الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 2837 ] ثم يأخذ بعد هذا الإجمال في التفصيل والتصوير:

                                                                                                                                                                                                                                      إذ جاءوكم من فوقكم ومن أسفل منكم وإذ زاغت الأبصار، وبلغت القلوب الحناجر، وتظنون بالله الظنونا. هنالك ابتلي المؤمنون وزلزلوا زلزالا شديدا. وإذ يقول المنافقون والذين في قلوبهم مرض: ما وعدنا الله ورسوله إلا غرورا. وإذ قالت طائفة منهم: يا أهل يثرب لا مقام لكم فارجعوا. ويستأذن فريق منهم النبي، يقولون: إن بيوتنا عورة - وما هي بعورة. إن يريدون إلا فرارا ..

                                                                                                                                                                                                                                      إنها صورة الهول الذي روع المدينة، والكرب الذي شملها، والذي لم ينج منه أحد من أهلها. وقد أطبق عليها المشركون من قريش وغطفان واليهود من بني قريظة من كل جانب. من أعلاها ومن أسفلها. فلم يختلف الشعور بالكرب والهول في قلب عن قلب; وإنما الذي اختلف هو استجابة تلك القلوب، وظنها بالله، وسلوكها في الشدة، وتصوراتها للقيم والأسباب والنتائج. ومن ثم كان الابتلاء كاملا والامتحان دقيقا. والتمييز بين المؤمنين والمنافقين حاسما لا تردد فيه.

                                                                                                                                                                                                                                      وننظر اليوم فنرى الموقف بكل سماته، وكل انفعالاته، وكل خلجاته، وكل حركاته، ماثلا أمامنا كأننا نراه من خلال هذا النص القصير.

                                                                                                                                                                                                                                      ننظر فنرى الموقف من خارجه: إذ جاءوكم من فوقكم ومن أسفل منكم ..

                                                                                                                                                                                                                                      ثم ننظر فنرى أثر الموقف في النفوس: وإذ زاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر .. وهو تعبير مصور لحالة الخوف والكربة والضيق، يرسمها بملامح الوجوه وحركات القلوب.

                                                                                                                                                                                                                                      وتظنون بالله الظنونا .. ولا يفصل هذه الظنون. ويدعها مجملة ترسم حالة الاضطراب في المشاعر والخوالج، وذهابها كل مذهب، واختلاف التصورات في شتى القلوب.

                                                                                                                                                                                                                                      ثم تزيد سمات الموقف بروزا، وتزيد خصائص الهول فيه وضوحا: هنالك ابتلي المؤمنون وزلزلوا زلزالا شديدا .. والهول الذي يزلزل المؤمنين لا بد أن يكون هولا مروعا رعيبا.

                                                                                                                                                                                                                                      قال محمد بن مسلمة وغيره: كان ليلنا بالخندق نهارا; وكان المشركون يتناوبون بينهم، فيغدو أبو سفيان بن حرب في أصحابه يوما، ويغدو خالد بن الوليد يوما، ويغدو عمرو بن العاص يوما، ويغدو هبيرة بن أبي وهب يوما، ويغدو عكرمة بن أبي جهل يوما. ويغدو ضرار بن الخطاب يوما. حتى عظم البلاء وخاف الناس خوفا شديدا.

                                                                                                                                                                                                                                      ويصور حال المسلمين ما رواه المقريزي في إمتاع الأسماع. قال:

                                                                                                                                                                                                                                      ثم وافى المشركون سحرا، وعبأ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أصحابه فقاتلوا يومهم إلى هوي من الليل، وما يقدر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولا أحد من المسلمين أن يزولوا من موضعهم. وما قدر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على صلاة ظهر ولا عصر ولا مغرب ولا عشاء; فجعل أصحابه يقولون: يا رسول الله ما صلينا! فيقول. ولا أنا والله ما صليت! حتى كشف الله المشركين، ورجع كل من الفريقين إلى منزله، وقام أسيد بن حضير في مائتين على شفير الخندق، فكرت خيل للمشركين يطلبون غرة - وعليها خالد بن الوليد - فناوشهم ساعة، فزرق وحشي الطفيل بن النعمان بن خنساء الأنصاري السلمي بمزراق، فقتله كما قتل حمزة - رضي الله عنه - بأحد. وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يومئذ: " شغلنا [ ص: 2838 ] المشركون عن صلاة الوسطى صلاة العصر. ملأ الله أجوافهم وقلوبهم نارا " ..

                                                                                                                                                                                                                                      وخرجت طليعتان للمسلمين ليلا فالتقتا - ولا يشعر بعضهم ببعض، ولا يظنون إلا أنهم العدو. فكانت بينهم جراحة وقتل. ثم نادوا بشعار الإسلام! " حم. لا ينصرون " فكف بعضهم عن بعض. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " جراحكم في سبيل الله ومن قتل منكم فإنه شهيد " ..

                                                                                                                                                                                                                                      ولقد كان أشد الكرب على المسلمين، وهم محصورون بالمشركين داخل الخندق، ذلك الذي كان يجيئهم من انتقاض بني قريظة عليهم من خلفهم. فلم يكونوا يأمنون في أية لحظة أن ينقض عليهم المشركون من الخندق، وأن تميل عليهم يهود، وهم قلة بين هذه الجموع، التي جاءت بنية استئصالهم في معركة حاسمة أخيرة.

                                                                                                                                                                                                                                      ذلك كله إلى ما كان من كيد المنافقين والمرجفين في المدينة وبين الصفوف:

                                                                                                                                                                                                                                      وإذ يقول المنافقون والذين في قلوبهم مرض: ما وعدنا الله ورسوله إلا غرورا ..

                                                                                                                                                                                                                                      فقد وجد هؤلاء في الكرب المزلزل، والشدة الآخذة بالخناق فرصة للكشف عن خبيثة نفوسهم وهم آمنون من أن يلومهم أحد; وفرصة للتوهين والتخذيل وبث الشك والريبة في وعد الله ووعد رسوله، وهم مطمئنون أن يأخذهم أحد بما يقولون. فالواقع بظاهره يصدقهم في التوهين والتشكيك. وهم مع هذا منطقيون مع أنفسهم ومشاعرهم; فالهول قد أزاح عنهم ذلك الستار الرقيق من التجمل، وروع نفوسهم ترويعا لا يثبت له إيمانهم المهلهل! فجهروا بحقيقة ما يشعرون غير مبقين ولا متجملين!

                                                                                                                                                                                                                                      ومثل هؤلاء المنافقين والمرجفين قائمون في كل جماعة; وموقفهم في الشدة هو موقف إخوانهم هؤلاء. فهم نموذج مكرر في الأجيال والجماعات على مدار الزمان!

                                                                                                                                                                                                                                      وإذ قالت طائفة منهم: يا أهل يثرب لا مقام لكم فارجعوا ..

                                                                                                                                                                                                                                      فهم يحرضون أهل المدينة على ترك الصفوف، والعودة إلى بيوتهم، بحجة أن إقامتهم أمام الخندق مرابطين هكذا، لا موضع لها ولا محل، وبيوتهم معرضة للخطر من ورائهم.. وهي دعوة خبيثة تأتي النفوس من الثغرة الضعيفة فيها، ثغرة الخوف على النساء والذراري. والخطر محدق والهول جامح، والظنون لا تثبت ولا تستقر!

                                                                                                                                                                                                                                      ويستأذن فريق منهم النبي، يقولون: إن بيوتنا عورة ..

                                                                                                                                                                                                                                      يستأذنون بحجة أن بيوتهم مكشوفة للعدو. متروكة بلا حماية.

                                                                                                                                                                                                                                      وهنا يكشف القرآن عن الحقيقة، ويجردهم من العذر والحجة:

                                                                                                                                                                                                                                      وما هي بعورة ..

                                                                                                                                                                                                                                      ويضبطهم متلبسين بالكذب والاحتيال والجبن والفرار:

                                                                                                                                                                                                                                      إن يريدون إلا فرارا ..

                                                                                                                                                                                                                                      وقد روي أن بني حارثة بعثت بأوس بن قيظي إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقولون: إن بيوتنا عورة ، وليس دار من دور الأنصار مثل دورنا. ليس بيننا وبين غطفان أحد يردهم عنا، فأذن لنا فلنرجع [ ص: 2839 ] إلى دورنا، فنمنع ذرارينا ونساءنا. فأذن لهم - صلى الله عليه وسلم - فبلغ سعد بن معاذ ذلك فقال: يا رسول الله لا تأذن لهم. إنا والله ما أصابنا وإياهم شدة إلا صنعوا هكذا.. فردهم..

                                                                                                                                                                                                                                      فهكذا كان أولئك الذين يجيبهم القرآن بأنهم: إن يريدون إلا فرارا ..

                                                                                                                                                                                                                                      ويقف السياق عند هذه اللقطة الفنية المصورة لموقف البلبلة والفزع والمراوغة. يقف ليرسم صورة نفسية لهؤلاء المنافقين والذين في قلوبهم مرض. صورة نفسية داخلية لوهن العقيدة، وخور القلب، والاستعداد للانسلاخ من الصف بمجرد مصادفة غير مبقين على شيء، ولا متجملين لشيء:

                                                                                                                                                                                                                                      ولو دخلت عليهم من أقطارها، ثم سئلوا الفتنة لآتوها، وما تلبثوا بها إلا يسيرا ..

                                                                                                                                                                                                                                      ذلك كان شأنهم والأعداء بعد خارج المدينة ; ولم تقتحم عليهم بعد. ومهما يكن الكرب والفزع، فالخطر المتوقع غير الخطر الواقع، فأما لو وقع واقتحمت عليهم المدينة من أطرافها.. ثم سئلوا الفتنة وطلبت إليهم الردة عن دينهم لآتوها سراعا غير متلبثين، ولا مترددين " إلا قليلا " من الوقت، أو إلا قليلا منهم يتلبثون شيئا ما قبل أن يستجيبوا ويستسلموا ويرتدوا كفارا! فهي عقيدة واهنة لا تثبت; وهو جبن غامر لا يملكون معه مقاومة!

                                                                                                                                                                                                                                      هكذا يكشفهم القرآن; ويقف نفوسهم عارية من كل ستار.. ثم يصمهم بعد هذا بنقض العهد وخلف الوعد. ومع من؟ مع الله الذي عاهدوه من قبل على غير هذا; ثم لم يرعوا مع الله عهدا:

                                                                                                                                                                                                                                      ولقد كانوا عاهدوا الله من قبل لا يولون الأدبار. وكان عهد الله مسؤولا .

                                                                                                                                                                                                                                      قال ابن هشام من رواية ابن إسحاق في السيرة: هم بنو حارثة، وهم الذين هموا أن يفشلوا يوم أحد مع بني سلمة حين همتا بالفشل يومها. ثم عاهدوا الله ألا يعودوا لمثلها أبدا. فذكر لهم الذي أعطوا من أنفسهم.

                                                                                                                                                                                                                                      فأما يوم أحد فقد تداركهم الله برحمته ورعايته، وثبتهم، وعصمهم من عواقب الفشل. وكان ذلك درسا من دروس التربية في أوائل العهد بالجهاد. فأما اليوم، وبعد الزمن الطويل، والتجربة الكافية، فالقرآن يواجههم هذه المواجهة العنيفة.

                                                                                                                                                                                                                                      وعند هذا المقطع - وهم أمام العهد المنقوض ابتغاء النجاة من الخطر والأمان من الفزع - يقرر القرآن إحدى القيم الباقية التي يقررها في أوانها; ويصحح التصور الذي يدعوهم إلى نقض العهد والفرار:

                                                                                                                                                                                                                                      قل: لن ينفعكم الفرار إن فررتم من الموت أو القتل وإذا لا تمتعون إلا قليلا. قل: من ذا الذي يعصمكم من الله إن أراد بكم سوءا أو أراد بكم رحمة ولا يجدون لهم من دون الله وليا ولا نصيرا ..

                                                                                                                                                                                                                                      إن قدر الله هو المسيطر على الأحداث والمصائر، يدفعها في الطريق المرسوم، وينتهي بها إلى النهاية المحتومة. والموت أو القتل قدر لا مفر من لقائه، في موعده، لا يستقدم لحظة ولا يستأخر. ولن ينفع الفرار في دفع القدر المحتوم عن فار. فإذا فروا فإنهم ملاقون حتفهم المكتوب، في موعده القريب. وكل موعد في الدنيا قريب، وكل متاع فيها قليل ولا عاصم من الله ولا من يحول دون نفاذ مشيئته. سواء أراد بهم سوءا أم أراد بهم رحمة، ولا مولى لهم ولا نصير، من دون الله، يحميهم ويمنعهم من قدر الله.

                                                                                                                                                                                                                                      فالاستسلام الاستسلام. والطاعة الطاعة. والوفاء الوفاء بالعهد مع الله، في السراء والضراء. ورجع [ ص: 2840 ] الأمر إليه، والتوكل الكامل عليه. ثم يفعل الله ما يشاء.

                                                                                                                                                                                                                                      ثم يستطرد إلى تقرير علم الله بالمعوقين، الذين يقعدون عن الجهاد ويدعون غيرهم إلى القعود. ويقولون لهم: لا مقام لكم فارجعوا .. ويرسم لهم صورة نفسية مبدعة. وهي - على صدقها - تثير الضحك والسخرية من هذا النموذج المكرور في الناس. صورة للجبن والانزواء، والفزع والهلع. في ساعة الشدة. والانتفاش وسلاطة اللسان عند الرخاء. والشح على الخير والضن ببذل أي جهد فيه. والجزع والاضطراب عند توهم الخطر من بعيد.. والتعبير القرآني يرسم هذه الصورة في لمسات فنية مبدعة لا سبيل إلى استبدالها أو ترجمتها في غير سياقها المعجز:

                                                                                                                                                                                                                                      قد يعلم الله المعوقين منكم والقائلين لإخوانهم: هلم إلينا، ولا يأتون البأس إلا قليلا. أشحة عليكم. فإذا جاء الخوف رأيتهم ينظرون إليك تدور أعينهم كالذي يغشى عليه من الموت. فإذا ذهب الخوف سلقوكم بألسنة حداد. أشحة على الخير. أولئك لم يؤمنوا فأحبط الله أعمالهم وكان ذلك على الله يسيرا. يحسبون الأحزاب لم يذهبوا. وإن يأت الأحزاب يودوا لو أنهم بادون في الأعراب يسألون عن أنبائكم. ولو كانوا فيكم ما قاتلوا إلا قليلا ..

                                                                                                                                                                                                                                      ويبدأ هذا النص بتقرير علم الله المؤكد بالمعوقين الذين يسعون بالتخذيل في صفوف الجماعة المسلمة. الذين يدعون إخوانهم إلى القعود ولا يأتون البأس إلا قليلا ولا يشهدون الجهاد إلا لماما. فهم مكشوفون لعلم الله، ومكرهم مكشوف.

                                                                                                                                                                                                                                      ثم تأخذ الريشة المعجزة في رسم سمات هذا النموذج:

                                                                                                                                                                                                                                      " أشحة عليكم " ففي نفوسهم كزازة على المسلمين. كزازة بالجهد وكزازة بالمال، وكزازة في العواطف والمشاعر على السواء.

                                                                                                                                                                                                                                      فإذا جاء الخوف رأيتهم ينظرون إليك تدور أعينهم كالذي يغشى عليه من الموت ..

                                                                                                                                                                                                                                      وهي صورة شاخصة، واضحة الملامح، متحركة الجوارح، وهي في الوقت ذاته مضحكة، تثير السخرية من هذا الصنف الجبان، الذي تنطق أوصاله وجوارحه في لحظة الخوف بالجبن المرتعش الخوار!

                                                                                                                                                                                                                                      وأشد إثارة للسخرية صورتهم بعد أن يذهب الخوف ويجيء الأمن:

                                                                                                                                                                                                                                      فإذا ذهب الخوف سلقوكم بألسنة حداد ..

                                                                                                                                                                                                                                      فخرجوا من الجحور، وارتفعت أصواتهم بعد الارتعاش، وانتفخت أوداجهم بالعظمة، ونفشوا بعد الانزواء، وادعوا في غير حيء، ما شاء لهم الادعاء، من البلاء في القتال والفضل في الأعمال، والشجاعة والاستبسال..

                                                                                                                                                                                                                                      ثم هم: أشحة على الخير ..

                                                                                                                                                                                                                                      فلا يبذلون للخير شيئا من طاقتهم وجهدهم وأموالهم وأنفسهم; مع كل ذلك الادعاء العريض وكل ذلك التبجح وطول اللسان!

                                                                                                                                                                                                                                      وهذا النموذج من الناس لا ينقطع في جيل ولا في قبيل. فهو موجود دائما. وهو شجاع فصيح بارز حيثما كان هناك أمن ورخاء. وهو جبان صامت منزو حيثما كان هناك شدة وخوف. وهو شحيح بخيل على [ ص: 2841 ] الخير وأهل الخير، لا ينالهم منهم إلا سلاطة اللسان!

                                                                                                                                                                                                                                      أولئك لم يؤمنوا فأحبط الله أعمالهم ..

                                                                                                                                                                                                                                      فهذه هي العلة الأولى. العلة أن قلوبهم لم تخالطها بشاشة الإيمان، ولم تهتد بنوره، ولم تسلك منهجه.

                                                                                                                                                                                                                                      فأحبط الله أعمالهم .. ولم ينجحوا لأن عنصر النجاح الأصيل ليس هناك.

                                                                                                                                                                                                                                      وكان ذلك على الله يسيرا ..

                                                                                                                                                                                                                                      وليس هنالك عسير على الله، وكان أمر الله مفعولا..

                                                                                                                                                                                                                                      فأما يوم الأحزاب فيمضي النص في تصويرهم صورة مضحكة زرية:

                                                                                                                                                                                                                                      يحسبون الأحزاب لم يذهبوا ..

                                                                                                                                                                                                                                      فهم ما يزالون يرتعشون، ويتخاذلون، ويخذلون! ويأبون أن يصدقوا أن الأحزاب قد ذهبت، وأنه قد ذهب الخوف، وجاء الأمان!

                                                                                                                                                                                                                                      وإن يأت الأحزاب يودوا لو أنهم بادون في الأعراب يسألون عن أنبائكم ..

                                                                                                                                                                                                                                      يا للسخرية! ويا للتصوير الزري! ويا للصورة المضحكة! وإن يأت الأحزاب يود هؤلاء الجبناء لو أنهم لم يكونوا من أهل المدينة يوما من الأيام. ويتمنون أن لو كانوا من أعراب البادية، لا يشاركون أهل المدينة في حياة ولا في مصير. ولا يعلمون - حتى - ما يجري عند أهلها. إنما هم يجهلونه، ويسألون عنه سؤال الغريب عن الغريب! مبالغة في البعد والانفصال، والنجاة من الأهوال!

                                                                                                                                                                                                                                      يتمنون هذه الأمنيات المضحكة، مع أنهم قاعدون، بعيدون عن المعركة، لا يتعرضون لها مباشرة; إنما هو الخوف من بعيد! والفزع والهلع من بعيد! ولو كانوا فيكم ما قاتلوا إلا قليلا ..

                                                                                                                                                                                                                                      وبهذا الخط ينتهي رسم الصورة. صورة ذلك النموذج الذي كان عائشا في الجماعة الإسلامية الناشئة في المدينة ; والذي ما يزال يتكرر في كل جيل وكل قبيل. بنفس الملامح، وذات السمات.. ينتهي رسم الصورة وقد تركت في النفوس الاحتقار لهذا النموذج، والسخرية منه، والابتعاد عنه، وهوانه على الله وعلى الناس.

                                                                                                                                                                                                                                      ذلك كان حال المنافقين والذين في قلوبهم مرض والمرجفين في الصفوف، وتلك كانت صورتهم الرديئة. ولكن الهول والكرب والشدة والضيق لم تحول الناس جميعا إلى هذه الصورة الرديئة.. كانت هنالك صورة وضيئة في وسط الظلام، مطمئنة في وسط الزلزال، واثقة بالله، راضية بقضاء الله، مستيقنة من نصر الله، بعد كل ما كان من خوف وبلبلة واضطراب.

                                                                                                                                                                                                                                      ويبدأ السياق هذه الصورة الوضيئة برسول الله - صلى الله عليه وسلم.

                                                                                                                                                                                                                                      لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر، وذكر الله كثيرا ..

                                                                                                                                                                                                                                      وقد كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على الرغم من الهول المرعب والضيق المجهد، مثابة الأمان للمسلمين، ومصدر الثقة والرجاء والاطمئنان. وإن دراسة موقفه - صلى الله عليه وسلم - في هذا الحادث الضخم لما يرسم لقادة الجماعات والحركات طريقهم; وفيه أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر; وتطلب نفسه القدوة الطيبة; ويذكر الله ولا ينساه.

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 2842 ] ويحسن أن نلم بلمحات من هذا الموقف على سبيل المثال. إذ كنا لا نملك هنا أن نتناوله بالتفصيل.

                                                                                                                                                                                                                                      خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعمل في الخندق مع المسلمين. يضرب بالفأس، ويجرف التراب بالمسحاة، ويحمل التراب في المكتل. ويرفع صوته مع المرتجزين، وهم يرفعون أصواتهم بالرجز في أثناء العمل، فيشاركهم الترجيع! وقد كانوا يتغنون بأغان ساذجة من وحي الحوادث الجارية: كان هناك رجل من المسلمين اسمه جعيل، فكره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - اسمه، وسماه عمرا فراح العاملون في الخندق يغنون جماعة بهذا الرجز الساذج:


                                                                                                                                                                                                                                      سماه من بعد جعيل عمرا ... وكان للبائس يوما ظهرا



                                                                                                                                                                                                                                      فإذا مروا في ترجيعهم بكلمة " عمرو " ، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " عمرا " . وإذا مروا بكلمة " ظهر " قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " ظهرا " .

                                                                                                                                                                                                                                      ولنا أن نتصور هذا الجو الذي يعمل فيه المسلمون، والرسول - صلى الله عليه وسلم - بينهم، يضرب بالفأس، ويجرف بالمسحاة، ويحمل في المكتل، ويرجع معهم هذا الغناء. ولنا أن نتصور أية طاقة يطلقها هذا الجو في أرواحهم; وأي ينبوع يتفجر في كيانهم بالرضى والحماسة والثقة والاعتزاز.

                                                                                                                                                                                                                                      وكان زيد بن ثابت فيمن ينقل التراب. فقال - صلى الله عليه وسلم - أما إنه نعم الغلام! وغلبته عيناه فنام في الخندق. وكان القر شديدا. فأخذ عمارة بن حزم سلاحه، وهو لا يشعر. فلما قام فزع. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " يا أبا رقاد! نمت حتى ذهب سلاحك " ! ثم قال: " من له علم بسلاح هذا الغلام " ؟ فقال عمارة: يا رسول الله هو عندي. فقال: فرده عليه. ونهى أن يروع المسلم ويؤخذ متاعه لاعبا!

                                                                                                                                                                                                                                      وهو حادث كذلك يصور يقظة العين والقلب، لكل من في الصف، صغيرا أو كبيرا. كما يصور روح الدعابة الحلوة الحانية الكريمة: " يا أبا رقاد! نمت حتى ذهب سلاحك! " ويصور في النهاية ذلك الجو الذي كان المسلمون يعيشون فيه في كنف نبيهم، في أحرج الظروف..

                                                                                                                                                                                                                                      ثم كانت روحه - صلى الله عليه وسلم - تستشرف النصر من بعيد، وتراه رأي العين في ومضات الصخور على ضرب المعاول; فيحدث بها المسلمين، ويبث فيهم الثقة واليقين.

                                                                                                                                                                                                                                      قال ابن إسحاق : وحدثت عن سلمان الفارسي أنه قال: ضربت في ناحية من الخندق، فغلظت علي صخرة، ورسول اله - صلى الله عليه وسلم - قريب مني. فلما رآني أضرب، ورأى شدة المكان علي، نزل فأخذ المعول من يدي، فضرب به ضربة لمعت تحت المعول برقة. قال: ثم ضرب به ضربة أخرى، فلمعت تحته برقة أخرى. قال: ثم ضرب به الثالثة، فلمعت تحته برقة أخرى. قال: قلت: بأبي أنت وأمي يا رسول الله! ما هذا الذي رأيت، لمع المعول وأنت تضرب؟ قال: " أوقد رأيت ذلك يا سلمان " ؟ قال: قلت. نعم: قال: " أما الأولى فإن الله فتح علي بها اليمن. وأما الثانية فإن الله فتح علي بها الشام والمغرب. وأما الثالثة فإن الله فتح علي بها المشرق " ..

                                                                                                                                                                                                                                      وجاء في " إمتاع الأسماع للمقريزي " أن هذا الحادث وقع لعمر بن الخطاب بحضور سلمان. رضي الله عنهما.

                                                                                                                                                                                                                                      ولنا أن نتصور اليوم كيف يقع مثل هذا القول في القلوب، والخطر محدق بها محيط.

                                                                                                                                                                                                                                      ولنا أن نضيف إلى تلك الصور الوضيئة صورة حذيفة عائدا من استطلاع خبر الأحزاب; وقد أخذه القر [ ص: 2843 ] الشديد; ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - قائم يصلي في ثوب لإحدى أزواجه. فإذا هو في صلاته واتصاله بربه، لا يترك حذيفة يرتعش حتى ينتهي من صلاته بل يأخذه - صلوات الله وسلامه عليه - بين رجليه، ويلقي عليه طرف الثوب ليدفئه في حنو. ويمضي في صلاته. حتى ينتهي، فينبئه حذيفة النبأ، ويلقي إليه بالبشرى التي عرفها قلبه - صلى الله عليه وسلم - فبعث حذيفة يبصر أخبارها!

                                                                                                                                                                                                                                      أما أخبار شجاعته - صلى الله عليه وسلم - في الهول، وثباته ويقينه، فهي بارزة في القصة كلها، ولا حاجة بنا إلى نقلها، فهي مستفيضة معروفة.

                                                                                                                                                                                                                                      وصدق الله العظيم: لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر، وذكر الله كثيرا ..

                                                                                                                                                                                                                                      ثم تأتي صورة الإيمان الواثق المطمئن; وصورة المؤمنين المشرقة الوضيئة، في مواجهة الهول، وفي لقاء الخطر. الخطر الذي يزلزل القلوب المؤمنة، فتتخذ من هذا الزلزال مادة للطمأنينة والثقة والاستبشار واليقين:

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية