم عقب على هذا التوجيه بما حكايته: إن كنتم موقنين" فهذا وحده هو الذي يحسن اليقين به والتصديق.

                                                                                                                                                                                                                                      والتفت فرعون إلى من حوله، يعجبهم من هذا القول، أو لعله يصرفهم عن التأثر به، على طريقة الجبارين الذين يخشون تسرب كلمات الحق البسيطة الصريحة إلى القلوب :

                                                                                                                                                                                                                                      قال لمن حوله : ألا تستمعون؟ ..

                                                                                                                                                                                                                                      ألا تستمعون إلى هذا القول العجيب الغريب، الذي لا عهد لنا به، ولا قاله أحد نعرفه!

                                                                                                                                                                                                                                      ولم يلبث موسى أن هجم عليه وعليهم بصفة أخرى من صفات رب العالمين.

                                                                                                                                                                                                                                      قال : ربكم ورب آبائكم الأولين ..

                                                                                                                                                                                                                                      وهذه أشد مساسا بفرعون ودعواه وأوضاعه، فهو يجبه بأن رب العالمين هو ربه، فما هو إلا واحد من عبيده؛ لا إله كما يدعي بين قومه! وهو رب قومه، فليس فرعون ربهم كما يزعم عليهم! وهو رب آبائهم الأولين؛ فالوراثة التي تقوم عليها ألوهية فرعون دعوى باطلة؛ فما كان من قبل إلا الله ربا للعالمين!

                                                                                                                                                                                                                                      وإنها للقاصمة لفرعون؛ فما يطيق عليها سكوتا والملأ حوله يستمعون؛ ومن ثم يرمي قائلها في تهكم بالجنون:

                                                                                                                                                                                                                                      قال : إن رسولكم الذي أرسل إليكم لمجنون ..

                                                                                                                                                                                                                                      إن رسولكم الذي أرسل إليكم، يريد أن يتهكم على مسألة الرسالة في ذاتها، فيبعد القلوب عن تصديقها بهذا التهكم، لا أنه يريد الإقرار بها والاعتراف بإمكانها؛ ويتهم موسى - عليه السلام - بالجنون، ليذهب أثر مقالته التي تطعن وضع فرعون السياسي والديني في الصميم، وترد الناس إلى الله ربهم ورب آبائهم الأولين.

                                                                                                                                                                                                                                      ولكن هذا التهكم وهذا القذف لا يفت في عضد موسى ، فيمضي في طريقه يصدع بكلمة الحق التي تزلزل الطغاة والمتجبرين :

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية