الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      أمن جعل الأرض قرارا، وجعل خلالها أنهارا، وجعل لها رواسي وجعل بين البحرين حاجزا؟ لقد كانت الحقيقة الكونية الأولى هي حقيقة خلق السماوات والأرض. أما هذه فهي الهيئة التي خلق عليها الأرض. لقد جعلها قرارا للحياة، مستقرة مطمئنة صالحة يمكن أن توجد فيها الحياة وتنمو وتتكاثر. ولو تغير وضعها من الشمس والقمر أو تغير شكلها، أو تغير حجمها، أو تغيرت عناصرها والعناصر المحيطة في الجو بها، أو تغيرت سرعة دورتها حول نفسها، أو سرعة دورتها حول الشمس، أو سرعة دورة القمر حولها.. إلى آخر هذه الملابسات الكثيرة التي لا يمكن أن تتم مصادفة، وأن تتناسق كلها هذا التناسق.. لو تغير شيء من هذا كله أدنى تغيير، لما كانت الأرض قرارا صالحا للحياة.

                                                                                                                                                                                                                                      وربما أن المخاطبين إذ ذاك لم يكونوا يدركون من قوله تعالى: أمن جعل الأرض قرارا؟ كل هذه العجائب. ولكنهم كانوا يرون الأرض مستقرا صالحا للحياة على وجه الإجمال; ولا يملكون أن يدعوا أن أحدا من آلهتهم كان له شرك في خلق الأرض على هذا المنوال. وهذا يكفي. ثم يبقى النص بعد ذلك مفتوحا للأجيال; وكلما اتسع علم البشر أدركوا شيئا من معناه الضخم المتجدد على توالي الأجيال. وتلك معجزة القرآن في خطابه لجميع العقول، على توالي الأزمان!

                                                                                                                                                                                                                                      أمن جعل الأرض قرارا. وجعل خلالها أنهارا؟ والأنهار في الأرض هي شرايين الحياة، وهي تنتشر فيها إلى الشرق وإلى الغرب، وإلى الشمال وإلى الجنوب، تحمل معها الخصب والحياة والنماء. والأنهار تتكون من تجمع مياه الأمطار وجريانها وفق طبيعة الأرض.

                                                                                                                                                                                                                                      والله الذي خلق هذا الكون هو الذي قدر في تصميمه إمكان تكون السحب، ونزول المطر، وجريان الأنهار. وما يملك أحد أن يقول: إن أحدا سوى الخالق المدبر قد شارك في خلق هذا الكون على هذا النحو; وجريان الأنهار حقيقة واقعة يراها المشركون. فمن ذا أوجد هذه الحقيقة؟ " أإله مع الله؟ " وجعل لها رواسي والرواسي: الجبال. وهي ثابتة مستقرة على الأرض. وهي في الغالب منابع الأنهار، حيث تجري منها مياه الأمطار إلى الوديان; وتشق مجراها بسبب تدفقها من قمم الجبال العالية بعنف وقوة.

                                                                                                                                                                                                                                      والرواسي الثابتة تقابل الأنهار الجارية في المشهد الكوني الذي يعرضه القرآن هنا والتقابل التصويري ملحوظ في التعبير القرآني. وهذا واحد منه. لذلك يذكر الرواسي بعد الأنهار.

                                                                                                                                                                                                                                      وجعل بين البحرين حاجزا البحر الملح الأجاج، والنهر العذب الفرات. سماهما بحرين على سبيل التغليب من حيث مادتهما المشتركة وهي الماء. والحاجز في الغالب هو الحاجز الطبيعي، الذي يجعل البحر لا يفيض على النهر فيفسده. إذ أن مستوى سطح النهر أعلى من مستوى سطح البحر. وهذا ما يحجز بينهما مع أن الأنهار تصب في البحار، ولكن مجرى النهر يبق [ ص: 2658 ] مستقلا لا يطغى عليه البحر. وحتى حين ينخفض سطح النهر عن سطح البحر لسبب من الأسباب، فإن هذا الحاجز يظل قائما من طبيعة كثافة ماء البحر وماء النهر. إذ يخف ماء النهر ويثقل ماء البحر فيظل مجرى كل منهما مميزا لا يمتزجان ولا يبغي أحدهما على الآخر. وهذا من سنن الله في خلق هذا الكون، وتصميمه على هذا النحو الدقيق.

                                                                                                                                                                                                                                      فمن فعل هذا كله؟ من؟ أإله مع الله؟ وما يملك أحد أن يدعي هذه الدعوى. ووحدة التصميم أمامه تجبره على الاعتراف بوحدة الخالق.. بل أكثرهم لا يعلمون ويذكر العلم هنا؛ لأن هذه الحقيقة الكونية تحتاج إلى العلم لتملي الصنعة فيها والتنسيق، وتدبر السنة فيها والناموس. ولأن التركيز في السورة كلها على العلم (كما ذكرنا في تلخيص السورة في الجزء الماضي) .

                                                                                                                                                                                                                                      ثم ينتقل بهم من مشاهد الكون إلى خاصة أنفسهم:

                                                                                                                                                                                                                                      أمن يجيب المضطر إذا دعاه ويكشف السوء، ويجعلكم خلفاء الأرض؟ أإله مع الله؟ قليلا ما تذكرون فيلمس وجدانهم وهو يذكرهم بخوالج أنفسهم، وواقع أحوالهم.

                                                                                                                                                                                                                                      فالمضطر في لحظات الكربة والضيق لا يجد له ملجأ إلا الله يدعوه ليكشف عنه الضر والسوء ذلك حين تضيق الحلقة، وتشتد الخنقة، وتتخاذل القوى، وتتهاوى الأسناد; وينظر الإنسان حواليه فيجد نفسه مجردا من وسائل النصرة وأسباب الخلاص. لا قوته، ولا قوة في الأرض تنجده. وكل ما كان يعده لساعة الشدة قد زاغ عنه أو تخلى; وكل من كان يرجوه للكربة قد تنكر له أو تولى.. في هذه اللحظة تستيقظ الفطرة فتلجأ إلى القوة الوحيدة التي تملك الغوث والنجدة، ويتجه الإنسان إلى الله ولو كان قد نسيه من قبل في ساعات الرخاء. فهو الذي يجيب المضطر إذا دعاه. هو وحده دون سواه. يجيبه ويكشف عنه السوء، ويرده إلى الأمن والسلامة، وينجيه من الضيقة الآخذة بالخناق.

                                                                                                                                                                                                                                      والناس يغفلون عن هذه الحقيقة في ساعات الرخاء، وفترات الغفلة. يغفلون عنها فيلتمسون القوة والنصرة والحماية في قوة من قوى الأرض الهزيلة. فأما حين تلجئهم الشدة، ويضطرهم الكرب، فتزول عن فطرتهم غشاوة الغفلة، ويرجعون إلى ربهم منيبين مهما يكونوا من قبل غافلين أو مكابرين.

                                                                                                                                                                                                                                      والقرآن يرد المكابرين الجاحدين إلى هذه الحقيقة الكامنة في فطرتهم، ويسوقها لهم في مجال الحقائق الكونية التي ساقها من قبل. حقائق خلق السماوات والأرض، وإنزال الماء من السماء، وإنبات الحدائق البهيجة، وجعل الأرض قرارا، والجبال رواسي، وإجراء الأنهار، والحاجزين البحرين. فالتجاء المضطر إلى الله، واستجابة الله له دون سواه حقيقة كهذه الحقائق. هذه في الآفاق وتلك في الأنفس سواء بسواء.

                                                                                                                                                                                                                                      ويمضي في لمس مشاعرهم بما هو واقع في حياتهم: ويجعلكم خلفاء الأرض فمن يجعل الناس خلفاء الأرض؟ أليس هو الله الذي استخلف جنسهم في الأرض أولا. ثم جعلهم قرنا بعد قرن، وجيلا بعد جيل، يخلف بعضهم بعضا في مملكة الأرض التي جعلهم فيها خلفاء؟

                                                                                                                                                                                                                                      أليس هو الله الذي فطرهم وفق النواميس التي تسمح بوجودهم في هذه الأرض، وزودهم بالطاقات والاستعدادات التي تقدرهم على الخلافة فيها، وتعدهم لهذه المهمة الضخمة الكبرى. النواميس التي تجعل الأرض لهم قرارا; والتي تنظم الكون كله متناسقا بعضه مع بعض بحيث تتهيأ للأرض تلك الموافقات والظروف [ ص: 2659 ] المساعدة للحياة. ولو اختل شرط واحد من الشروط الكثيرة المتوافرة في تصميم هذا الوجود وتنسيقه لأصبح وجود الحياة على هذه الأرض مستحيلا .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخيرا أليس هو الله الذي قدر الموت والحياة، واستخلف جيلا بعد جيل; ولو عاش الأولون لضاقت الأرض بهم وبالآخرين; ولأبطأ سير الحياة والحضارة والتفكير؛ لأن تجدد الأجيال هو الذي يسمح بتجدد الأفكار والتجارب والمحاولات، وتجدد أنماط الحياة، بغير تصادم بين القدامى والمحدثين إلا في عالم الفكر والشعور. فأما لو كان القدامى أحياء لتضخم التصادم والاعتراض! ولتعطل موكب الحياة المندفع إلى الأمام!

                                                                                                                                                                                                                                      إنها كلها حقائق في الأنفس كتلك الحقائق في الآفاق. فمن الذي حقق وجودها وأنشأها؟ من؟

                                                                                                                                                                                                                                      أإله مع الله؟ إنهم لينسون ويغفلون. هذه الحقائق كامنة في أعماق النفوس، مشهودة في واقع الحياة:

                                                                                                                                                                                                                                      قليلا ما تذكرون ولو تذكر الإنسان وتدبر مثل هذه الحقائق لبقي موصولا بالله صلة الفطرة الأولى. ولما غفل عن ربه، ولا أشرك به أحدا.

                                                                                                                                                                                                                                      ثم يمضي السياق إلى بعض الحقائق الأخرى الممثلة في حياة الناس ونشاطهم على هذا الكوكب، ومشاهداتهم التي لا تنكر:

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية