وما كنت بجانب الغربي إذ قضينا إلى موسى الأمر، وما كنت من الشاهدين ولكنا أنشأنا قرونا فتطاول عليهم العمر. وما كنت ثاويا في أهل مدين تتلو عليهم آياتنا ولكنا كنا مرسلين. وما كنت بجانب الطور إذ نادينا ولكن رحمة من ربك لتنذر قوما ما أتاهم من نذير من قبلك لعلهم يتذكرون. ولولا أن تصيبهم مصيبة بما قدمت أيديهم، فيقولوا: ربنا لولا أرسلت إلينا رسولا فنتبع آياتك ونكون من المؤمنين. فلما جاءهم الحق من عندنا قالوا: لولا أوتي مثل ما أوتي موسى ! أولم يكفروا بما أوتي موسى من قبل؟ قالوا: سحران: تظاهرا. وقالوا: إنا بكل كافرون. قل: فأتوا بكتاب من عند الله هو أهدى منهما أتبعه. إن كنتم صادقين. فإن لم يستجيبوا لك فاعلم أنما يتبعون أهواءهم. ومن أضل ممن اتبع هواه بغير هدى من الله؟ إن الله لا يهدي القوم الظالمين. ولقد وصلنا لهم القول لعلهم يتذكرون ..
والغربي هو الجانب الغربي للطور لذي جعله الله ميقاتا مع موسى - عليه السلام - بعد أجل محدد.. ثلاثين ليلة، أتمها بعشر. فكانت أربعين ليلة (على ما ذكر في سورة الأعراف) وفي هذا الميقات قضي الأمر لموسى في الألواح، لتكون شريعته في بني إسرائيل. وما كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - شاهدا لهذا الميقات، حتى يعلم نبأه المفصل، كما ورد في القرآن الكريم وإن بينه وبين هذا الحادث لقرونا من الناس - أي أجيالا متطاولة: ولكنا أنشأنا قرونا فتطاول عليهم العمر . فتلك دلالة على أن الذي نبأه به هو العليم الخبير، الذي يوح إليه بالقرآن الكريم.
ولقد تحدث القرآن كذلك بأنباء مدين، ومقام موسى - عليه السلام - بها وتلاها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وما كان مقيما في أهل مدين، يتلقى عنهم أخبار هذه الفترة بمثل ذلك التفصيل الذي جاءت فيه: ولكنا كنا مرسلين بهذا القرآن وما فيه من أنباء السابقين.
كذلك صور القرآن موقف المناداة والمناجاة من جانب الطور بدقة وعمق: وما كنت بجانب الطور إذ نادينا وما سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - النداء، وما سجل في وقتها تفصيلاته. ولكنها رحمة الله بقومه هؤلاء، أن قص عليه تلك الأنباء الدالة على صدقه - صلى الله عليه وسلم - فيما يدعوهم إليه، لينذر هؤلاء القوم الذين لم يأتهم نذير من قبله - فقد كانت الرسالات في بني إسرائيل من حولهم، ولم يرسل إليهم رسول منذ أمد طويل، منذ أبيهم إسماعيل: لعلهم يتذكرون .
فهي رحمة الله بالقوم. وهي حجته كذلك عليهم، كي لا يعتذروا بأنهم أخذوا على غرة، وأنهم لم ينذروا قبل أخذهم بالعذاب - وما هم فيه من جاهلية وشرك ومعصية يستوجب العذاب - فأراد الله أن يقطع حجتهم، وأن يعذر إليهم، وأن يقفهم أمام أنفسهم مجردين من كل عائق يعوقهم عن الإيمان:
[ ص: 2699 ] ولولا أن تصيبهم مصيبة بما قدمت أيديهم، فيقولوا: ربنا لولا أرسلت إلينا رسولا، فنتبع آياتك، ونكون من المؤمنين! ..
كذلك كانوا سيقولون لو لم يأتهم رسول. ولو لم يكن مع هذا الرسول من الآيات ما يلزم الحجة. ولكنهم حين جاءهم الرسول، ومعه الحق الذي لا مرية فيه لم يتبعوه:
موسى ! أولم يكفروا بما أوتي موسى من قبل؟ قالوا: سحران تظاهرا، وقالوا: إنا بكل كافرون فلما جاءهم الحق من عندنا قالوا: لولا أوتي مثل ما أوتي ..
وهكذا لم يذعنوا للحق، واستمسكوا بالتعللات الباطلة: موسى قالوا: لولا أوتي مثل ما أوتي إما من الخوارق المادية، وإما من الألواح التي نزلت عليه جملة، وفيها التوراة كاملة.
ولكنهم لم يكونوا صادقين في حجتهم، ولا مخلصين في اعتراضهم: موسى من قبل؟ أولم يكفروا بما أوتي ولقد كان في الجزيرة يهود، وكان معهم التوراة، فلم يؤمن لهم العرب، ولم يصدقوا بما بين أيديهم من التوراة.
ولقد علموا أن صفة محمد - صلى الله عليه وسلم - مكتوبة في التوراة، واستفتوا بعض أهل الكتاب فيما جاءهم به فأفتوهم بما يفيد أنه مطابق لما بين أيديهم من الكتاب; فلم يذعنوا لهذا كله، وادعوا أن التوراة سحر، وأن القرآن سحر، وأنهما من أجل هذا يتطابقان، ويصدق أحدهما الآخر:
قالوا: سحران تظاهرا. وقالوا: إنا بكل كافرون !
فهو إذن واللجاجة، لا طلب الحق ولا نقصان البراهين، ولا ضعف الدليل. المراء
ومع هذا فهو يسير معهم خطوة أخرى في الإفحام والإحراج. يقول لهم: إن لم يكن يعجبكم القرآن، ولم تكن تعجبكم التوراة; فإن كان عندكم من كتب الله ما هو أهدى من التوراة والقرآن فأتوا به أتبعه:
قل: فأتوا بكتاب من عند الله هو أهدى منهما أتبعه. إن كنتم صادقين !
وهذه نهاية الإنصاف، وغاية المطاولة بالحجة، فمن لم يجنح إلى الحق بعد هذا فهو ذو الهوى المكابر، الذي لا يستند إلى دليل: