وكم أهلكنا من قرية بطرت معيشتها فتلك مساكنهم لم تسكن من بعدهم إلا قليلا، وكنا نحن الوارثين ..
إن بطر النعمة، وعدم الشكر عليها، هو سبب هلاك القرى، وقد أوتوا من نعمة الله ذلك الحرم الآمن; فليحذروا إذن أن يبطروا، وألا يشكروا، فيحل بهم الهلاك كما حل بالقرى التي يرونها ويعرفونها، ويرون مساكن أهلها الداثرين خاوية خالية. لم تسكن من بعدهم إلا قليلا . وبقيت شاخصة تحدث عن مصارع أهلها، وتروي قصة البطر بالنعمة; وقد فني أهلها فلم يعقبوا أحدا، ولم يرثها بعدهم أحد وكنا نحن الوارثين .
على أن الله لم يهلك تلك القرى المتبطرة إلا وقد أرسل في أمها رسولا؛ فتلك هي سنته التي كتبها على نفسه رحمة بعباده:
وما كان ربك مهلك القرى حتى يبعث في أمها رسولا يتلو عليهم آياتنا، وما كنا مهلكي القرى إلا وأهلها ظالمون ..
وحكمة إرسال الرسول في أم القرى –أي: كبراها أو عاصمتها - أن تكون مركزا تبلغ منه الرسالة إلى الأطراف فلا تبقى حجة ولا عذر فيها لأحد؛ وقد أرسل النبي - صلى الله عليه وسلم - في مكة أم القرى العربية؛ فهو [ ص: 2705 ] ينذرهم عاقبة المكذبين قبلهم بعد ما جاءهم النذير. وما كنا مهلكي القرى إلا وأهلها ظالمون .. يكذبون بالآيات عن معرفة وعن يقين!
على أن متاع الحياة الدنيا بكامله، وعرض الحياة الدنيا جميعه، وما مكنهم الله فيه من الأرض، وما وهبهم إياه من الثمرات، وما يتسنى للبشر كلهم طوال هذه الحياة، إن هو إلا شيء ضئيل زهيد، إذا قيس بما عند الله:
وما أوتيتم من شيء فمتاع الحياة الدنيا وزينتها. وما عند الله خير وأبقى. أفلا تعقلون؟ .
وهذا هو التقويم الأخير ل لما يخشون فوته من الأمن والأرض والمتاع وحده; ولا لما يمن به الله عليهم من التمكين والثمار والأمان وحده; ولا لما وهبه الله للقرى ثم أهلكها بالتبطر فيه وحده، إنما هو التقويم الأخير لكل ما في هذه الحياة الدنيا حتى لو ساغ، وحتى لو كمل، وحتى لو دام، فلم يعقبه الهلاك والدمار؛ إنه كله فمتاع الحياة الدنيا وزينتها .. وما عند الله خير وأبقى خير في طبيعته وأبقى في مدته.
أفلا تعقلون؟ ..
والمفاضلة بين هذا وذاك تحتاج إلى عقل يدرك طبيعة هذا وذاك، ومن ثم يجيء التعقيب في هذه الصيغة للتنبيه لإعمال العقل في الاختيار!
وفي نهاية هذه الجولة يعرض عليهم صفحتي الدنيا والآخرة، ولمن شاء أن يختار:
أفمن وعدناه وعدا حسنا فهو لاقيه كمن متعناه متاع الحياة الدنيا ثم هو يوم القيامة من المحضرين؟ ..
فهذه صفحة من وعده الله وعدا حسنا فوجده في الآخرة حقا وهو لا بد لاقيه، وهذه صفحة من نال متاع الحياة الدنيا القصير الزهيد، ثم ها هو ذا في الآخرة محضر إحضارا للحساب، والتعبير يوحي بالإكراه من المحضرين الذين يجاء بهم مكرهين خائفين يودون أن لم يكونوا محضرين، لما ينتظرهم من وراء الحساب على ذلك المتاع القصير الزهيد!
وتلك نهاية المطاف في الرد على مقالتهم: إن نتبع الهدى معك نتخطف من أرضنا فحتى لو كان ذلك كذلك فهو خير من أن يكونوا في الآخرة من المحضرين! فكيف واتباع هدى الله معه الأمن في الدنيا والتمكين، ومعه العطاء في الآخرة والأمان؟ ألا إنه لا يترك هدى الله إذن إلا الغافلون الذين لا يدركون حقيقة القوى في هذا الكون، ولا يعرفون أين تكون المخافة وأين يكون الأمن، وإلا الخاسرون الذين لا يحسنون الاختيار لأنفسهم ولا يتقون البوار.
وعندما يصل بهم إلى الشاطئ الآخر يجول بهم جولة أخرى في مشهد من مشاهد القيامة، يصور مغبة ما هم فيه من الشرك والغواية:
ويوم يناديهم فيقول: أين شركائي الذين كنتم تزعمون؟ قال الذين حق عليهم القول: ربنا هؤلاء الذين أغوينا أغويناهم كما غوينا، تبرأنا إليك ما كانوا إيانا يعبدون. وقيل: ادعوا شركاءكم. فدعوهم فلم يستجيبوا لهم، ورأوا العذاب لو أنهم كانوا يهتدون. ويوم يناديهم فيقول: ماذا أجبتم المرسلين؟ فعميت عليهم الأنباء يومئذ فهم لا يتساءلون. فأما من تاب وآمن وعمل صالحا، فعسى أن يكون من المفلحين ..
والسؤال الأول للتوبيخ والتأنيب:
[ ص: 2706 ] أين شركائي الذين كنتم تزعمون؟ ..
والله يعلم أن لا وجود اليوم لهؤلاء الشركاء، وأن أتباعهم لا يعلمون عنهم شيئا، ولا يستطيعون إليهم سبيلا؛ ولكنه الخزي والفضيحة على رءوس الأشهاد.
ومن ثم لا يجيب المسؤولون عن السؤال، فليس المقصود به هو الجواب! إنما يحاولون أن يتبرأوا من جريرة إغوائهم لمن وراءهم، وصدهم عن هدى الله، كما كان يفعل كبراء قريش مع الناس خلفهم، فيقولون:
ربنا هؤلاء الذين أغوينا أغويناهم كما غوينا تبرأنا إليك ما كانوا إيانا يعبدون !
ربنا إننا لم نغوهم قسرا، فما كان لنا من سلطان على قلوبهم; إنما هم وقعوا في الغواية عن رضى منهم واختيار، كما وقعنا نحن في الغواية دون إجبار. تبرأنا إليك من جريمة إغوائهم. ما كانوا إيانا يعبدون إنما كانوا يعبدون أصناما وأوثانا وخلقا من خلقك، ولم نجعل أنفسنا لهم آلهة، ولم يتوجهوا إلينا نحن بالعبادة!
عندئذ يعود بهم إلى المخزاة التي حولوا الحديث عنها، مخزاة الشركاء الذين اتخذوهم من دون الله:
وقيل: ادعوا شركاءكم ..
ادعوهم ولا تهربوا من سيرتهم! ادعوهم ليلبوكم وينقذوكم! ادعوهم فهذا يومهم وهذه فائدتهم!
والبائسون يعرفون أن لا جدوى من دعائهم، ولكنهم يطيعون الأمر مقهورين:
فدعوهم فلم يستجيبوا لهم ..
ولم يكن منتظرا غير ذاك، ولكنه الإذلال والإعنات!
ورأوا العذاب ..
رأوه في هذا الحوار، ورأوه ماثلا وراءه؛ فليس وراء هذا الموقف إلا العذاب.
وهنا في اللحظة التي يصل فيها المشهد إلى ذروته يعرض عليهم الهدى الذي يرفضونه، وهو أمنية المتمني في ذلك الموقف المكروب: وهو بين أيديهم في الدنيا لو أنهم إليه يسارعون:
لو أنهم كانوا يهتدون ..
ثم يعود بهم إلى ذلك المشهد المكروب:
ويوم يناديهم فيقول، ماذا أجبتم المرسلين؟ ..
وإن الله ليعلم ماذا أجابوا المرسلين، ولكنه كذلك سؤال التأنيب والترذيل، وإنهم ليواجهون السؤال بالذهول والصمت، ذهول المكروب وصمت الذي لا يجد ما يقول:
فعميت عليهم الأنباء يومئذ فهم لا يتساءلون .
والتعبير يلقي ظل العمى على المشهد والحركة، وكأنما الأنباء عمياء لا تصل إليهم، وهم لا يعلمون شيئا عن أي شيء! ولا يملكون سؤالا ولا جوابا، وهم في ذهولهم صامتون ساكتون!
فأما من تاب وآمن وعمل صالحا فعسى أن يكون من المفلحين ..
وهذه هي الصفحة المقابلة، ففي الوقت الذي يبلغ الكرب ذروته بالمشركين، يتحدث عمن تاب وآمن وعمل صالحا، وما ينتظره من الرجاء في الفلاح، ولمن شاء أن يختار، وفي الوقت فسحة للاختيار!
[ ص: 2707 ] ثم يرد أمرهم وأمر كل شيء إلى إرادة الله واختياره; فهو الذي يخلق كل شيء، ويعلم كل شيء، وإليه مرد الأمر كله في الأولى والآخرة، وله الحمد في الأولى والآخرة وله الحكم في الدنيا وله الرجعة والمآب، وما يملكون أن يختاروا لأنفسهم ولا لغيرهم، فالله يخلق ما يشاء ويختار:
وربك يخلق ما يشاء ويختار، ما كان لهم الخيرة، سبحان الله وتعالى عما يشركون. وربك يعلم ما تكن صدورهم وما يعلنون. وهو الله لا إله إلا هو له الحمد في الأولى والآخرة، وله الحكم وإليه ترجعون ..
وهذا التعقيب يجيء بعد حكاية قولهم: إن نتبع الهدى معك نتخطف من أرضنا وبعد استعراض موقفهم يوم الحساب على الشرك والغواية، يجيء لتقرير أنهم لا يملكون الاختيار لأنفسهم فيختاروا الأمن أو المخافة! ولتقرير وحدانية الله ورد الأمر كله إليه في النهاية.