فلما جاء السحرة قالوا لفرعون: أإن لنا لأجرا إن كنا نحن الغالبين؟ قال : نعم، وإنكم إذا لمن المقربين ..
وهكذا ينكشف الموقف عن جماعة مأجورة يستعين بها فرعون الطاغية; تبذل مهارتها في مقابل الأجر الذي تنتظره; ولا علاقة لها بعقيدة ولا صلة لها بقضية، ولا شيء سوى الأجر والمصلحة، وهؤلاء هم الذين يستخدمهم الطغاة دائما في كل مكان وفي كل زمان.
وهاهم أولاء يستوثقون من الجزاء على تعبهم ولعبهم وبراعتهم في الخداع، وها هو ذا فرعون يعدهم بما هو أكثر من الأجر، يعدهم أن يكونوا من المقربين إليه، وهو بزعمه الملك والإله!
ثم إذا مشهد المباراة الكبرى وأحداثه الجسام:
قال لهم موسى : ألقوا ما أنتم ملقون. فألقوا حبالهم وعصيهم، وقالوا : بعزة فرعون إنا لنحن الغالبون : فألقى موسى عصاه فإذا هي تلقف ما يأفكون، فألقي السحرة ساجدين. قالوا : آمنا برب العالمين. رب موسى وهارون. قال : آمنتم له قبل أن آذن لكم! إنه لكبيركم الذي علمكم السحر فلسوف تعلمون. لأقطعن أيديكم وأرجلكم من خلاف، ولأصلبنكم أجمعين. قالوا : لا ضير إنا إلى ربنا منقلبون. إنا نطمع أن يغفر لنا ربنا خطايانا أن كنا أول المؤمنين ..
ويبدأ المشهد هادءا عاديا؛ إلا أنه يشي منذ البدء باطمئنان موسى إلى الحق الذي معه; وقلة اكتراثه لجموع السحرة المحشودين من المدائن، المستعدين لعرض أقصى ما يملكون من براعة، ووراءهم فرعون وملؤه، وحولهم تلك الجماهير المضللة المخدوعة، يتجلى هذا الاطمئنان في تركه إياهم يبدءون:
قال لهم موسى : ألقوا ما أنتم ملقون ..
وفي لتعبير ذاته ما يشي بالاستهانة: "ألقوا ما أنتم ملقون".. بلا مبالاة ولا تحديد ولا اهتمام.
وحشد السحرة أقصى مهارتهم وأعظم كيدهم وبدؤوا الجولة باسم فرعون وعزته:
فألقوا حبالهم وعصيهم وقالوا : بعزة فرعون إنا لنحن الغالبون ..
ولا يفصل السياق هنا ما كان من أمر حبالهم وعصيهم، كما فصله في سورة الأعراف وطه، ليبقى ظل الطمأنينة والثبات للحق، وينتهي مسارعا إلى عاقبة المباراة بين الحق والباطل; لأن هذا هو هدف السورة الأصيل.
فألقى موسى عصاه، فإذا هي تلقف ما يأفكون ..
ووقعت المفاجأة المذهلة التي لم يكن يتوقعها كبار السحرة; فلقد بذلوا غاية الجهد في فنهم الذي عاشوا به وأتقنوه; وجاءوا بأقصى ما يملك السحرة أن يصنعوه، وهم جمع كثير، محشود من كل مكان، وموسى وحده، وليس معه إلا عصاه، ثم إذا هي تلقف ما يأفكون; واللقف أسرع حركة للأكل، وعهدهم بالسحر أن يكون تخييلا، ولكن هذه العصا تلقف حبالهم وعصيهم حقا؛ فلا تبقي لها أثرا، ولو كان ما جاء به موسى سحرا، لبقيت حبالهم وعصيهم بعد أن خيل لهم وللناس أن حية موسى ابتلعتها، ولكنهم ينظرون فلا يجدونها فعلا!.
عندئذ لا يملكون أنفسهم من الإذعان للحق الواضح الذي لا يقبل جدلا، وهم أعرف الناس بأنه الحق:
وألقي السحرة ساجدين قالوا : آمنا برب العالمين. رب موسى وهارون ..
وهم قد كانوا منذ لحظة مأجورين ينتظرون الجزاء من فرعون على مهارتهم، ولم يكونوا أصحاب عقيدة [ ص: 2596 ] ولا قضية، ولكن الحق الذي مس قلوبهم قد حولهم تحويلا، لقد كانت هزة رجتهم رجا، وخضتهم خضا; ووصلت إلى أعماق نفوسهم وقرارة قلوبهم، فأزالت عنها ركام الضلال، وجعلتها صافية حية خاشعة للحق، عامرة بالإيمان، في لحظات قصار، فإذا هم يجدون أنفسهم ملقين سجدا، بغير إرادة منهم، تتحرك ألسنتهم، فتنطلق بكلمة الإيمان، في نصاعة وبيان: آمنا برب العالمين. رب موسى وهارون .
وإن القلب البشري لعجيب غاية العجب، فإن لمسة واحدة تصادف مكانها لتبدله تبديلا، وصدق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : انقلب السحرة المأجورون، مؤمنين من خيار المؤمنين، على مرأى ومسمع من الجماهير الحاشدة ومن فرعون وملئه، لا يفكرون فيما يعقب جهرهم بالإيمان في وجه الطاغية من عواقب ونتائج، ولا يعنيهم ماذا يفعل أو ماذا يقول. "ما من قلب إلا بين أصبعين من أصابع الرحمن، إن شاء أقامه وإن شاء أزاغه".وهكذا
ولا بد أن كان لهذا الانقلاب المفاجئ وقع الصاعقة على فرعون وملئه، فالجماهير حاشدة، وقد عبأهم عملاء فرعون وهم يحشدونهم لشهود المباراة، عبؤوهم بأكذوبة أن موسى الإسرائيلي، ساحر يريد أن يخرجهم من أرضهم بسحره، ويريد أن يجعل الحكم لقومه; وأن السحرة سيغلبونه ويفحمونه، ثم هاهم أولاء يرون السحرة يلقون ما يلقون باسم فرعون وعزته، ثم يغلبون حتى ليقرون بالغلب; ويعترفون بصدق موسى في رسالته من عند الله، ويؤمنون برب العالمين الذي أرسله، ويخلعون عنهم عبادة فرعون، وهم كانوا منذ لحظة جنوده الذين جاءوا لخدمته، وانتظروا أجره، واستفتحوا بعزته!
وإنه لانقلاب يتهدد عرش فرعون، إذ يتهدد الأسطورة الدينية التي يقوم عليها هذا العرش، أسطورة الألوهية، أو بنوته للآلهة - كما كان شائعا في بعض العصور - وهؤلاء هم السحرة، والسحر كان حرفة مقدسة لا يزاولها إلا كهنة المعابد في طول البلاد وعرضها، هاهم أولاء يؤمنون برب العالمين، رب موسى وهارون، والجماهير تسير وراء الكهنة في معتقداتهم التي يلهونهم بها، فماذا يبقى لعرش فرعون من سند إلا القوة؟ والقوة وحدها بدون عقيدة لا تقيم عرشا ولا تحمي حكما.
إن لنا أن نقدر ذعر فرعون لهذه المفاجأة، وذعر الملإ من حوله، إذا نحن تصورنا هذه الحقيقة; وهي إيمان السحرة الكهنة هذا الإيمان الصريح الواضح القاهر الذي لا يملكون معه إلا أن يلقوا سجدا معترفين منيبين.
عندئذ جن جنون فرعون، فلجأ إلى التهديد البغيض بالعذاب والنكال، بعد أن حاول أن يتهم السحرة بالتآمر عليه وعلى الشعب مع موسى !
قال: آمنتم له قبل أن آذن لكم! إنه لكبيركم الذي علمكم السحر. فلسوف تعلمون. لأقطعن أيديكم وأرجلكم من خلاف، ولأصلبنكم أجمعين ..
آمنتم له قبل أن آذن لكم .. لم يقل آمنتم به، إنما عده استسلاما له قبل إذنه، على طريقة المناورات التي يدبرها صاحبها وهو مالك لإرادته، عارف بهدفه، مقدر لعاقبته، ولم يشعر قلبه بتلك اللمسة التي مست قلوبهم، ومتى كان للطغاة قلوب تشعر بمثل هذه اللمسات الوضيئة؟ ثم سارع في اتهامهم لتبرير ذلك الانقلاب الخطير: "إنه لكبيركم الذي علمكم السحر" وهي تهمة عجيبة لا تفسير لها إلا أن بعض هؤلاء السحرة - وهم من الكهنة - كانوا يتولون تربية موسى في قصر فرعون أيام أن تبناه، أو كان يختلف إليهم في المعابد، فارتكن فرعون إلى [ ص: 2597 ] هذه الصلة البعيدة، وقلب الأمر فبدلا من أن يقول: إنه لتلميذكم قال: إنه لكبيركم، ليزيد الأمر ضخامة وتهويلا في أعين الجماهير!