ومن آياته منامكم بالليل والنهار وابتغاؤكم من فضله. إن في ذلك لآيات لقوم يسمعون ..
وهذه آية كذلك تجمع بين ظواهر كونية وما يتعلق بها من أحوال البشرية، وتربط بين هذه وتلك. وتنسق بينهما في صلب هذا الوجود الكبير.. تجمع بين ظاهرتي الليل والنهار ونوم البشر ونشاطهم ابتغاء رزق الله، الذي يتفضل به على العباد، بعد أن يبذلوا نشاطهم في الكد والابتغاء. وقد خلقهم الله متناسقين مع الكون الذي يعيشون فيه; وجعل حاجتهم إلى النشاط والعمل يلبيها الضوء والنهار، وحاجتهم إلى النوم والراحة يلبيها الليل والظلام. مثلهم مثل جميع الأحياء على ظهر هذا الكوكب على نسب متفاوتة في هذا ودرجات. وكلها تجد في نظام الكون العام ما يلبي طبيعتها ويسمح لها بالحياة.
إن في ذلك لآيات لقوم يسمعون .. والنوم والسعي سكون وحركة يدركان بالسمع. ومن ثم يتناسق هذا التعقيب في الآية القرآنية مع الآية الكونية التي تتحدث عنها على طريقة القرآن الكريم.
[ ص: 2765 ] ومن آياته يريكم البرق خوفا وطمعا، وينزل من السماء ماء فيحيي به الأرض بعد موتها إن في ذلك لآيات لقوم يعقلون ..
وظاهرة البرق ظاهرة ناشئة من النظام الكوني; ويعللها بعضهم بأنها تنشأ من انطلاق شرارة كهربائية بين سحابتين محملتين بالكهرباء، أو بين سحابة وجسم أرضي كقمة جبل مثلا. ينشأ عنها تفريغ في الهواء يتمثل في الرعد الذي يعقب البرق. وفي الغالب يصاحب هذا وذلك تساقط المطر نتيجة لذلك التصادم. وأيا ما كان السبب فالبرق ظاهرة ناشئة عن نظام هذا الكون كما خلقه البارئ وقدره تقديرا.
والقرآن الكريم حسب طبيعته لا يفصل كثيرا في ماهية الظواهر الكونية وعللها، إنما يتخذ منها أداة لوصل القلب البشري بالوجود وخالق الوجود. ومن ثم يقرر هنا أنها آية من آيات الله أن يريهم البرق خوفا وطمعا .. وهما الشعوران الفطريان اللذان يتعاوران النفس البشرية أمام تلك الظاهرة. شعور الخوف من الصواعق التي تحرق الناس والأشياء أحيانا عندما يبرق البرق. أو الخوف الغامض من رؤية البرق وما يوقعه في الحس من الشعور بالقوة المصرفة لهيكل هذا الكون الهائل. وشعور الطمع في الخير من وراء المطر الذي يصاحب البرق في معظم الأحوال، والذي عقب بذكره في الآية بعد ذكر البرق: وينزل من السماء ماء فيحيي به الأرض بعد موتها ..
والتعبير بالحياة والموت بالقياس إلى الأرض تعبير يخيل أن الأرض كائن حي، يحيا ويموت. وإنها لكذلك في حقيقتها التي يصورها القرآن الكريم. فهذا الكون خليقة حية متعاطفة متجاوبة، مطيعة لربها خاضعة خاشعة، ملبية لأمره مسبحة عابدة. والإنسان الذي يدب على هذا الكوكب الأرضي واحد من خلائق الله هذه، يسير معها في موكب واحد متجه إلى الله رب العالمين.
ذلك كله بالإضافة إلى أن الماء حين يصيب الأرض، يبعث فيها الخصب، فتنبت الزرع الحي النامي، وتموج صفحتها بالحياة المنبثقة في هذا النبات. ومن ثم في الحيوان والإنسان. والماء رسول الحياة؛ فحيث كان تكون الحياة.
إن في ذلك لآيات لقوم يعقلون .. فهنا للعقل مجال للتدبر والتفكير.
ومن آياته أن تقوم السماء والأرض بأمره، ثم إذا دعاكم دعوة من الأرض إذا أنتم تخرجون. وله من في السماوات والأرض كل له قانتون ..
وقيام السماء والأرض منتظمة سليمة مقدرة الحركات لا يكون إلا بقدرة من الله وتدبير. وما من مخلوق يملك أن يدعي أنه هو أو سواه يفعل هذا. وما من عاقل يملك أن يقول: إن هذا كله يقع بدون تدبير. وإذن فهي آية من آيات الله أن تقوم السماء والأرض بأمره، ملبية لهذا الأمر، طائعة له، دون انحراف ولا تلكؤ ولا اضطراب.
ثم إذا دعاكم دعوة من الأرض إذا أنتم تخرجون ..
ومن يرى هذا التقدير في نظام الكون، وهذه السلطة على مقدراته، لا يشك في تلبية البشر الضعاف لدعوة تصدر إليهم من الخالق القادر العظيم، بالخروج من القبور!
ثم يأتي الإيقاع الأخير ختاما لهذا التقرير; فإذا كل من في السماوات والأرض من خلائق قانتون لله طائعون.
وله من في السماوات والأرض كل له قانتون ..
[ ص: 2766 ] ولقد نرى أن الكثيرين من الناس لا قانتين لله ولا عابدين. ولكن هذا التقرير إنما يعني خضوع كل من في السماوات والأرض لإرادة الله ومشيئته التي تصرفهم وفق السنة المرسومة التي لا تتخلف ولا تحيد. فهم محكومون بهذه السنة ولو كانوا عصاة كافرين. إنما تعصي عقولهم وتكفر قلوبهم ولكنهم مع هذا محكومون بالناموس مأخوذون بالسنة، يتصرف فيهم خالقهم وفق ما يريد تصرفه بباقي العبيد وهم لا يملكون إلا الخضوع والقنوت.
ثم يختم تلك الجولة الضخمة الهائلة اللطيفة العميقة بتقرير قضية البعث والقيامة التي يغفل عنها الغافلون:
وهو الذي يبدأ الخلق ثم يعيده - وهو أهون عليه - وله المثل الأعلى في السماوات والأرض، وهو العزيز الحكيم ..
وقد سبق في السورة تقرير البدء والإعادة، وهو يعاد هنا بعد تلك الجولة العريضة ويضاف إليه جديد:
وهو أهون عليه .. وليس شيء أهون على الله ولا أصعب. إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له: كن. فيكون ولكنه إنما يخاطب الناس بحسب إدراكهم، ففي تقدير الناس أن بدء الخلق أصعب من إعادته، فما بالهم يرون الإعادة عسيرة على الله. وهي في طبيعتها أهون وأيسر؟!
وله المثل الأعلى في السماوات والأرض .. فهو سبحانه ينفرد في السماوات والأرض بصفاته لا يشاركه فيها أحد، وليس كمثله شيء، إنما هو الفرد الصمد.
وهو العزيز الحكيم .. العزيز القاهر الذي يفعل ما يريد. الحكيم الذي يدبر الخلق بإحكام وتقدير.
وعندما تنتهي تلك الجولة التي طوف فيها القلب البشري بتلك الآفاق والآماد، والأعماق والأغوار، والظواهر والأحوال، يواجهه سياق السورة بإيقاع جديد:
ضرب لكم مثلا من أنفسكم: هل لكم من ما ملكت أيمانكم من شركاء في ما رزقناكم. فأنتم فيه سواء، تخافونهم كخيفتكم أنفسكم؟ كذلك نفصل الآيات لقوم يعقلون ..
ضرب هذا المثل لمن كانوا يتخذون من دون الله شركاء خلقا من خلقه: جنا أو ملائكة أو أصناما وأشجارا.
وهم لا يرتضون أن يشاركهم مواليهم في شيء مما تحت أيديهم من مال. ولا يسوون عبيدهم بأنفسهم في شيء من الاعتبار. فيبدو أمرهم عجبا. يجعلون لله شركاء من عبيده وهو الخالق الرازق وحده. ويأنفون أن يجعلوا لأنفسهم من عبيدهم شركاء في مالهم. ومالهم ليس من خلقهم إنما هو من رزق الله. وهو تناقض عجيب في التصور والتقدير.
وهو يفصل لهم هذا المثل خطوة خطوة: ضرب لكم مثلا من أنفسكم ليس بعيدا عنكم ولا يحتاج إلى رحلة أو نقلة لملاحظته وتدبره.. هل لكم من ما ملكت أيمانكم من شركاء في ما رزقناكم فأنتم فيه سواء؟ .. وهم لا يرضون أن يشاركهم ما ملكت أيمانهم في شيء من الرزق فضلا على أن يساووهم فيه تخافونهم كخيفتكم أنفسكم .. أي تحسبون حسابهم معكم كما تحسبون حساب الشركاء الأحرار، وتخشون أن يجوروا عليكم، وتتحرجوا كذلك من الجور عليهم، لأنهم أكفاء لكم وأنداد؟ هل يقع شيء من هذا في محيطكم القريب وشأنكم الخاص؟ وإذا لم يكن شيء من هذا يقع فكيف ترضونه في حق الله وله المثل الأعلى؟
وهو مثل واضح بسيط حاسم لا مجال للجدل فيه، وهو يرتكن إلى المنطق البسيط وإلى العقل المستقيم: كذلك نفصل الآيات لقوم يعقلون ..
[ ص: 2767 ] وعند هذا الحد من عرض تناقضهم في دعوى الشرك المتهافتة، يكشف عن العلة الأصيلة في هذا التناقض المريب: إنه الهوى الذي لا يستند على عقل أو تفكير: