[ ص: 3004 ] (38) وآياتها ثمان وثمانون سورة ص مكية
بسم الله الرحمن الرحيم
ص والقرآن ذي الذكر (1) بل الذين كفروا في عزة وشقاق (2) كم أهلكنا من قبلهم من قرن فنادوا ولات حين مناص (3) وعجبوا أن جاءهم منذر منهم وقال الكافرون هذا ساحر كذاب (4) أجعل الآلهة إلها واحدا إن هذا لشيء عجاب (5) وانطلق الملأ منهم أن امشوا واصبروا على آلهتكم إن هذا لشيء يراد (6) ما سمعنا بهذا في الملة الآخرة إن هذا إلا اختلاق (7) أأنزل عليه الذكر من بيننا بل هم في شك من ذكري بل لما يذوقوا عذاب (8 ) أم عندهم خزائن رحمة ربك العزيز الوهاب (9) أم لهم ملك السماوات والأرض وما بينهما فليرتقوا في الأسباب (10) جند ما هنالك مهزوم من الأحزاب (11) كذبت قبلهم قوم نوح وعاد وفرعون ذو الأوتاد (12) وثمود وقوم لوط وأصحاب الأيكة أولئك الأحزاب (13) إن كل إلا كذب الرسل فحق عقاب (14) وما ينظر هؤلاء إلا صيحة واحدة ما لها من فواق (15) وقالوا ربنا عجل لنا قطنا قبل يوم الحساب (16)
هذه السورة مكية، تعالج من موضوعات السور المكية قضية التوحيد، وقضية الوحي إلى محمد - صلى الله عليه وسلم - وقضية الحساب في الآخرة. وتعريض هذه القضايا الثلاث في مطلعها الذي يؤلف الشوط الأول منها. وهو الآيات الكريمة التي فوق هذا الكلام. وهي تمثل الدهش والاستغراب والمفاجأة التي تلقى بها كبار المشركين في مكة دعوة النبي - صلى الله عليه وسلم - لهم إلى توحيد الله; وإخبارهم بقصة الوحي واختياره [ ص: 3005 ] رسولا من عند الله: وعجبوا أن جاءهم منذر منهم. وقال الكافرون هذا ساحر كذاب، أجعل الآلهة إلها واحدا: إن هذا لشيء عجاب. وانطلق الملأ منهم: أن امشوا واصبروا على آلهتكم إن هذا لشيء يراد. ما سمعنا بهذا في الملة الآخرة إن هذا إلا اختلاق. أأنزل عليه الذكر من بيننا؟ .. كما تمثل استهزاءهم واستنكارهم لما أوعدهم به جزاء تكذيبهم من عذاب: وقالوا: ربنا عجل لنا قطنا قبل يوم الحساب ..
لقد استكثروا أن يختار الله - سبحانه - رجلا منهم، لينزل عليه الذكر من بينهم. وأن يكون هذا الرجل هو محمد بن عبد الله. الذي لم تسبق له رياسة فيهم ولا إمارة! ومن ثم ساءلهم الله في مطلع السورة تعقيبا على استكثارهم هذا واستنكارهم وقولهم: أأنزل عليه الذكر من بيننا ساءلهم: أم عندهم خزائن رحمة ربك العزيز الوهاب؟ أم لهم ملك السماوات والأرض وما بينهما؟ فليرتقوا في الأسباب .. ليقول لهم: إن رحمة الله لا يمسكها شيء إذا أراد الله أن يفتحها على من يشاء. وإنه ليس للبشر شيء من ملك السماوات والأرض، وإنما يفتح الله من رزقه ورحمته على من يشاء. وإنه يختار من عباده من يعلم استحقاقهم للخير، وينعم عليهم بشتى الإنعامات بلا قيد ولا حد، ولا حساب.. وفي هذا السياق جاءت قصة داود وقصة سليمان; وما أغدق الله عليهما من النبوة والملك، ومن تسخير الجبال والطير، وتسخير الجن والريح، فوق الملك وخزائن الأرض والسلطان والمتاع.
وهما - مع هذا كله - بشر من البشر; يدركهما ضعف البشر وعجز البشر; فتتداركهما رحمة الله ورعايته، وتسد ضعفهما وعجزهما، وتقبل منهما التوبة والإنابة، وتسدد خطاهما في الطريق إلى الله.
وجاء مع القصتين توجيه النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى الصبر على ما يلقاه من المكذبين، والتطلع إلى فضل الله ورعايته كما تمثلهما قصة داود وقصة سليمان: اصبر على ما يقولون واذكر عبدنا داود ذا الأيد إنه أواب.. إلخ ..
كذلك جاءت قصة أيوب تصور ابتلاء الله للمخلصين من عباده بالضراء. وصبر أيوب مثل في الصبر رفيع. وتصور حسن العاقبة، وتداركه برحمة الله، تغمره بفيضها، وتمسح على آلامه بيدها الحانية.. وفي عرضها تأسية للرسول - صلى الله عليه وسلم - وللمؤمنين، عما كانوا يلقونه من الضر والبأساء في مكة ; وتوجيه إلى ما وراء الابتلاء من رحمة، تفيض من خزائن الله عند ما يشاء.
وهذا القصص يستغرق معظم السورة بعد المقدمة، ويؤلف الشوط الثاني منها.
كذلك تتضمن السورة ردا على استعجالهم بالعذاب، وقولهم: ربنا عجل لنا قطنا قبل يوم الحساب .. فيعرض بها - بعد القصص - مشهد من مشاهد القيامة، يصور النعيم الذي ينتظر المتقين. والجحيم التي تنتظر المكذبين. ويكشف عن استقرار القيم الحقيقية في الآخرة بين هؤلاء وهؤلاء. حين يرى الملأ المتكبرون مصيرهم ومصير الفقراء الضعاف الذين كانوا يهزأون بهم في الأرض ويسخرون، ويستكثرون عليهم أن تنالهم رحمة الله، وهم ليسوا من العظماء ولا الكبراء. وبينما المتقون لهم حسن مآب جنات عدن مفتحة لهم الأبواب، متكئين فيها يدعون فيها بفاكهة كثيرة وشراب. وعندهم قاصرات الطرف أتراب .. فإن للطاغين لشر مآب جهنم يصلونها فبئس المهاد. هذا فليذوقوه حميم وغساق، وآخر من شكله أزواج .. وهم يتلاعنون في جهنم ويتخاصمون، ويذكرون كيف كانوا يسخرون بالمؤمنين: وقالوا: ما لنا لا نرى رجالا كنا نعدهم من الأشرار. أتخذناهم سخريا أم زاغت عنهم الأبصار؟ فإنهم لا يجدونهم في جهنم. وقد عرف أنهم هنالك في الجنان! فهذا هو جواب ذلك الاستعجال والاستهزاء!
[ ص: 3006 ] وهذا المشهد يؤلف الشوط الثالث في السورة.
كما يرد على استنكارهم لما يخبرهم به الرسول - صلى الله عليه وسلم - من أمر الوحي. ويتمثل هذا الرد في قصة آدم في الملإ الأعلى. حيث لم يكن النبي - صلى الله عليه وسلم - حاضرا; إنما هو إخبار الله له بما كان، مما لم يشهده - غير آدم - إنسان.. وفي ثنايا القصة يتبين أن الذي أردى إبليس، وذهب به إلى الطرد واللعنة، كان هو حسده لآدم - عليه السلام - واستكثاره أن يؤثره الله عليه ويصطفيه. كما أنهم هم يستكثرون على محمد - صلى الله عليه وسلم - أن يصطفيه الله من بينهم بتنزيل الذكر; ففي موقفهم شبه واضح من موقف إبليس المطرود اللعين!
وتختم السورة بختام هذا الشوط الرابع والأخير فيها; بقول النبي - صلى الله عليه وسلم - لهم: إن ما يدعوهم إليه لا يتكلفه من عنده، ولا يطلب عليه أجرا، وإن له شأنا عظيما سوف يتجلى: قل ما أسألكم عليه من أجر وما أنا من المتكلفين. إن هو إلا ذكر للعالمين. ولتعلمن نبأه بعد حين ..
هذه الأشواط الأربعة التي تجري بموضوعات السورة هذا المجرى; تجول بالقلب البشري في مصارع الغابرين، الذين طغوا وتجبروا واستعلوا على الرسل والمؤمنين، ثم انتهوا إلى الهزيمة والدمار والخذلان: جند ما هنالك مهزوم من الأحزاب. كذبت قبلهم قوم نوح وعاد وفرعون ذو الأوتاد. وثمود وقوم لوط وأصحاب الأيكة أولئك الأحزاب. إن كل إلا كذب الرسل فحق عقاب ..
تعرض على القلب البشري هذه الصفحة. صفحة الهزيمة والدمار والهلاك للطغاة المكذبين. ثم تعرض بإزائها صفحة العز والتمكين والرحمة والرعاية لعباد الله المختارين، في قصص داود وسليمان وأيوب.
هذا وذلك في واقع الأرض.. ثم تطوف بهذا القلب في يوم القيامة وما وراءه من صور النعيم والرضوان. وصور الجحيم والغضب. حيث يرى لونا آخر مما يلقاه الفريقان في دار البقاء. بعد ما لقياه في دار الفناء..
والجولة الأخيرة في قصة البشرية الأولى وقصة الحسد والغواية من العدو الأول، الذي يقود خطى الضالين عن عمد وعن سابق إصرار. وهم غافلون.
كذلك ترد في ثنايا القصص لفتة تلمس القلب البشري وتوقظه إلى الحق الكامن في بناء السماء والأرض. وأنه الحق الذي يريد الله بإرسال الرسل أن يقره بين الناسفي الأرض. فهذا من ذلك: وما خلقنا السماء والأرض وما بينهما باطلا .. وهي لفتة لها في القرآن نظائر. وهي حقيقة أصيلة من حقائق هذه العقيدة التي هي مادة القرآن المكي الأصيلة..