ويمضي سياق السورة في عرض تلك الارتباطات، وتحقيق دلالاتها في نظام الكون، وتثبيت مدلولاتها في القلوب.. يمضي سياق السورة في شوطين مترابطين:
في الشوط الأول يربط بين نصر المؤمنين والحق الذي تقوم عليه السماوات والأرض وما بينهما، ويرتبط به أمر الدنيا والآخرة. ويوجه قلوبهم إلى سنة الله فيمن مضى قبلهم من القرون. ويقيس عليها قضية البعث والإعادة. ومن ثم يعرض عليهم مشهدا من مشاهد القيامة وما يجري فيه للمؤمنين والكافرين. ثم يعود من هذه الجولة إلى مشاهد الكون، وآيات الله المبثوثة في ثناياه; ودلالة تلك المشاهد وإيحائها للقلوب. ويضرب لهم من أنفسهم ومما ملكت أيمانهم مثلا يكشف عن سخافة فكرة الشرك، وقيامها على الأهواء التي لا تستند إلى حق أو علم.. وينهي هذا الشوط بتوجيه الرسول - صلى الله عليه وسلم - إلى اتباع طريق الحق الواحد الثابت الواضح. طريق الفطرة التي فطر الناس عليها; والتي لا تتبدل ولا تدور مع الهوى; ولا يتفرق متبعوها فرقا وشيعا، كما تفرق الذين اتبعوا الهوى.
[ ص: 2756 ] وفي الشوط الثاني يكشف عما في طبيعة الناس من تقلب لا يصلح أن تقام عليه الحياة. ما لم يرتبطوا بمعيار ثابت لا يدور مع الأهواء، ويصور حالهم في الرحمة والضر، وعند بسط الرزق وقبضه. ويستطرد بهذه المناسبة إلى وسائل إنفاق هذا الرزق وتنميته. ويعود إلى قضية الشرك والشركاء فيعرضها من هذه الزاوية; فإذا هم لا يرزقون ولا يميتون ولا يحيون. ويربط بين ظهور الفساد في البر والبحر وعمل الناس وكسبهم، ويوجههم إلى السير في الأرض، والنظر في عواقب المشركين من قبل. ومن ثم يوجه الرسول - صلى الله عليه وسلم - إلى الاستقامة على دين الفطرة، من قبل أن يأتي اليوم الذي يجزى فيه كل بما كسبت يداه. ويعود بهم بعد ذلك إلى آيات الله في مشاهد الكون كما عاد بهم في الشوط الأول. ويعقب عليها بأن الهدى هدى الله; وأن الرسول - صلى الله عليه وسلم - لا يملك إلا البلاغ، فهو لا يهدي العمي ولا يسمع الصم. ثم يطوف بهم في جولة جديدة في ذات أنفسهم ويذكرهم بأطوار نشأتهم من بدئها إلى منتهاها، منذ الطفولة الواهنة الضعيفة إلى الموت والبعث والقيامة، ويعرض عليهم مشهدا من مشاهدها. ثم ينهي هذا الشوط ويختم معه السورة بتوجيه الرسول - صلى الله عليه وسلم - إلى الصبر على دعوته، وما يلقاه من الناس فيها; والاطمئنان إلى أن وعد الله حق لا بد آت فلا يقلقه ولا يستخفه الذين لا يوقنون.
وجو السورة وسياقها معا يتعاونان في تصوير موضوعها الرئيسي. وهو الكشف عن الارتباطات الوثيقة بين أحوال الناس، وأحداث الحياة، وماضي البشرية وحاضرها ومستقبلها، وسنن الكون ونواميس الوجود. وفي ظلال هذه الارتباطات يبدو أن كل حركة وكل نأمة، وكل حادث وكل حالة، وكل نشأة وكل عاقبة، وكل نصر وكل هزيمة.. كلها مرتبطة برباط وثيق، محكومة بقانون دقيق. وأن مرد الأمر فيها كله لله: لله الأمر من قبل ومن بعد . وهذه هي الحقيقة الأولى التي يؤكدها القرآن كله، بوصفها الحقيقة الموجهة في هذه العقيدة. الحقيقة التي تنشأ عنها جميع التصورات والمشاعر والقيم والتقديرات; والتي بدونها لا يستقيم تصور ولا تقدير..
والآن نأخذ في عرض السورة بالتفصيل:
الم. غلبت الروم في أدنى الأرض، وهم من بعد غلبهم سيغلبون. في بضع سنين. لله الأمر من قبل ومن بعد. ويومئذ يفرح المؤمنون بنصر الله، ينصر من يشاء، وهو العزيز الرحيم. وعد الله، لا يخلف الله وعده. ولكن أكثر الناس لا يعلمون. يعلمون ظاهرا من الحياة الدنيا، وهم عن الآخرة هم غافلون ..
" بدأت السورة بالأحرف المقطعة: " ألف. لام. ميم " التي اخترنا في تفسيرها أنها للتنبيه إلى أن هذا القرآن - ومنه هذه السورة - مصوغ من مثل هذه الأحرف، التي يعرفها العرب; وهو مع هذا معجز لهم، لا يملكون صياغة مثله، والأحرف بين أيديهم، ومنها لغتهم.
ثم جاءت النبوءة الصادقة الخاصة بغلبة الروم في بضع سنين. وقد روى بإسناده - عن ابن جرير - رضي الله عنه - قال: عبد الله بن مسعود - كانت فارس ظاهرة على الروم. وكان المشركون يحبون أن تظهر فارس على الروم. وكان المسلمون يحبون أن تظهر الروم على فارس، لأنهم أهل كتاب، وهم أقرب إلى دينهم. فلما نزلت: الم. غلبت الروم في أدنى الأرض، وهم من بعد غلبهم سيغلبون، في بضع سنين . قالوا:
يا إن صاحبك يقول: إن أبا بكر. الروم تظهر على فارس في بضع سنين. قال: صدق. قالوا: هل لك [ ص: 2757 ] أن نقامرك؟ فبايعوه على أربع قلائص إلى سبع سنين. فمضت السبع ولم يكن شيء. ففرح المشركون بذلك، فشق على المسلمين; فذكر ذلك للنبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: " ما بضع سنين عندكم؟ " قالوا:
دون العشر. قال: " اذهب فزايدهم وازدد سنتين في الأجل " . قال: فما مضت السنتان حتى جاءت الركبان بظهور الروم على فارس. ففرح المؤمنون بذلك.
وقد وردت في هذا الحادث روايات كثيرة. اخترنا منها رواية الإمام وقبل أن نتجاوز الحادث إلى ما وراءه في السورة من التوجيهات، نحب أن نقف أمام بعض إيحاءاته القوية. ابن جرير.
وأول هذه الإيحاءات ذلك الترابط بين الشرك والكفر في كل مكان وزمان أمام دعوة التوحيد والإيمان. ومع أن الدول قديما لم تكن شديدة الاتصال، والأمم لم تكن وثيقة الارتباط كما هو الشأن في عصرنا الحاضر. مع هذا فإن المشركين في مكة كانوا يحسون أن انتصار المشركين في أي مكان على أهل الكتاب هو انتصار لهم، وكان المسلمون كذلك يحسون أن هناك ما يربطهم بأهل الكتاب، وكان يسوءهم أن ينتصر المشركون في أي مكان; وكانوا يدركون أن دعوتهم وأن قضيتهم ليست في عزلة عما يجري في أنحاء العالم من حولهم، ويؤثر في قضية الكفر والإيمان.
وهذه الحقيقة البارزة هي التي يغفل عنها الكثيرون من أهل زماننا ولا ينتبهون إليها كما انتبه المسلمون والمشركون في عصر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - منذ حوالي أربعة عشر قرنا. ومن ثم ينحصرون داخل حدود جغرافية أو جنسية; ولا يدركون أن القضية في حقيقتها هي قضية الكفر والإيمان وأن المعركة في صميمها هي المعركة بين حزب الله وحزب الشيطان.
وما أحوج المسلمين اليوم في جميع بقاع الأرض أن يدركوا طبيعة المعركة، وحقيقة القضية، فلا تلهيهم عنها تلك الأعلام الزائفة التي تتستر بها أحزاب الشرك والكفر، فإنهم لا يحاربون المسلمين إلا على العقيدة، مهما تنوعت العلل والأسباب.
والإيحاء الآخر هو تلك الثقة المطلقة في وعد الله، كما تبدو في قولة رضي الله عنه - في غير تلعثم ولا تردد، والمشركون يعجبونه من قول صاحبه; فما يزيد على أن يقول: صدق. ويراهنونه فيراهن وهو واثق. ثم يتحقق وعد الله، في الأجل الذي حدده: أبي بكر - في بضع سنين .. وهذه الثقة المطلقة على هذا النحو الرائع هي التي ملأت قلوب المسلمين قوة ويقينا وثباتا في وجه العقبات والآلام والمحن، حتى تمت كلمة الله وحق وعد الله. وهي عدة كل ذي عقيدة في الجهاد الشاق الطويل.
والإيحاء الثالث هو في تلك الجملة المعترضة في مساق الخبر، من قول الله سبحانه: لله الأمر من قبل ومن بعد .. والمسارعة برد الأمر كله لله. في هذا الحادث وفي سواه. وتقرير هذه الحقيقة الكلية، لتكون ميزان الموقف وميزان كل موقف. فالنصر والهزيمة، وظهور الدول ودثورها، وضعفها وقوتها. شأنه شأن سائر م يقع في هذا الكون من أحداث ومن أحوال، مرده كله إلى الله، يصرفه كيف شاء، وفق حكمته ووفق مراده. وما الأحداث والأحوال إلا آثار لهذه الإرادة المطلقة التي ليس لأحد عليها من سلطان، ولا يدري أحد ما وراءها من الحكمة، ولا يعرف مصادرها ومواردها إلا الله. وإذن فالتسليم والاستسلام هو أقصى ما يملكه البشر أمام الأحوال والأحداث التي يجريها الله وفق قدر مرسوم.