ودخل المدينة على حين غفلة من أهلها، فوجد فيها رجلين يقتتلان: هذا من شيعته وهذا من عدوه فاستغاثه الذي من شيعته على الذي من عدوه فوكزه موسى فقضى عليه. قال: هذا من عمل الشيطان إنه عدو مضل مبين. قال: رب إني ظلمت نفسي، فاغفر لي، فغفر له، إنه هو الغفور الرحيم. قال: رب بما أنعمت علي فلن أكون ظهيرا للمجرمين ..
ودخل المدينة.. والمفهوم أنها العاصمة وقتئذ.. فمن أي مكان جاء فدخلها؟ وهل كان من القصر في عين شمس؟ أم إنه كان قد اعتزل القصر والعاصمة، ثم دخل إليها على حين غفلة من أهلها، في وقت الظهيرة مثلا حين تغفو العيون؟
لقد دخل المدينة على كل حال فوجد فيها رجلين يقتتلان. هذا من شيعته وهذا من عدوه. فاستغاثه الذي من شيعته على الذي من عدوه ..
وقد كان أحدهما قبطيا - يقال إنه من حاشية فرعون، ويقال إنه طباخ القصر. والآخر إسرائيلي. وكانا يقتتلان. فاستغاث الإسرائيلي بموسى مستنجدا به على عدوهما القبطي. فكيف وقع هذا؟ كيف استغاث الإسرائيلي بموسى ربيب فرعون على رجل من رجال فرعون؟ إن هذا لا يقع إذا كان موسى لا يزال في القصر، متبنى، أو من الحاشية. إنما يقع إذا كان الإسرائيلي على ثقة من أن موسى لم يعد متصلا بالقصر، وأنه قد عرف [ ص: 2682 ] أنه من بني إسرائيل. وأنه ناقم على الملك والحاشية، منتصر لقومه المضطهدين. وهذا هو الأنسب لمن في مقام موسى - عليه السلام - فإنه بعيد الاحتمال أن تطيق نفسه البقاء في مستنقع الشر والفساد..
موسى فقضى عليه فوكزه ..
والوكز الضرب بجمع اليد. والمفهوم من التعبير أنها وكزة واحدة كان فيها حتف القبطي. مما يشي بقوة موسى وفتوته، ويصور كذلك انفعاله وغضبه ويعبر عما كان يخالجه من الضيق بفرعون ومن يتصل به.
ولكن يبدو من السياق أنه لم يكن يقصد قتل القبطي، ولم يعمد إلى القضاء عليه. فما كاد يراه جثة هامدة بين يديه حتى استرجع وندم على فعلته، وعزاها إلى الشيطان وغوايته; فقد كانت من الغضب، والغضب شيطان، أو نفخ من الشيطان:
قال: هذا من عمل الشيطان. إنه عدو مضل مبين ..
ثم استطرد في فزع مما دفعه إليه الغضب، يعترف بظلمه لنفسه أن حملها هذا الوزر، ويتوجه إلى ربه، طالبا مغفرته وعفوه:
قال: رب إني ظلمت نفسي فاغفر لي ..
واستجاب الله إلى ضراعته، وحساسيته، واستغفاره:
فغفر له. إنه هو الغفور الرحيم ..
وكأنما أحس موسى بقلبه المرهف وحسه المتوفز في حرارة توجهه إلى ربه، أن ربه غفر له. والقلب المؤمن يحس بالاتصال والاستجابة للدعاء، فور الدعاء، حين يصل إرهافه وحساسيته إلى ذلك المستوى; وحين تصل حرارة توجهه إلى هذا الحد.. وارتعش وجدان موسى - عليه السلام - وهو يستشعر الاستجابة من ربه، فإذا هو يقطع على نفسه عهدا، يعده من الوفاء بشكر النعمة التي أنعمها عليه ربه:
قال: رب بما أنعمت علي فلن أكون ظهيرا للمجرمين ..
فهو عهد مطلق ألا يقف في صف لمجرمين ظهيرا ومعينا. وهو براءة من الجريمة وأهلها في كل صورة من صورها. حتى ولو كانت اندفاعا تحت تأثير الغيظ، ومرارة الظلم والبغي.
ذلك بحق نعمة الله عليه في قبول دعائه; ثم نعمته في القوة والحكمة والعلم التي آتاه الله من قبل.
وهذه الارتعاشة العنيفة، وقبلها الاندفاع العنيف، تصور لنا شخصية موسى - عليه السلام - شخصية انفعالية، حارة الوجدان، قوية الاندفاع. وسنلتقي بهذه السمة البارزة في هذه الشخصية في مواضع أخرى كثيرة.
بل نحن نلتقي بها في المشهد الثاني في هذه الحلقة مباشرة:
موسى : إنك لغوي مبين. فأصبح في المدينة خائفا يترقب فإذا الذي استنصره بالأمس يستصرخه، قال له موسى أتريد أن تقتلني كما قتلت نفسا بالأمس؟ إن تريد إلا أن تكون جبارا في الأرض، وما تريد أن تكون من المصلحين فلما أن أراد أن يبطش بالذي هو عدو لهما قال: يا ..
لقد انتهت المعركة الأولى بالقضاء على القبطي، وندم موسى على فعلته، وتوجهه إلى ربه، واستغفاره إياه، ومغفرته له، وعهده على نفسه ألا يكون ظهيرا للمجرمين.
ومر يوم وأصبح في المدينة خائفا من انكشاف أمره، يترقب الافتضاح والأذى. ولفظ " يترقب " يصور [ ص: 2683 ] هيئة القلق الذي يتلفت ويتوجس، ويتوقع الشر في كل لحظة.. وهي سمة الشخصية الانفعالية تبدو في هذا الموقف كذلك. والتعبير يجسم هيئة الخوف والقلق بهذا اللفظ، كما أنه يضخمها بكلمتي " في المدينة " فالمدينة عادة موطن الأمن والطمأنينة، فإذا كان خائفا يترقب في المدينة، فأعظم الخوف ما كان في مأمن ومستقر!
وحالة موسى هذه تلهم أنه لم يكن في هذا الوقت من رجال القصر. وإلا فما أرخص أن يزهق أحد رجال القصر نفسا في عهود الظلم والطغيان! وما كان ليخشى شيئا فضلا على أن يصبح " خائفا يترقب " لو أنه كان ما يزال في مكانه من قلب فرعون وقصره.