[ ص: 2817 ] (33) وآياتها ثلاث وسبعون سورة الأحزاب مدنية
بسم الله الرحمن الرحيم
يا أيها النبي اتق الله ولا تطع الكافرين والمنافقين إن الله كان عليما حكيما (1) واتبع ما يوحى إليك من ربك إن الله كان بما تعملون خبيرا (2) وتوكل على الله وكفى بالله وكيلا (3) ما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه وما جعل أزواجكم اللائي تظاهرون منهن أمهاتكم وما جعل أدعياءكم أبناءكم ذلكم قولكم بأفواهكم والله يقول الحق وهو يهدي السبيل (4) ادعوهم لآبائهم هو أقسط عند الله فإن لم تعلموا آباءهم فإخوانكم في الدين ومواليكم وليس عليكم جناح فيما أخطأتم به ولكن ما تعمدت قلوبكم وكان الله غفورا رحيما (5) النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم وأزواجه أمهاتهم وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله من المؤمنين والمهاجرين إلا أن تفعلوا إلى أوليائكم معروفا كان ذلك في الكتاب مسطورا (6) وإذ أخذنا من النبيين ميثاقهم ومنك ومن نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ابن مريم وأخذنا منهم ميثاقا غليظا (7) ليسأل الصادقين عن صدقهم وأعد للكافرين عذابا أليما (8)
هذه السورة تتناول قطاعا حقيقيا من حياة الجماعة المسلمة، في فترة تمتد من بعد غزوة بدر الكبرى، إلى ما قبل صلح الحديبية، وتصور هذه الفترة من حياة المسلمين في المدينة تصويرا واقعيا مباشرا. وهي مزدحمة بالأحداث التي تشير إليها خلال هذه الفترة، والتنظيمات التي أنشأتها أو أقرتها في المجتمع الإسلامي الناشئ.
[ ص: 2818 ] والتوجيهات والتعقيبات على هذه الأحداث والتنظيمات قليلة نسبيا; ولا تشغل من جسم السورة إلا حيزا محدودا، يربط الأحداث والتنظيمات بالأصل الكبير. أصل العقيدة في الله والاستسلام لقدره. ذلك كافتتاح السورة: يا أيها النبي اتق الله ولا تطع الكافرين والمنافقين، إن الله كان عليما حكيما. واتبع ما يوحى إليك من ربك إن الله كان بما تعملون خبيرا، وتوكل على الله وكفى بالله وكيلا. ما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه ... .. وكالتعقيب على بعض التنظيمات الاجتماعية في أول السورة: كان ذلك في الكتاب مسطورا. وإذ أخذنا من النبيين ميثاقهم ومنك ومن نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ابن مريم، وأخذنا منهم ميثاقا غليظا، ليسأل الصادقين عن صدقهم، وأعد للكافرين عذابا أليما .. والتعقيب على موقف المرجفين يوم الأحزاب التي سميت السورة باسمها. قل: لن ينفعكم الفرار إن فررتم من الموت أو القتل، وإذا لا تمتعون إلا قليلا. قل: من ذا الذي يعصمكم من الله إن أراد بكم سوءا أو أراد بكم رحمة؟ ولا يجدون لهم من دون الله وليا ولا نصيرا .. ومثل قوله في صدد أحد التنظيمات الاجتماعية الجديدة، المخالفة لمألوف النفوس في الجاهلية: وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم .. وأخيرا ذلك الإيقاع الهائل العميق: إنا عرضنا الأمانة على السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها، وأشفقن منها، وحملها الإنسان، إنه كان ظلوما جهولا ..
ولهذه الفترة التي تتناولها السورة من حياة الجماعة المسلمة سمة خاصة، فهي الفترة التي بدأ فيها بروز ملامح الشخصية المسلمة في حياة الجماعة وفي حياة الدولة; ولم يتم استقرارها بعد ولا سيطرتها الكاملة. كالذي تم بعد فتح مكة ودخول الناس في دين الله أفواجا، واستتباب الأمر للدولة الإسلامية، وللنظام الإسلامي.
والسورة تتولى جانبا من إعادة تنظيم الجماعة المسلمة، وإبراز تلك الملامح وتثبيتها في حياة الأسرة والجماعة; وبيان أصولها من العقيدة والتشريع; كما تتولى تعديل الأوضاع والتقاليد أو إبطالها; وإخضاعها في هذا كله للتصور الإسلامي الجديد.
وفي ثنايا الحديث عن تلك الأوضاع والنظم يرد الحديث عن غزوة الأحزاب، وغزوة بني قريظة، ومواقف الكفار والمنافقين واليهود فيهما، ودسائسهم في وسط الجماعة المسلمة، وما وقع من خلخلة وأذى بسبب هذه الدسائس وتلك المواقف. كما تعرض بعدها دسائسهم وكيدهم للمسلمين في أخلاقهم وآدابهم وبيوتهم ونسائهم.
ونقطة الاتصال في سياق السورة بين تلك الأوضاع والنظم وهاتين الغزوتين وما وقع فيهما من أحداث، هي علاقة هذه وتلك بمواقف الكافرين والمنافقين واليهود; وسعي هذه الفئات لإيقاع الاضطراب في صفوف الجماعة المسلمة. سواء عن طريق الهجوم الحربي والإرجاف في الصفوف والدعوة إلى الهزيمة; أو عن طريق خلخلة الأوضاع الاجتماعية والآداب الخلقية.. ثم ما نشأ من الغزوات والغنائم من آثار في حياة الجماعة المسلمة تقتضي تعديل بعض الأوضاع الاجتماعية والتصورات الشعورية; وإقامتها على أساس ثابت يناسب تلك الآثار التي خلفتها الغزوات والغنائم في واقع الجماعة المسلمة.
ومن هذا الجانب وذاك تبدو وحدة السورة، وتماسك سياقها، وتساوق موضوعاتها المنوعة. وهذا وذلك إلى جانب وحدة الزمن التي تربط بين الأحداث والتنظيمات التي تتناولها السورة.
تبدأ السورة ذلك البدء بتوجيه الرسول - صلى الله عليه وسلم - إلى تقوى الله وعدم الطاعة للكافرين [ ص: 2819 ] والمنافقين، واتباع ما يوحي إليه ربه، والتوكل عليه وحده. وهو البدء الذي يربط سائر ما ورد في السورة من تنظيمات وأحداث بالأصل الكبير الذي تقوم عليه شرائع هذا الدين وتوجيهاته. ونظمه وأوضاعه، وآدابه وأخلاقه.. أصل استشعار القلب لجلال الله، والاستسلام المطلق لإرادته; واتباع المنهج الذي اختاره، والتوكل عليه وحده والاطمئنان إلى حمايته ونصرته.
وبعد ذلك يلقي بكلمة الحق والفصل في بعض التقاليد والأوضاع الاجتماعية. مبتدئا بإيقاع حاسم يقرر حقيقة واقعة: ما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه .. يرمز بها إلى أن الإنسان لا يملك أن يتجه إلى أكثر من أفق واحد، ولا أن يتبع أكثر من منهج واحد، وإلا نافق، واضطربت خطاه. وما دام لا يملك إلا قلبا واحدا، فلا بد أن يتجه إلى إله واحد وأن يتبع نهجا واحدا وأن يدع ما عداه من مألوفات وتقاليد وأوضاع وعادات.
ومن ثم يأخذ في إبطال عادة الظهار - وهو أن فتحرم عليه حرمة أمه: يحلف الرجل على امرأته أنها عليه كظهر أمه وما جعل أزواجكم اللائي تظاهرون منهن أمهاتكم . ويقرر أن هذاالكلام يقال بالأفواه ولا ينشئ حقيقة وراءه، بل تظل الزوجة زوجة ولا تصير أما بهذا الكلام .. ويثني بإبطال وآثاره: عادة التبني وما جعل أدعياءكم أبناءكم فلا يعودون بعد اليوم يتوارثون، ولا تترتب على هذا التبني آثاره الأخرى (التي سنفصل الحديث عنها فيما بعد) . ويستبقى بعد ذلك أو ينشئ الولاية العامة لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - على المؤمنين جميعا; ويقدم هذه الولاية على ولايتهم لأنفسهم كما ينشئ صلة الأمومة الشعورية بين أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - وجميع المؤمنين: النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم وأزواجه أمهاتهم .. ثم يبطل آثار المؤاخاة التي تمت في أول الهجرة; ويرد الأمر إلى القرابة الطبيعية في الإرث والدية وما إليها: وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله من المؤمنين والمهاجرين . وبذلك يعيد تنظيم الجماعة الإسلامية على الأسس الطبيعية ويبطل ما عداها من التنظيمات الوقتية.